إنّ من أهم صفات المؤمنين، طهارة اللسان من السِّباب والقذف والكلام الفاحش، بهدف إهانة أو تجريح الغير، وقد يكون السباب لفظيًّا، مثل الشتائم واللعنات، أو غير لفظي، مثل الإشارات والإيماءات، وكلها تتسبب في إثارة الفتن والصراعات بين الناس، وإفساد العلاقات الاجتماعية، وتحطيم الأخلاق والقيم، وإغضاب الله تعالى ودخول النار.
لذا على المسلم أن يحفظ لسانه من هذه الآفات، وتعلم الأخلاق الحسنة، ويربي نفسه على قول الخير والابتعاد عن الشر، ويستطيع ذلك بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى أن يطهّر قلبه ولسانه من السّباب، ويحافظ على قراءة القرآن الكريم وتدبر معانيه، ومجالسة الصالحين، فإنهم يؤثرون في الإنسان بكل خير، ولا بد من تذكر عاقبة السباب وهي دخول النار.
طهارة اللسان في القرآن والسنة
وأمر الله- سبحانه وتعالى- المسلمين بالحفاظ على طهارة اللسان من القول السيء، قال- عز وجل-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء:53]، ففي هذه الآية الأمر بإحسان الكلام، وأن ينطق الإنسان بالخير.
وقال تبارك وتعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]، فانتظمت هذه الآية بعمومها المسلم واليهودي والنصراني وغيرهم. فحتى المشرك عليك أن تُحسن خلقك وألفاظك معه.
وعن أبي سنان قال: قلت لسعيد بن جبير- رحمه الله-: المجوسي يُوليني من نفسه ويسلم علي- أي: هو الذي يبدأني بالخير ويسلم عليّ- أفأرُد عليه؟ فقال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس- رضي الله عنهما- عن نحو من ذلك، فقال: لو قال لي فرعون خيرًا لرددت عليه. أي: لو قال لي فرعون الذي هو شر البشر في عصر موسى عليه السلام خيرا لرددت عليه خيرا مثله، فإن هذا هو أدب القرآن، وقال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء:86].
ولا يَصلُح عمل المسلم حتى يُسدِّد قولَه، ولا تُسدَّد الأفواهُ إلا بتقوى الله، قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
وقال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فُصِّلَتْ: 30-33].
وقد نهى الله تعالى عن السباب في كتابه الكريم، فقال: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108].
وروى أنس بن مالك- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، قال: “لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ” (السلسلة الصحيح للألباني).
وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا”.
وعن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- قال: “قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أمْسِكْ عليك لسانك، ولْيَسَعْكَ بيتُك، وابْكِ على خطيئتك»؛ (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
وقال أبو هريرة إنه سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن العبد لَيتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها يزِل بها إلى النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب” (متفق عليه). وعنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم” (رواه البخاري).
كيف نحقق طهارة اللسان في أنفسنا؟
وحتى يحقق المسلم طهارة اللسان في نفسه، عليه أن يحافظ على هذه الخصال:
- تقوى الله: قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)،[النساء: 1] وهذا نداءٌ لجميع النَّاس، والتَّقوى تعني: اتِّباع أوامر الله- سبحانه- والبعد عن ما نهى، والعمل بالطَّاعات والبعد عن المعاصي والمنكرات، طلبا للأجر وخوفا من العقاب، وعندما تتحقَّق التَّقوى في قلب المسلم يكون الحفاظ على أوامر الله- سبحانه-، فيحفظ المسلم لسانه عن الحرام.
- مجالسة الصالحين: يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، والْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمَّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمَّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً”(مسلم)، فالأخلاق السيئة كالأمراض قد تعدي الإنسان بالمخالطة، ومجالسة الصَّالحين حمايةٌ من هذه الأمراض.
- الإكثار من ذكر الله: يقول الله سبحانه-: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)،[الرعد:28]، ويقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “مَثَلُ الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ والذي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ” (البخاري) فمن عرف عظمة المولى أكثر من ذكره؛ ففيه يحفظ الإنسان لسانه عن المعاصي والغيبة والكذب والقول غير النَّافع.
- الدعاء والاستعانة بالله: فأهل الطاعة يستعينون بالله على أداء الطاعة، وأهل المعصية- أيضا- يطلبون العون من الله- تعالى- على ترك معاصيهم، فلا بعد عن معصيةٍ إلَّا بعونه ولا فعل طاعةٍ إلَّا بتوفيقٍ منه- سبحانه-.
