افتخر العالم الإسلامي في القرن العشرين بوجود العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الحلبي، أحد العلماء الثقات في علم الحديث، كما أحاط بالعلوم الشرعية، وملك زمام اللغة العربية والشعر والتاريخ، وكان له بصماته الواضحة في تربية الأجيال وتوجيه النشء.
لقد أثّر أبو غدة بأخلاقه وتربيته الإسلامية في أبناء جيله والشباب الذين تشرّبوا من صفاته الطيبة، فكان قدوة لهم في الكرم والحلم، والعفو عن المسيء، والترفع عن الدنايا وسفاسف الأمور، وعدم الغضب إلا لله، والصبر على الطاعة والابتلاء، والحرص على أداء الصلاة في وقتها، حيث ظل على ذلك حتى تُوفّي في 16 فبراير 1997.
نشأة عبد الفتاح أبو غدة وحياته العملية
في حي الجبيلة بمدينة حلب السورية، التي تُعد قلعة للعلم والعلماء في سوريا ومركزًا من مراكز العلم الذي انتشر في ربوع الأرض، وُلد الشيخ عبد الفتاح بن محمد بن بشير بن حسن أبو غدة الخالدي الحلبي في 17 من شهر رجب عام 1336هـ الموافق 9 مايو 1917م لأسرة أحبت العلم والعلماء وكانوا أحد رجالاته الذين جمعوا بين الدنيا والدين فامتَهنوا التجارة وصنع المنسوجات الغزلية.
وقد كان ولده يصحبه منذ صغره إلى مجالس العلم والعلماء ويُحبّبه فيهم ويحثه أن يكون واحدًا منهم فشبّ الفتى على حب العلماء، فشجع ذلك والده على دفعه للتعليم، وشعر الجدّ أن حفيده سيكون له شأن آخر، ولمس ذكاءه وتطلعه لطلب العلم فألحقه بالمدرسة العربية الإسلامية الخاصة، ثم المدرسة الخسروية، وهي مدرسة ثانوية شرعية، وبعد تخرجه لم يكتفِ بذلك بل شد الرحال لمصر حيث الأزهر.
ذهب عبد الفتاح أبو غدة إلى مصر للدراسة في الأزهر، فالتحق بكلية الشريعة حتى حصل على شهادة العالمية عام 1948م، وتخصص في أصول التدريس بكلية اللغة العربية في الأزهر وتخرج فيها عام 1950م قبل أن يعود إلى سوريا، وتتلمذ على أيدي الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ يوسف الدجوي، وعبد الله دراز وغيرهم من كبار العلماء بمصر(1).
وعمل الشيخ أبو غدة في حداثته بالنسيج مع والده وجده- رحمهما الله- ثم عمل أجيرًا مع الحاج حسن صباغ في سوق العبي، وتفرغ بعد ذلك للعلم والدراسة حتى تخرج في الأزهر وحينما عاد لوطنه عمل في التدريس، حيث تقدم سنة 1951 لمسابقة اختيار مدرسي التربية الإسلامية لدى وزارة المعارف فكان الناجح الأول، ودرَّس أحد عشر عامًا مادة التربية الإسلامية في ثانويات حلب.
وشارك في تأليف الكتب المدرسية المقررة لهذه المادة، ودرَّس إلى جانب ذلك في (المدرسة الشعبانية) وهي معهد شرعي أهلي متخصص بتخريج الأئمة والخطباء، ودرَّس في الثانوية الشرعية (الخسروية) التي تخرج فيها، ثم انتدب للتدريس في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ودرس فيها لمدة ثلاث سنوات (أصول الفقه)، و(الفقه الحنفي) و(الفقه المقارن بين المذاهب).
وأدار بعد ذلك موسوعة (الفقه الإسلامي) في كلية الشريعة بدمشق لنحو عامين، أتم خلالها كتاب (معجم فقه المحلى لابن حزم)، وكان قد سبقه للعمل فيه بعض الزملاء فأتمه، وأنهى خدمته، وطبعته جامعة دمشق في ضمن مطبوعاتها في مجلدين كبيرين.
