لقد أصبحت ظاهرة الطلاق تُهدد كيان الأُسَر في كل العالم، وقد كانت منتشرة في المجتمعات الغربية بشكل كبير لم تعهده المجتمعات العربية أو الإسلامية، لكن مؤخرا شهدت المجتمعات العربية أرقاما مفزعة لحالات الطلاق؛ نتيجة أسباب عديدة على رأسها الابتعاد عن تعاليم الإسلام التي تحرص في المقام الأول على وحدة الأسرة وعدم تفككها، والعيش في حياة مستقرة هادئة تسودها السعادة والبهجة والأمن والطمأنينة.
مشروعية الطلاق في الإسلام
الطلاق حدٌّ من حدود الله، ومع ذلك فإننا نرى تساهلًا واستخفافًا في كثير من الأزواج به، لهذا جاء التحذير من تجاوز حدوده، فقال تعالى: {وإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ولا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ومَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ والْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231).
ومع ذلك فقد اتّفق الفقهاء على مشروعيّته؛ ودلّ على على ذلك القرآن الكريم والسنة النبويّة والإجماع، قال الله- تعالى-: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وقال الله- تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
وثبت عن النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (مَا أَحَل اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلاَقِ) (رواه أبو داود)، وقد ثبت عن ابن عمر- رضيَ الله عنهما- أنّه طلّق زوجته وهيَ حائض، فأخبره النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- أن يراجعها ويُطلّقها في غير فترة الحيض.
وتعدّدت آراء العلماء في أصل مشروعيّة طلاق الزوجين، فذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأنّ الأصل في حكمه الإباحة، وذهب بعضهم إلى القول بأنَّ الأصل في حكمه الحظر، واتَّفق الفقهاء على أنّه يتغيّر حكمه بتغيّر الحالة، فقد يكون مباحًا، أو مندوبًا، أو واجبًا، أو مكروهًا، أو محرمًا.
معدلات الطلاق في الدول العربية
وفي الوقت الحاضر، كثرت حالات الطلاق حتى صارت ظاهرة، ومع انتشار تلك الظاهرة المخيفة التي تنهش في كيان الأسر والمجتمعات، تاركة وراءها آثارًا مدمرة، فإننا نستعرض بالأرقام بعض الإحصائيات عن شيوع تلك الظاهرة في بعض المجتمعات العربية والإسلامية:
ففي مصر ووفقًا لأحدث الإحصائيات الصادرة عن مركز معلومات دعم واتخاذ القرار بمجلس الوزراء في دراسة بهذا الخصوص عن تفسخ العلاقات الأسرية وانهيار الروابط العائلية، فقد ارتفعت معدلات الانفصال بين الأزواج حتى أصبحت مصر في مرتبة متقدمة من 7% إلى 40% خلال الخمسين عامًا الماضية ما يعني وقوع نحو 240 حالة طلاق يوميًا، بواقع حالة طلاق واحدة كل 6 دقائق، ووصل عدد المطلقات في مصر نحو 2.5 مليون مطلقة تقريبًا.
ووصل إجمالي عدد صكوك الطّلاق في السعودية، حسب ما جاء في بيانات الهيئة العامة السعودية للإحصاء إلى 57 ألفا و595 صكا، خلال الشهور الأخيرة من عام 2020، مرتفعة عن عام 2019 بنسبة 12.7%.
وارتفعت الحالات في المملكة عام 2022 عن الأعوام السابقة فقد كان عدد الحالات في عام 2010 هي 9233 حالة، وحسب التقارير في العام الحالي فإن هناك 7 حالات طلاق تتم كل ساعة في البلاد، ما يجعل أنه مقابل كل 10 حالات زواج هناك 3 حالات طلاق.
وفي الإمارات العربية المتحدة بلغت نسبة الطّلاق العام الماضي 36%، وكانت أعلى المعدلات في الشريحة العمرية من 20 إلى 30 عامًا؛ حيث بلغت نسبة المطلقين في تلك المرحلة السنية إلى 42% من إجمالي عدد المطلقين، وتنخفض الحالات بالنسبة للإناث بعد 39 سنة، بينما تصل عند الرجال إلى معدلات متقاربة بعد سن الـ 50 عامًا.
وفي الكويت هناك أكثر من 15 ألف مطلقة دون الرابعة والعشرين من العمر، وقد بلغت عدد الحالات اليومية 18 حالة، وبهذا تجاوزت النسبة 42% حسب إحصائيات وزارة العدل الكويتية.