- تذكر ثواب حفظ اللسان: حيث له آثارٌ كثيرةٌ وعديدةٌ، منها الحفظ من النَّار، والحماية من الوقوع في الفتن والخصومات.
- مجاهدة النفس في إصلاح اللسان: فعلى الإنسان المُبتَلى بهذه الآفة أن يُجاهد نفسه لتركها، ويسعى للتخلص منها؛ قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) [الحج: 78].
- التَّحَلِّي بالسكينة: فهو من أنجح الوسائل لقطع كل ما هو قبيح من القول؛ يقول ابن القيم- رحمه الله-: “السكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارحُ وخشعَت، واكتسبَتِ الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا، والفحش، واللغو، والهجر، وكلِّ باطل”.
- التَّفكُّر في أسماء الله الحسنى: وبخاصة الأسماء التي تَستوجب المراقبة والإحسان، مثل: الشهيد، والرقيب، والعليم، والسميع، والبصير، والمحيط، والحفيظ، قال حاتمٌ الأصم: “تَعاهَدْ نفسك في ثلاث: إذا عَملتَ فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلَّمتَ فاذكر سمعَ الله منك، وإذا سكتَّ فاذكر علم الله فيك”.
- المحافظة على الصلوات: يقول تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت: 45]. وقد أخرج الإمام أحمدُ عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: قيل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إن فلانًا يُصلِّي الليل كله، فإذا أصبح سرق!”، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “سينهاه ما تقول – أو قال: ستمنعُهُ صلاته”.
- لزوم الصدق: فهو خيرُ عونٍ على استقامة القلب والجوارح، يقول- صلى الله عليه وسلم-: “عليكم بالصِّدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البرَّ يهدي إلى الجَنَّة…” (البخاري ومسلم).
- شكر نعمة اللسان: بأن يحمد الله على نعمة النطق التي حرمها غيره، ويعلم أن مِن شُكْرِها استعمالها في مرضاة المنعم عليه بها، قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60].
- التَّحَلِّي بالحياء: قال أبو حاتم بن حبان- رحمه الله-: “القِحَّةُ (ترك الحياء) أصلُ الجهل وبَذْرُ الشرِّ، ومَن لم يُنْصِف الناسَ منه حياؤه، لم يُنصِفْه منهم قحتُه، وإذا لزم الوَقِحُ البذاءَ كان وجود الخير منه معدومًا. وذكر سوءَ عاقبة البَذِيِّ فقال: “مَن ذهب حياؤه ذهَب سروره، ومَن ذهب سروره هان على الناس ومُقِتَ، ومَن مُقِتَ أُوذي، ومَن أُوذي حزن، ومَن حزن فَقَدَ عقلَه، ومَن أصيب في عقله كان أكثرُ قوله عليه لا له، ولا دواء لِمَن لا حياء له، ولا حياء لِمَن لا وفاء له، ولا وفاء لِمَن لا إخاء له، ومَن قلَّ حياؤه صنع ما شاء.
- تذكُّر أحوال الآخرة: فكلُّ إنسانٍ إذا استحضَر أحوال الآخرة، وعلم يقينًا أنه سيقف بين يدي الله تعالى، يسأله عن أقواله وأفعاله صغيرها وكبيرها، لم يفعل فعلا أو يقل قولاً إلا ويحسب له ألفَ حساب، قال تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور: 24].
فاللسان على الرغم من أنه عضو صغير، لكنه قد يرفع قدر الإنسان في الدنيا والآخرة، وقد يضعه في الدنيا، ويُهلكه في الآخرة، فبكلمة طيبة يلفِظها ينال بها رضا الله ومحبة الناس، وبكلمة قبيحة يلفظها ينال بها سخط الله والناس، لذا فإن طهارة اللسان منجاة في الدنيا والآخرة.
مصادر ومراجع:
- ابن حبان: روضة العقلاء، ص 56-59.
- ابن القيم: مدارج السالكين 2/504.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء: 11/ 485.
- فاطمة علي: طرق تساعد على حفظ اللسان.
- يحيى الشيخي: “أمسك عليك هذا”.
- محمد إسماعيل المقدم: آفات اللسان1.
- أحمد طالب بن حميد: طهارة قلب المسلم ولسانه واغتنامه لزمانه.
- موقع الكلم الطيب: حفظ اللسان.