حسن الظن بالله تعالى يعني اعتقاد ما يليق به من أسماءٍ وصفاتٍ وأفعالٍ، وهي عبادة قلبية جليلة لا يتم إيمان العبد إلا بها، ويترتب عليها حسن السعي والحرص على عمل الطاعات والتقرب من الله، وقوة اليقين بما وعد الله تعالى عباده من سعة كرمه ورحمته.
والعبد الذي يُحسن الظّن بربه في كل شؤونه – سواء في السّراء أو الضّراء – يستطيع أن يُحوّل كل حياته إلى عبادة وطاعة لله ويشعر بالوَجل والخوف من الله – عز وجل – في كل كبيرة وصغيرة، بل ويجعله لا يقنط من رحمة الله ولا يصيبه اليأس والقنوط.
مفهوم حسن الظن بالله
وحُسن ظنّ العبد بربّه، يُطمئن قلبه بموعود الله ورحمته، وقد فسر ذلك الإمام النووي في شرح الإمام مسلم بقوله: “قال العلماء: معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه، ويعفو عنه. قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفًا راجيًا، ويكونان سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح، فإذا دنت أمارات الموت، غلب الرجاء، أو محْضه؛ لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات، وقد تعذر ذلك، أو معظمه في هذه الحال، فاستحبّ إحسان الظن، المتضمن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له (1).
حسن الظن بالله في القرآن والسنة
حسن الظن بالله – عز وجل – انعكاس لرضى العبد بكل ما أعطاه الله – سبحانه وتعالى – وصِدق التوكّل عليه في كل أمر من أمور حياته.
ولقد اعتنى القرآن الكريم والسنة النبوية بغرس هذه القيمة في قلب كل مُسلم لتؤتي ثمارها من رضا ويقين وحسن توكل على الله، ولتكون حائط صد أمام القنوط والتشاؤم وعدم الرضى والمعاصى.
يقول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ*الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45-46].
ويقول عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ*إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة:19-21].
كما أوضحت آيات أخرى خطورة سوء الظن بالله وعقُوبته في الدنيا والآخرة، ما يدل على وجوب الرضى بما قسمه الله. يقول تبارك وتعالى: {… الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].
ويقول سبحانه: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154].
وفي الحديث القدسي، يقولُ اللَّهُ تَعالَى: “أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي” (البخاري).
ولقد شدّد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ضرورة حُسْن الظّن به، فقال فيما رواه جابر بن عبد الله “سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قَبْلَ وَفَاتِهِ بثَلَاثٍ يقولُ: لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهو يُحْسِنُ باللَّهِ الظَّنَّ” (صحيح مسلم).
لماذا نُحْسِن الظَّنَّ بالله؟
يتعامل الإنسان مع نفسه في بعض الأمور بالمكسب والخسارة، وهو ما يجعل البعض يتساءل: لماذا أُحسِن الظّن بالله؟
يُجيب عن هذا السؤال الإمام ابن القيم بهذه الكلمات: “ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإن المُحسن حَسَن الظَّنَّ بربه أن يُجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده، ويقبل توبته.
وأما المسيء المُصِر على الكبائر والظلم والمخالفات، فإن وحشة المعاصي والظلم والإجرام: تمنعه من حُسْنِ الظَّنّ بربه، وهذا موجود في الشاهد، فإن العبد الآبق المسيئ الخارج عن طاعة سيده لا يُحسِن الظّن به. ولا يجامع وحشة الإساءة إحسان الظن أبدا، فإن المسيء مستوحش بقدر إساءته. وأحسن الناس ظنا بربه: أطوعهم له” (2).
نماذج تربوية في حسن الظن بالله
تجلّت نماذج كثيرة في حسن الظن بالله – سبحانه وتعالى -، ومنها ما وَرَدَ عن نبي الله موسى – عليه السلام – حينما خَرَج مع بني إسرائيل هربًا من فرعون وقومه تجاه البحر، حتى جزع قومه فنطقوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، فجاءت كلماته مُعبّرة عن اليقين في الله: { قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
وهذا موقف لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – مع صديقه أبو بكر الصديق أثناء الهجرة النبوية بعدما أوى إلى غار ثور اختباءً من كفار مكة المطاردين لهما، حيث جاءت كلمات أبو بكر عفوية: “يا نَبِيَّ اللَّهِ، لو أنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنا”، فكانت إجابة رسول الله مفعمة بحُسْنِ الظّنّ بالله: “ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!” (البخاري).
ومن أروع الأمثلة التي وَرَدَتْ عن حُسن ظَنّ الصحابة في الله – جل وعلا – قصة بلال مؤذن الرسول، الذي كان يُعذّب ويُضرب، ويَضَع الكفار الحجارة على ظهرِه وهو يُردّد بثباتٍ وصبرٍ “أَحَد أَحَد”، إن ثباته وصبره ما هُما إلا حُسن ظَنّ بنصر الله له وأن الله سيكافئه على هذا الصبر (3).
كيف نُحْسِن الظّنّ بالله؟
لا يحتاج حسن الظن بالله إلى جُهد جَهيد، لكن يحتاج إلى قلبٍ حيّ وإيمانٍ بالله، وهو ما يجعل المسلم يتعهّد قلبه ونفسه وأعماله ويراقبهم، ومن المعينات على حُسن الظّن بالله:
- معرفة أسماء الله الحسنى معرفة إيمانية بكل اسم.
- تيقّن العبد أن كل الأمور تجري بقضاء الله وقدره، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
- اجتناب المعاصي ما كبر منها وما صغر وتعظيم الله في القلب والاستغفار الدائم.
- إدراك العبد أن الله وَحده بيده خزائن السماوات والأرض، وهو القادر على التصرّف في شؤون خلقه.
