تعيش قِيمُنا صراعًا حول ما آلت إليه من ضياعٍ وشروخٍ أدّت إلى صدعٍ في العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة الذين تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتّى، كلٍّ منهم مشغول بعالمه الخاص به، حتى وصل الحال إلى جفافٍ في المشاعر بين الأب وابنه والأم وابنتها، قد يؤدي في النهاية إلى عقوقٍ فجٍّ قد يقتل الأب أو الأم قبل أن يصلا إلى دار المسنين من فرط قهرهم وحزنهم.
لكنّ الغريب في الأمر، أنّ نرى عقوق الآباء للأبناء تزيد هي الأخرى الصدع في جنبات الأسرة.. والسؤال كيف نحافظ على المودة والرحمة بين أفراد الأسرة؟ وكيف ننشئ أجيالًا تُحب الآباء والعكس؟
الإسلام يُحذر من عقوق الآباء للأبناء
وحذّر الإسلام من عقوق الآباء للأبناء الذين هم زينة الحياة الدنيا وزهرتها ومتاعها، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].
وحُسْنُ تربية الأبناء أفضل من المال والثروة والتجارة، حيث يعود ذلك بالخير على الآباء والمجتمع، خصوصًا أنّ رعايتهم ليست مُهمّة ثانويّة، بل هي من الأمور التي شدّد الشرع الحنيف عليها، فعن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه عبد الله بن عمر قال: “كلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ” (رواه البخاري).
ولصلاح الأبوين أهمية كبيرة في ضبط ميزان التربية عند أبنائهما {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، وتأدِيب الأبناء مُنذ الصّغر فيه صلاح للمجتمع.
حقوق الأبناء على الآباء في الإسلام
جَعَل الله – سبحانه وتعالى – العلاقة بين الزوجين سكنًا ومودة ورحمة، حتى تستقيم الحياة، وينعم الأبناء في وجودهما بحياة مستقيمة هادئة، وأصبح لكل فرد فيها حقوق وعليه واجبات، ولقد وازنت الشريعة الإسلامية بين هذه الحقوق والواجبات.
وكما شدد الإسلام على حقوق الوالدين، فالأبناء – أيضًا – لهم حقوق لا بُد مِن أنْ يُوفّيها الآباء قبل أن يضجُّوا من الشكوى، فعن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “وإن لولدك عليك حقا” (رواه مسلم).
ويقول الدكتور محمد الزحيلي – أستاذ الفقه المقارن بجامعة الشارقة -: “قال بعض أهل العلم: إن الله – سبحانه وتعالى – يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11]، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تُحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف” (1).
وحقوق الأبناء على آبائهم تبدأ من قبل ولادتهم، وقد بيّن كثيرٌ من العلماء بعض هذه الحقوق، مستندين إلى كتاب الله وسُنّة نبيه، ومنها:
- اختيار الزوجة الصالحة، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك” (البخاري ومسلم)، وقال – صلى الله عليه وسلم -: “تخيَّروا لنُطَفِكم، فانكِحوا الأكفاءَ وأَنكِحوا إليهم” (أخرجه ابن ماجه والحاكم).
- أن يؤذِّنَ في أذنيه اليمنى حين يولد؛ ويقيم في أذنه اليُسرى، ويُحنّكه بتمرٍ أو ما يشبهه.
- حسن تسمية المولود، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ أحَبَّ أسْمائِكُمْ إلى اللهِ عبدُ اللهِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ” (رواه مسلم).
- النفقة، فحق الولد على أبيه أن ينفق عليه، ما دام صغيرًا، وما دام عاجزًا عن النفقة، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت” (رواه أبو داود).
- تأديبه وتعليمه القرآن والعبادات، فيأمره بطاعة الله، وينهاه عن محارم الله: قال – صلى الله عليه وسلم -: “مُروا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنينَ واضربوهُم عليها وهمْ أبناءُ عشرٍ وفرِّقوا بينهُم في المضاجعِ” (صحيح أبي داود).
