أنا طالب أعيش حالة انقسام كبيرة بين أبوين منفصلين حيث طلّق والدي والدتي منذ فترة بعد سلسلة من الخلافات انتهت بما ذكرته لك وتشتت البيت بعد طلاق الوالدين مكانًا وقلبًا.
فكل منهما يعيش في مكان منفصل ويريد كل طرف منهما أن يضم إليه عواطفنا، فترى الأب يذكر لنا من حسناته وسيئات أمي ما يشعرنا بمظلوميته، ثمّ نعاود الكرة مع أمي فإذا بها تحكي لنا عمّا سببه أبي لها من إيذاءات نفسية ومتاعب حياتية أحالت نهار حياتها ظلامًا لا يُطاق، فتتحول قلوبنا من التعاطف مع أبي إلى الشفقة على أمي مما فعله معها أبي وهكذا دواليك.
قلوب متأرجحه نحو كل منهما مرة ومرة، وبيوت مختلفة اختلفت معها حياتنا عن حياة أقراننا المستقرة، والله وحده فقط هو الذي يعلم إلى متى تستمر هذه العذابات النفسية التي نعيشها بين كل منهما.
وأما عني أنا فقد ظللت لفترة حيادي المشاعر نحو كل منهما
حتى لكأنني أحيا حياة اليتم رغم وجود والدي على قيد الحياة، والذي أرجوه منك أمرين:
أولهما: أن توجه رسالة لكل زوجين منفصلين أن يتركا أبناءهما على الحياد حتى يظلوا محبين لكلا الطرفين.
ثانيهما: أن تدلني على وصفة تخرجني بها من هذا الجمود العاطفي نحو والدي الكريمين حتى لا أكون عاقًّا لهما.
الإجابة:
نشعر بما تمر به، ونأسف على ذلك الصراع النفسي الذي تعيشه أنت وإخوتك، نعلم جيدًا كم يصيبك هذا الوضع بالتوتر واهتزاز الثقة وعدم الشعور بالأمان، والأكثر إرباكًا أن هذا يجري بسبب أكثر شخصين يمثلان معنى الأمان ومصدره في حياتك.
لكن يجب أن تعرف بني أن انفصال الأبوين أحيانًا كثيرة هو حل أفضل للأبناء من الاستمرار في حياة تجمع الأبوين يملؤها عدم الاحترام وكثرة الخلافات. فحاول تقبُّل وضع الانفصال وثِق أن الخير فيما قدّره الله وليس في بقائهما معًا.
من ناحية أخرى، حاول أن تتفهّم دوافع أبويك، فكل منهما يسعى إلى أن يحمّل الآخر المسؤولية لِمَا آلت إليه الأمور، ولا تعجب فهما يفعلان ذلك حرصًا عليكم وخوفًا من فقدانكم، فهما يُدركان أن عدم استمرارهما معًا قد أفقدكم فُرصة العيش المستقر في أجواء أسرية دافئة، ولشعورهما بالذنب بسبب ذلك وخوفًا من خسارتكم يحاول كل طرف منهما جذب الأبناء ناحيته ووضع الذنب على الآخر حتى إذا تألّم الأبناء يصبّون غضبهم على الطرف الذي اقتنعوا أنه المتسبب في هذا الوضع، والأمر مُتوقّف على مَن لديه منهما قدرة أكبر على الإقناع.
نريدك أن تفهم دوافعهما حتى تتأكد أنهما لا يرغبان أبدًا في خسارتكم، بل بالعكس هي محاولات للحفاظ عليكم، لكنهما يخطئان فيها الطريقة.
كما أنه في حال كان الانفصال حديثًا فربما لا تزال تسيطر على أبويك مشاعر الغضب والإحباط والحزن التي لم يستطيعا تجاوزها بعد، ما يُؤثر على طريقتهم وحديثهم إليكم، لذلك وجب عليكم تشجيعهما على تجاوز هذه المرحلة وطي الصفحة والنظر للأمام وعدم الوقوف كثيرًا على ما حدث، حتى لا يفسد عليهم هذا القرار ما تقدم من حياتهما، معلوم أن هذا الدور لا يقع على عاتق الأبناء بالكلية، لكن يمكنكم تشجيعهما على معالجة أي آثار سلبية خلفتها هذه التجربة ولو بالذهاب لمختصين. ووقع عليكم حينئذ الصبر عليهم وإعذارهم حتى يستطيعا تجاوز ذلك.