وحمل على عاتقه عبء الدعوة إلى الله تعالى، فكان له نشاطه الدعوي وسط الناس، فنال ثقة العامة والخاصة، واحترام أقرانه، لورعه وتقواه وعلمه ورجاحة عقله وحكمته، فكان مرشدًا وسندًا وموئلًا، بل كان بشخصيته المتميزة وسلوكه القويم مدرسة دعوية حية متحركة، تتلمذ عليه فيها ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين، كلهم يفخر بأنه قد نال شرف الاغتراف من بحر علمه.
وفي عام 1965م انتقل إلى المملكة العربية السعودية، متعاقدًا مع جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض حيث عمل مدرسًا فيها، وفي المعهد العالي للقضاء، وأستاذًا لطلبة الدراسات العليا، ومشرفًا على الرسائل العلمية العالية، فتخرج به الكثير من الأساتذة والعلماء.
وعاد لوطنه فترة اعتقل فيها، ثم عاد للعمل في السعودية مرة أخرى منفيًا، حيث شارك خلال هذه الفترة (1385 – 1408هـ) (1965 -1988) في وضع خطط جامعة الإمام محمد بن سعود ومناهجها، واختير عضوًا في المجلس العلمي فيها، ولقي من إدارة الجامعة كل تكريم وتقدير.
وانتدب أستاذًا زائرًا لجامعة أم درمان الإسلامية في السودان ولمعاهد الهند وجامعاتها، وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات الإسلامية العلمية، التي تعقد على مستوى العالم الإسلامي، وكانت له جهود طيبة في جميع هذه المجالات. ثم عاد للعمل مع جامعة الملك سعود في الرياض وظل بها حتى عاد لوطنه عام 1995م(2).
عبد الفتاح أبو غدة والسياسة
كان لحب العلم والعلماء تأثير كبير في الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الذي حرص على التعرف إلى العلماء العاملين، فأثناء دراسته في مصر تأثر بدعوة الإمام حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين ما شجعه وبعض زملائه من سوريا على حمل هذا الفكر والعودة به إلى سوريا.
سار الشيخ مع إخوانه الدعاة في بلاد الشام يرفعون راية الإسلام ويخوضون كل ميدان من أجل نشر الوعي الإسلامي وتربية الجيل على منهج الإسلام وتحرير البلاد الإسلامية من سلطان الأجنبي والتصدي لموجة التغريب العلماني الوافدة من الغرب والفكر الماركسي والهجمة الصليبية الصهيونية(3).
ورغم أن الشيخ من أكابر العلماء الذين أجادوا تحقيق الكثير من التراث الإسلامي، فإنه امتلك قلب عالم عامل يفهم حقيقة الدين والدنيا، ورأى أن الدين يدخل في جميع مناحي الحياة، وهو ما شجعه على ولوج المجالس النيابية بسوريا وتعرض في سبيل ذلك للمحن والاعتقال على يد النظام البعثي الذي كان يرغب في تخندق العلماء داخل المساجد فقط والحديث عن هوامش الدين.
وانتخب الشيخ سنة 1382هـ/1961م نائبًا عن مدينة حلب، بأكثرية كبيرة، فنال بذلك ثقة مواطنيه، رغم تألب الخصوم عليه من كل الاتجاهات، ومحاولاتهم المستميتة للحيلولة بينه وبين الوصول إلى مجلس النواب السوري الذي حرص هو إخوانه على نصرة قضايا الإسلام والمسلمين من خلاله.
وتعرض أبو غدة للاعتقال بصحبة عدد من إخوانه وثلة من رجال العلم والفكر والسياسة في صيف 1386هـ/1966م، ومكث في سجن (تدمر) الصحراوي مدة أحد عشر شهرًا، حتى كانت كارثة الخامس من يونيو سنة 1967م فأفرجت الحكومة آنذاك عن جميع المعتقلين السياسيين، وكان الشيخ رحمه من بينهم(4).
جهود دعوية وعلمية
لم يقتصر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة على جوانب التأليف أو السياسة فحسب بل ارتقى المنابر داعيًا ومعلمًا فكانت له خطبة الجمعة الأسبوعية، على منبر الجامع الحموي أولًا، ثم جامع الثانوية الشرعية “الخسروية”.