- العدل بين الأبناء في المعاملة وفي كل شيء، فعن النعمان بن بشير قال: “تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي ببَعْضِ مَالِهِ، فَقالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بنْتُ رَوَاحَةَ: لا أَرْضَى حتَّى تُشْهِدَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَانْطَلَقَ أَبِي إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لِيُشْهِدَهُ علَى صَدَقَتِي، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أَفَعَلْتَ هذا بوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قالَ: لَا، قالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا في أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلكَ الصَّدَقَةَ” (صحيح مسلم).
لقد بيّن الإسلام حقوق الأبناء على آبائهم فلم يغفلها، لتظل العلاقة بين الطرفين في وئام وحب حتى بعد أن يكبر الأبناء ويصبحون هم أيضا آباء.
لماذا يعق الآباء أبنائهم؟
دعا الإسلام إلى الإحسان بالوالدين، بل ربط طاعتهم بطاعة الله سبحانه وتعالى، قال – عز وجل -: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23].
وعلى الجانب الآخر، حذّر من عقوق الآباء للأبناء، وأمر بحسن تربية ورعاية الصغار، لكن اختلال الموازين عند بعض الآباء يُؤدي إلى الجحود بينهم وبين أبنائهم، ما يعود بنتيجة سيئة على المجتمع.
وفي الأثر أنّ رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بابنه وقال: إن ابني هذا يعقني فقال عمر للابن: أما تخاف الله في عقوق والدك فإن من حق الوالد كذا؟، فقال الولد: يا أمير المؤمنين، أما كان للابن على والده حق؟ قال نعم، حقّه عليه أن يستنجب أمه، ويحسن اسمه، ويُعلمه الكتاب، فقال الابن: فولله ما استنجب أمي وما هي إلا سِنْديَّه اشتراها بأربعمائة درهم، ولا حسن اسمي سمَّاني جُعَلاً، ولا علمني من كتاب الله آية واحدة، فألتفت عُمر إلى الأب وقال: تقول ابني يعقني، فقد عققته قبل أن يعقك (2).
يقول الإمام ابن القيم: “فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوها صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا” (3).
كيف نحافظ على العلاقة بين الآباء والأبناء؟
يشهد العالم حاليا موجات متتالية من تغيّر أنماط تربية الأبناء، ما يحتم على الجميع تغيير أساليب التربية عما كانت عليه سابقًا، فالنية الحسنة لا تكفي وحدها مع متغيرات مستحدثة، سواء اجتماعيًّا أو تكنولوجيًّا أو أخلاقيًّا.
يقول محمد عبد الرحمن صادق – خبير تربوي – ردًّا على شكوى الآباء من تغيّر أحوال أبنائهم: “في عصر التكنولوجيا الحديثة، والسماوات المفتوحة، ودعاوى التحضر والتمدّن والتحرر، وتعدد النظريات والمدارس التربوية، ضجّ الآباء بالشكوى من الأبناء وتمردهم وعدم انصياعهم لما يُمليه عليِهم الآباء، هذه الشكوى مصحوبة بالترحّم على زمان مضى كان فيه.. وفيه.. وفيه.. مما يزيد الأبناء نفورًا وجموحًا خشية أن يرتدوا جلباب آبائهم عنوة ولا يستطيعون الخروج منه.
ويظل هذا الصراع قائمًا والمعركة سِجال ما لم نأخذ ضوابِطنا التربوية من نبعها الصافي – القرآن والسنة – أولاً، ثمّ من تجارب التربويين الثّقات ونظريات العلماء التي لا تتعارض مع أصول وثوابت وقيم ديننا الحنيف” (4).
ولتبقى العلاقة بين الطرفين على خير، يجب على الأبوين إدراك التغيّر في أساليب التربية، لأن الطُّرق القديمة قد لا تأتي بثمرة طيبة مع أجيال هذا الزمان.
ومن الأمور المهمة في التربية، تفهم الوالدين نفسيّة أبنائهم وتأثير الواقع عليها، فالأمر لا يتوقف عند توفير الاحتياجات المادية.
الاقتناع الخاطئ بأن لهم الكلمة العليا ولا رادّ لها من أبنائهم، يأتي بأثر سيء، فيجب التحاور والتشاور بينهما وخلق جوّ من المشاركة.