نوصيكم أن تعبروا لأبويكم عن شدة تأثركم بطريقتهما، فقد لا يدركان أن كلاهما يقوم بنفس الشيء محاولًا تشويه صورة الآخر، واطلبا منهما انتهاج طريقة أخرى لأن طريقتهم الحالية قد تُؤدي إلى خسارتكم بالفعل، أرسلوا لهما رسائل تطمين أنكم لا تلومون عليهما ولا تحملونهم مسؤولية ما آلت إليه الأمور، وأنكم غير غاضبين من قرارهما بالانفصال، فربما حين تعبرون عن دوام حبكم لهما واحترامكم لقرارتهم تهدأ نفسيهما وتخفت لديهما الرغبة في ضمكم لأحد صفيهما.
أخبروهم أنّه لا الأب يحتاج إلى أن يستقطب الأبناء لصفّه، كي يثبت أنه الأفضل بعد الانفصال ولا الأم كذلك، بل يجب إخراجكم تمامًا من هذا الخلاف، إذ إن قلبكم كأبناء يسع لكليهما.
وعلى كلٍّ فلا تتخلَّ وإخوتك عن برّ أمك وأبيك، فلا خير في الحياة دون برّهما، وقد أمرنا ببرهم وحسن مصاحبتهم حتى وإن أمرا بالشرك ويا لها من كبيرة في حق الله، فما بالك إن لم يفعلا؟!
حاول أن تلتف حول إخوتك وأن تجعلوا من هذه المحنة سببًا لتقارب بعضكم لبعض، وتعويض بعضكم بعضًا عن الظروف القاسية التي تمرّون بها معًا، فيصبح كل منكم للآخر سندًا ومعينًا وأمانًا.
أمّا عن طلبك منّا توجيه كلمة لكل زوجين منفصلين فنحن نقول إن هناك نماذج كثيرة استطاعت أن تُحقق ما أمرنا الله به – سبحانه وتعالى- عند الانفصال حين قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، وقال – سبحانه وتعالى-: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، فعلى كل زوجين قرّرا الانفصال أن يُفكرا في ماهية هذا المعروف وطريقة ذلك الإحسان، وأن يزنا كل تصرفاتهما على هذا الميزان، ميزان الإحسان والمعروف، وأن يكتفيا بما سببته خطوة الانفصال من أضرار على الأبناء فلا يزيدوها بعدم الاحترام لبعضهما بعد الانفصال، وبمحاولة كل منهما جذب الأبناء لصفه بتشويه الآخر، حتى لا يظلم الأبناء مرتين، وحتى يكبر الأبناء أسوياء ليس في قلوبهم حنق أو كراهية لأحد، وحتى لا تكبر معهم تعقيدات تصعّب عليهم الاستمرار والتقدم في الحياة بصورة طبيعية.
يستطيع كل من الأب والأم المنفصلين أن يعلما الأبناء الاحترام حتى مع الاختلاف، وأن يتعاونا فيما يتفقان عليه وهو مصلحة الأبناء، ولا يذكران لبعضهما إلا الخير ولا يذكران بعضهما إلا بالخير.
ولقد وضع رب العزة معينًا آخر للزوجين عند انفصالهما حين قال: {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، ففي مثل هذه الحالات أمرنا أن يستدعي كل طرف فضائل الآخر وأمرنا أن نتعامل بالفضل وليس الوقوف على الحقوق. هذا أكثر تهذيبًا، كما أنه يعين على تجاوز صعاب هذه الفترة.
وحين تحدّث ربّ العزة عن استرداد المهور بعد الانفصال قال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}، أي أن ما جمع الزوجين من روابط قبل الانفصال كفيل أن يُغض الطرف من أجله وأن يُتنازل عن أمور لأجله، وأن يبقى في الذاكرة حتى بعد الانفصال من أجل القدرة على حسن المعاملة.
ولا عجب من ورود ذكر التقوى في سورة الطلاق ذات الاثنتي عشرة آية، خمس مرات كاملة، لأن علاقات الانفصال أكثر ما يجب أن يحكمها هو تقوى الله – عز وجل- والبعد عن الانتقام للنفس أو الثأر لها.