وفي قطر أكدت دراسة تناولت الظاهرة في المجتمع أن النسبة قد بلغت 31.8% عام 2000م، في حين أوضحت دراسة أخرى في عام 2003م وجود 319 حالة طلاق مقابل 978 حالة زواج، وأن أكبر نسبة من المطلقين 27% تتركز في الفئة العمرية 25-29 سنة، و19% تتركز في الفئة العمرية 30-42 سنة.
أسباب ظاهرة الانفصال الزوجي
وتتعدد أسباب الطلاق في المجتمعات الإسلامية والعربية، ويمكن الإشارة إلى ذكر بعضها في النقاط التالية:
- البعد عن الدين: فكثير من شباب الجنسين لا يلتزم عند اختيار شريك حياته بالضوابط التي حثنا عليها رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: “تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك” (مسلم)، ويقول: “إذا أتاكم مَن ترضونَ خلقَهُ ودينَهُ فزوِّجوهُ إلَّا تفعلوا تَكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ” (ابن ماجه).
- غياب الدور التوجيهي للآباء والأمهات: فيظن بعض الآباء والأمهات أن دوره التربوي أو التوجيهي ينتهي بزواج ابنه أو ابنته، ناهيك عن بعض التوجهات الخاطئة التي تهدم أو تدمر، وتحرض أحد الطرفين على مشاكسة الآخر، خلافًا لما أمرنا به ديننا من توجيه النصح وفق منهج الإسلام وشرعته.
وقد كان سلفنا الصالح والعقلاء من أمتنا إذا زفّوا امرأة إلى بيت زوجها أمروها برعايته وحسن القيام بحقه وتعهدوها بالنصح والرعاية، وأوصوها دائمًا بالحفاظ على استقرار أسرتها، فهذا جعفر بن أبى طالب يوصى ابنته قائلًا: “إياكِ والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتاب فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وأطيب الطيب الماء”. - وسائل الإعلام: فالإعلام ينقل في كثير من الأحوال صورًا خيالية غير واقعية للحياة الزوجية، فالزوج شاب وسيم أنيق غني مترف مغداق للهدايا بمناسبة وبلا مناسبة، والزوجة امرأة جميلة حسناء فاتنة جذابة متفرغة للعواطف، والحفلات والنوادي هي وزوجها وكأن هذه المرأة لا تعرف حملًا ولا وضعًا ولا رضاعًا ولا تربية أبناء ولا ترتيب شئون المنزل، فهي فقط للشهوة واللذة فحسب فترسم صورة حالمة واهمة للحياة الزوجية من خلال هذه المشاهد الخيالية أو الهلامية، وسرعان ما يصطدم الخيال بالواقع فلا يصمد الواقع أمام الخيال، ويخر السقف على رؤوس حامليه.
- الأزمات الاقتصادية الطاحنة: لا يستطيع أحد أن ينكر أن الأزمات الاقتصادية لها دور كبير في الشقاق الأسري الذي يصل ببعض الأسر إلى الطلاق، حيث لا تقف متطلبات بعض النساء عند حد، وتدعو المباهاة والمظاهر الكاذبة بعضهن إلى إجهاد الزوج بما لا قبل ولا طاقة له به، ومن ثم علينا أن نرشد هؤلاء إلى السيرة العطرة لأمهات المؤمنين، والصحابيات والتابعيات وتابعاتهن، وسائر النماذج الصالحة من نساء أمتنا الإسلامية، كيف كن يصبرن على خشونة الحياة.
آثار ظاهرة الطّلَاق
وللطلاق آثار على المرأة والرجل والأطفال والمجتمع، منها:
- على المرأة: تعاني الزوجة من ضغط نفسي قوي بعد الانفصال نتيجة ظروف الطّلَاق وبسبب وجود أبناء، حيث تتحول المُطلّقة لعائل وحيد، فضلًا عن توقف أسرتها من عملية الطلاق، حيث تخضع في المجتمعات الشرقية لرقابة اجتماعية ظالمة، وبخاصة من والديها وأخواتها وأقربائها، وكذلك سنها، إذ فوق سن الأربعين يصعب زواجها مرة أخرى خاصة أن أغلب الشباب لا يفضلون الزواج من امرأة مطلقة.
- وتعاني المطلقة من نظرة المجتمع إليها، حيث يلقى عليها اللوم في فشل العلاقة الزوجية، فتلاحقها التهم والهمسات الظالمة والنظرات المملوءة بالشك والريبة، وتكون محاصرة من الرجال والنساء اللواتي يخشين على أزواجهن منها.