وجلسة للتفقه في الدين بعد خطبة الجمعة فيها أسئلة وأجوبة، كما درّس الحديث والتربية والتهذيب بين مغرب وعشاء يوم الخميس في جامع سيف الدولة، ودرّس الفقه في جامع زكي باشا المدرس، والسيرة في جامع الصديق بالجميلية، إلى جانب هذه الدروس كان للشيخ لقاءات دورية مع علماء حلب ومدرسي التربية الدينية فيها للتشاور فيما يهم المسلمين في المدينة وما يتعلق بالتعليم فيها(5).
وكان للشيخ جهود مثمرة في مجال التأليف والتحقيق، حيث اتسمت أعماله بالعديد من المميزات ومنها:
- حرصه على تحقيق مسائل العلم وإتقان البحث والتدقيق في تجليتها وضبطها مما يهمله كثير من العلماء في عصرنا.
- تحسسه لأمانة العلم وحرصه البالغ على استثمار الوقت، ما أهله للنبوغ والتفوق وكثر إنتاجه.
- اعتناؤه التام بالأدب تعليمًا وتطبيقًا، فكان يتأدب مع الله بكثرة ذكره، ومع العلماء بتوقِيرهم ورفعهم لمكانتهم الحقيقية.
- ومن مزايا علمه [سعته وتنوعه- حرصه على التحقيق والإتقان فيه- إنصافه واستفادته من الجميع، فهو غير متعصِّب إلا لما يراه صوابًا، ويحرص على أن يدور مع الحق والدليل حسبما يرى، ولذلك أخذ من شيوخ متعدِّدي المشارب العلمية. ولكنه مع إنصافه لا يُحابي في دين الله](6).
يقول الدكتور يوسف القرضاوي فيه: اتصف الشيخ أبو غدة بالأناة والتثبُّت والتحري فيما يصدره من أحكام، معتمدًا في الغالب على أئمة هذا الشأن، وقد يناقشهم، ويضيفُ إليهم، ولكن هيهاتَ أن يخالفهم.
وقد بدأ نشاطه التأليفي ببعض ما كلفه به مشايخه وإخوانه من علماء الشام، مثل الإسهام في عمل موسوعة لِفقه الإمام ابن حزم الظاهري، مستنبطة من كتاب (المُحَلَّى) المطبوع في أحد عشر جزءًا.
كما بدأ يمارس بعض الأنشطة مثل عمل معجم لأحاديث النسائي في كتابه (المجتبى) أو (سنن النسائي الصغرى). وقد اهتم بعض العلماء بـ(سنن أبي داود)، وبعضهم (سنن الترمذي)، وبقي النسائي مع أهميته، فانتدب الشيخ ليقدم له خدمه بهذه الفهرسة، التي يسرت الانتفاع به للعلماء والباحثين(7).
وحظيت المكتبات بكثير من كتب الشيخ العلمية التي تظهر مدى ولعه بالدعوة، ومنها:
- الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1383-1963 بحلب.
- الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة للإمام اللكنوي، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1384-1964 بحلب.
- رسالة المسترشدين للإمام الحارث المحاسبي، وطبع 8 طبعات أولها سنة 1384-1964 بحلب، وترجم إلى اللغة التركية.
- التصريح بما تواتر في نزول المسيح لمحمد أنور الكشميري، وطبع 5 طبعات أولها سنة 1385-1965 بحلب.
- إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة للإمام اللكنوي، طبع بحلب سنة 1966-1386.
- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للإمام القرافي، وطبع طبعتان أولاهما سنة 1387-1967 بحلب.
- فتح باب العناية بشرح كتاب النقاية في الفقه الحنفي للملا علي القاري الهروي المكي، طبع الجزء الأول بحلب محققاً سنة 1387-1967، ولم يقدر للشيخ أن يتمه تحقيقاً ثم طبع في لبنان دون تحقيق.
- قاعدة في الجرح والتعديل للحافظ تاج الدين السبكي، وطبع 5 طبعات أولها ببيروت سنة 1388-1968.
- المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن قيم الجوزية، وطبع 5 طبعات أولها سنة 1389-1969 في بيروت.