- الصبر على المِحَن والَبلاء واليقين في نصر الله (4).
الأخذ بالأسباب وحُسن الظّن
لا يتعارض أبدًا حسن الظن بالله سبحانه، مع الأخذ بالأسباب والعمل، فالأول يدفع المسلم إلى حُسن العمل والسعي والأخذ بالأسباب مع اليقين في الله وليس في الأسباب.
والعمل بسُنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى، يقول الدكتور صبري عبد الرؤوف – أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر : “فإنَّ حُسْن الظّنّ بالله يستلزم حُسن العمل والأخذ بأسباب العلم والعقل” (5).
ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – رغم حُسن ظَنّه في ربه، أحسن التخطيط والاختيار أثناء رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة، فاختيار مَن ينام مكانه، ومن يرافقه، والذي يكون دليله في الطريق، وكذلك من يتفاوض مع من يطارده، كلها أسباب مع يقينه بنصر الله: “ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا!” (البخاري).
وحُسْن الظّنّ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحُسن العمل، لكن الغريب أن بعض المفاهيم المغلوطة تملكت بعض قلوب المسلمين، وهي أن كونهم يُحسنون الظّن بالله وبرحمته فهذا يكفي لنجاتهم، وليس شرطًا إقامة الفرائض واجتناب النواهي، بل البعض يظن أنه ما دام ينطق شهادة ألا إله إلا الله قولا فهذا يُنجيه من العذاب دون التعب في الطاعات والبعد عن المعاصي، يقول الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50].
ويقول الإمام ابن القيم: “وقد تبيّن الفرق بين حُسْن الظّنّ والغرور، وأن حُسن الظّنّ إن حَمَل على العمل وحثّ عليه وساعده وساق إليه: فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي: فهو غرور” (6).
وروى الطبراني عن الحسن البصري أنه قال: “إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة، يقول أحدهم: إني لحَسَن الظّنّ بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسَنَ الظّنّ بالله لأحسَنَ العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك” (7).
كيف نُحْسِن الظّنّ بالله ونُحسن العمل؟
سَهّل الله -تبارك وتعالى – أمور الطاعة على مَن سَلَكَ طريقها وسعى إلى بلوغها، واجتهد في فهمها والعمل على أساسها، والتزم أوامر مولاه سبحانه. والمسلم يقع بين علو الهمة ودنوها في الأخذ بأمور دينه لكن عليه أن يجتهد ولا ينساق وراء شيطانه ودعواته، ومن هذه المعينات:
- اليقين بسعة رحمة الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل في الحديث القدسي: “أنا عند ظنِّ عبدِي بي إنْ ظنَّ خيرًا فلهُ، وإنْ ظنَّ شرًّا فلهُ” (البخاري ومسلم والترمذي).
- القراءة في سُنّة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وسيرته حول حسن الظن بالله، والذي قال لأصحابه: “لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسنُ الظنَّ بالله عزَّ وجلَّ” (مسلم).
- إدراك المسلم أنّ حُسنَ الظنّ بالله يجعله يطمئنُّ إلى ركن الله؛ فهو سبحانه لا يضيع رجاء عباده، ولا ينسى أملهم وثقتهم برحمته وفضله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].
- يجب على المسلم عدم القنوط من رحمة الله مهما بلغت الذنوب والتيقن أن الله يقبل توبته: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] (8).
تربية الأولاد على حُسن الظّن بالله
إن غياب حسن الظن بالله يجر الوبال على صاحبه ويصيب ذلك من يرعاهم، خصوصا إن لم يجد الأطفال القدوة الصالحة في آبائهم وأمهاتهم، فالأبَوان إمّا أن يُقوّمَا السلوك والمفاهيم، وإمّا أن يُشوّها كل ذلك بما يحملانه من تصورات، فتحولت أنظار الناس من رؤية المنح في الابتلاء إلى يأس وقنوط.
ويُمكننا أن نغرس هذه القيمة الغالية في نفوس وقلوب الأبناء، بهذه الطُّرق:
- الرفق واللين في تعليمهم هذه الصفات الحميدة وعدم أخذهم بالشدة.
- القدوة الحسنة التي هي الأساس المتين، والركن الركين في كل جوانب التربية، وفي جملتها غرس حُسن الظّنّ في نفوس الناشئة.
- بيان المعنى الصحيح لحُسْن الظّنّ للأبناء، كما أحسن الظن أنت حينما تجد ما لا يسرّك منهم أن الله سيهديهم ويأخذ على أيديهم.
- عرض هذه القيمة بطريقة محببة إلى الأطفال مع استعمال الجانب القصصي والواقعي الذي يدعمها.
- بيان فضل الله – سبحانه وتعالى – وعظيم رحمته التي وسعت كل شيء وأنه يقبل توبة العبد إذا أحسن الظّنّ وتاب لله وعمل صالحا (9).
المصادر
- ابن شرف النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، جـ9، طـ2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1392هـ/ 1972م، صـ256.
- ابن القيم الجوزية: الجواب الكافي: لمن سأل عن الدواء الشافي، دار الأرقم، بيروت، 2016، صـ37.
- يوسف بن عبد البر النمري: الدرر في اختصار المغازي والسير، دار الكتب العلمية، بيروت، 1984، صـ44.
- كيف يكون حسن الظن بالله: 14 نوفمبر 2018،
- إسلام لطفى: الأخذ بالأسباب من حسن الظن بالله، 21 مارس 2020،
- ابن القيم الجوزية: الجواب الكافي، مرجع سابق، صـ24.
- ابن كثير: البداية والنهاية، جـ9، دار الكتب العلمية، بيروت، 2015، صـ283.
- هادي فهمي: كيف حسن الظن بالله، 12 نوفمبر 2017،
- مرهف حسين أسد: أطفالنا… وحسن الظن بالله،