- على الرجل: ليس من شكٍّ أن الآثار المدمرة للطلاق لا تقتصر على المرأة، وإنما تشمل الرجل أيضًا، فقد كشفت أحدث الدراسات عن تزايد نسبة الرجال المطلقين الذين يعانون أمراضًا جسدية ومشكلات نفسية مقارنة بحالاتهم قبل وقوعه.
- على الأطفال: أجمع الخبراء على أن الأطفال هم أصحاب الضرر الأكبر من انهيار العلاقات الزوجية، حيث يؤثر سلبًا على عملية تنشئتهم النفسية والاجتماعية وفي بناء الشخصية السوية ويفقدون الشعور بالأمان، ولا يحصلون على حاجتهم الطبيعية من الشعور بالراحة والاستقرار والطمأنينة التي هي عصب عملية التنشئة النفسية للطفل، ما يفقد المثل الأعلى.
- على المجتمع: لخص علماء الاجتماع الآثار الخطيرة الناجمة عن انهيار العلاقات الزوجية في عدد من المخاطر، لعل من أبرزها: خروج جيل حاقد على المجتمع بسبب فقدان الرعاية الواجبة له، وتزايد أعداد المشردين وانتشار، جرائم السرقة والاحتيال والنصب والرذيلة، وزعزعة الأمن والاستقرار في المجتمع فضلًا عن تفككه، وانتشار ظاهرة عدم الشعور بالمسؤولية، فضلًا عما يصيب القيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية السائدة فيه من مظاهر التردي والانحطاط نتيجة عدم احترامها.
حل موضوعي لظاهرة الطّلَاق
لا شك أن الحل الموضوعي لظاهرة الطلاق في المجتمعات الإسلامية إنما يكمن في اتباع منهج الإسلام وهديه، ومعرفة أن الإسلام إنما أباح الطلاق في الحالات التي تستحيل فيها مواصلة الحياة الزوجية، ويكون الانفصال أخف الضررين، ويمكن الحد من هذه الظاهرة من خلال ما يلي:
- حسن الاختيار: عن طريق إلقاء المحاضرات للمقبلين على الزواج عن كيفية اختيار شريك الحياة، حيث أثبتت الدراسات أن معظم حالات الانفصال الزوجي بسبب سوء الاختيار، والتسرع في اتخاذ قرار الزواج.
- التوعية والثقافة الأسرية: لدى الشباب المقبل على الزواج، حيث أثبتت الإحصاءات أن معظم الحالات تقع في السنوات الأولى، ما يدل على أن التوعية والثقافة الأسرية لدى المقبلين على الزواج لا زالت مفقودة وسطحية لا تؤهلهم لمواجهة أعبائه وإجراءاته.
- إعادة التوافق النفسي للمطلقة: العمل على دمج المطلقة في المجتمع وتشجيعها على إكمال دراستها وممارسة هوايتها والانضمام إلى العمل الاجتماعي والجمعيات الخيرية.
- تطوير مكتب التوجيه والاستشارات الأسرية: ففي العصر الحديث ونتيجة التقدم الحضاري والتغيرات الاجتماعية زادت حدة المشاكل الاجتماعية والنفسية التي تؤثر في وظائف الأسرة بصفة خاصة والحياة الأسرية بصفة عامة. وعلاجًا للمشاكل والأزمات الأسرية التي أصبحت تتعرض لها الأسرة وتهدد أمنها وسلامتها واستقرارها خاصة في بعض المجتمعات الإسلامية.
- تأسيس صندوق للنفقة: وذلك في حال استحالة العشرة بين الزوجين ويقرران الطلاق، حينها تكون رعاية المطلقة بعد الانفصال وضمان العائد لها ولأولادها، أمر واجب؛ لإعفافها.
لقد جعل الإسلام الطلاق في أضيق الحدود، وفي حالة استحالة العشرة بين الزوجين، وبما لا تستقيم معه الحياة الزوجية، حتى يكون مخرجا من الضيق وفرجا من الشدة في زوجية لم تحقق ما أراده الله، وقبل الوصول لهذه المرحلة وجهت الشريعة الإسلامية كلا من الرجل والمرأة إلى سبل النجاح في هذه الحياة الزوجية بدءا من شروط الاختيار وحتى أدق التفاصيل في طبيعة العلاقة بينهما.