النظرة المثالية التي يتمناها الآباء في أبنائهم دون الانتباه أن لكلّ شخصية وضعها وقبولها التربوي وتأثرها به، لذا على الوالدين أن يتعاملوا مع واقع أبنائهم، ومدى قبولهم ورفضهم لما يُملى عليهم.
صور من عقوق الآباء للأبناء
تعدّدت صور عقوق الآباء للأبناء والمشكلة أن كثيرًا من الآباء لا يُدركونها ولا يعتبرون أنفسهم ظالمين لأبنائهم، بل كل ما يفعلونه في مصلحتهم، ومن أهم صورها:
- التفرقة في المعاملة: فربما يفضل الأب ابنا على باقي الأبناء لاعتبارات متنوعة، وهى صورة تُوضحها قصة يعقوب مع ابنه يوسف – عليهما السلام -.
- وقد ينتج عن خوف وزيادة قلق الوالدين على أبنائهم، أن يفرضوا عليهم الالتزام والتديّن فرضًا، دون الإقناع، فيتّهمون أبناءهم بأنهم مُنحلّون أو حياتهم لهو ولعب فقط، دون إدراك طبيعة مرحلة وسن كل واحد منهم.
- الديكتاتورية والاستبداد بالرأي، وأن ما يقوله الآباء فرض على الأبناء الالتزام به، دون النظر إلى أن لكل جيلٍ طبيعته ومتغيراته.
- اهتمام الوالدين بالمظهر والتجمل أمام الناس دون الجوهر، فيصبح الأولاد قوالب مصطنعة من أجل ما يريد الوالدان الظهور به أمام الناس (5).
أثر عقوق الوالدين للأبناء
ولعقوق الوالدين للأبناء أثر وخيم على المجتمع، فهو يُؤدي إلى تدمير شخصية الابن الذي يَرِث النموذج التربوي السّيء من والده فيطبّقه على أبنائه والآخرين خارج حدود أسرته، ما يُهدد المجتمع بالتفكك والانهيار.
ويؤدي هذا العقوق – أيضا – إلى ضعف شخصية الأبناء، وعدم قدرتهم على تحمّل المسؤولية.
بل يؤدي إلى كسر الإرادة عند الأبناء، فلا يستطيعون أداء العمل أو النهوض والتقدم بوطنهم.
سهولة وقوع الأبناء في قبضة المفسدين والضّالين والمجرمين ما يُشكل عبئًا على الأمن القومي (6).
كيف ننشر ثقافة البر بالأبناء؟
على الآباء أنْ يُدركوا أنّ لأبنائهم حقوق لا تقتصر على الطعام والشراب والأمور الماديّة فحسب، وهي حقوق كفلها الدين الحنيف، ويجب على الوالدين ألا يأخذوا من الدين وسيلة لابتزاز أبنائهم أو التسلط عليهم، فالتّشريع الحنيف رسّخ مبدأ العدل والإنصاف والعطاء بين الطرفين.
كما عليهم أنْ يتفهّموا أنّ التربية ليست وراثية، فما تربّوا عليه ليس شرطًا أن يتربى وينشأ عليه الأبناء.
وعليهم عدم المكابرة والاعتراف بالخطأ إذا أخطأوا، حتى يتعلم الأبناء ثقافة الإقرار بالخطأ (7).
المصادر
1 – محمد مصطفى الزحيلي: حقوق الأولاد على الوالدين في الشريعة الإسلامية، مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا.
2 – أميمة الجابر: عقوق الوالد لابنه، 5 جمادى الأول 1432هـ،
3 – ابن القيم الجوزية: تحفة المودود بأحكام المولود، طـ1، مجمع الفقه الإسلامي، جدة، 1431هـ، صـ229.
4 – محمد عبدالرحمن الصادق: عقوق الآباء للأبناء، 6 أكتوبر 2018،
5 – مسعود صبري: أيها الآباء ارحموا الأبناء، 5 نوفمبر 2015،
6 – جمال بن حويرب: عقوق الأبناء يؤدي إلى انهيار مؤكد للمجتمع، 17 ديسمبر 2012،
7 – معتصم علي: بين عقوق الآباء وعقوق الأبناء.. تأملات تربوية في واقعنا المعاصر، 11 سبتمبر 2020،