- المصنوع في معرفة الحديث الموضوع للإمام ملا علي القاري، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1389-1969 بحلب.(8).
صفات تربوية
ووُصف الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بفضائل عدة، فقد بلغ من الكرم أقصى الغايات، وكان يحرص على إكرام ضيفه بما يستطيع، ويبذل في ذلك جهده وغايته.
وكان الشيخ حليمًا، يعفو ويصفح عمن أساء إليه، وأديبًا خلوقًا عفيفًا مترفعًا عن الدنايا وسفاسف الأمور، ولا يؤذي أحدًا بكلامه، بل يحترمه، ويثني عليه، ويختار في ذلك الألفاظ الراقية.
وكان ذواقة جدًا في ملبسه، ومشربه، ومسكنه، وكتبه ترتيبًا وكتابة وتأليفًا، حتى في صفة حذائه وتنعله، وهكذا تراه في كل حركة وسكنة عاقلًا ذواقًا.
ومن صفاته التي تربّت عليها أجيال، أنه كان عفيف اللسان لا يشتم أحدًا، ويشهد له في ذلك أولاده وأحبابه، وكان لا يغضب إلا إذا رأى أو سمع فُحشًا ومنكرًا، فغضبه دائمًا لله. وكان عفيف النفس لا يطلب من مسؤول أمرًا لذاته، وإنما لأحبابه وإخوانه.
واتصف الشيخ بالعقل الراجح الذي جعله لا يخرج الكلمة إلا بوزن وفي موضعها المناسب، ولا يقوم بأمر إلا ويزنه بعقله، وطالما أوصى أولاده بقوله: (استعمل عقلك في كل ما تقوم به).
ومع كل ذلك كان ظريفًا، وخفيف الروح، يمازح جلساءه بالقدر المناسب، ويضفي على مجلسه العلمي روح اللطافة والظرافة، بما يناسب مقام المجلس، ويخفف من وطأة الوقار، لكن في ظل التأدب والاحترام.
وكان صبورًا على الطاعة والابتلاء، حريصًا على الصلاة حرصًا شديدًا، مؤديًا لها في أول وقتها في الحضر والسفر، والتعب والمرض، غارسًا ذلك في أولاده وأحفاده، فإذا كان نائمًا أو متعبًا ونبه إلى الصلاة، انتفض، وقام مسرعًا، وطالما ذكر قصة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في وفاته، وقوله: (لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة)(9).
ظل الشيخ عالمًا عاملًا مجاهدًا صابرًا محتسبًا مربيً حتى تكالبت عليه الأمراض منذ وفاة أخيه عبد الغني الذي كان يحبه سنة 1974م، لكنه صمد حتى شعر بآلام في عينيه وضعف في نظره فعاد من حلب إلى الرياض ليتلقى العلاج عام 1996م، لكن سرعان ما اشتد عليه الوجع وأدخل على إثره مستشفى الملك فيصل التخصصي وتبين أنه ناتج عن نزيف داخلي بسبب مرض التهابي وما لبث أن لحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد 9 شوال 1417 هـ الموافق 16 فبراير 1997(10).
المصادر والمراجع:
- عبد الفتّاح أبو غُدّة: موقع الشيخ.
- عبد الفتاح أبو غُدّة: موقع مداد.
- محمد على الهاشمي، الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كما عرفته، دار البشائر الإسلامية، 2004م.
- موقع الشيخ أبو غدة: مرجع سابق.
- علي الحاج محمد علي: الجهود العلمية والدعوية للعلامة المحقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، مجلة بحوث العلوم الإسلامية، العدد 4، المجلد 2، خريف 2018، الجامعة العثمانية، صـ 149- 188.
- الشيخ حسن قاطرجي: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة لمحات من علمه وأدبه، 7 أغسطس 2018.
- يوسف القرضاوي: في وداع الأعلام، الدار الشامية للطباعة والنشر والتوزيع، استانبول، 2017م، صـ 380.
- مكتبة عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله.
- عمر العبسو: الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة، 5 مارس 2020.
- محمد بن عبد الله آل رشيد، إمداد الفتاح بأسانيد ومرويات للشيخ عبد الفتاح، ط 1، مكتبة الإمام الشافعي الرياض 1999م.