إن الإنسان – بطبيعته – قد تشرق روحه لحظة؛ قد تروعه حادثة مفاجئة فتهز نفسه وتوقظه لعالم الغيب ومدبر الأمور، وهذا جميل، ولكنها لحظات منقطعة لا دوام لها ولا استقرار، لحظات خاطفة لا تلبث – بزوال مؤثرها – أن تزول، والإسلام لا يريد ذلك؛ لا يريد لهذه الإشراقة الروحية أن تنطفئ، ومن ثم لا يكتفي بتلك اللحظات الفائقة التي تجيء عرضا ولا تلبث أن تزول، لا تكاد تترك لها أثرا في النفس، ولا تسيرها على منهج واضح أصيل، إنما يريد الإسلام أن يجعل من تربية الروح منهج حياة، يريد أن يذكي الشعلة المقدسة التي يشتمل عليها الإنسان من روح الله فتظل على الدوام مضيئة موصولة بنبعها الأصيل، وحين يصنع الإنسان ذلك فهو لا شك يحقق أرفع ما في كيانه، ويصل إلى ما يشبه المعجزات.
واقعية الإسلام في تربية الروح
تتجلى في الإسلام رحمة الله بعباده، إنه لا يريدهم على المستحيل، وهو يعلم أن الطلاقة الدائمة الكاملة بالنسبة للبشر مستحيل، ومن ثم يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16]. ويقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42]، ولكنه لا يقول – كما تقول المذاهب «الواقعية» المنحرفة، المذاهب التي تؤمن بحيوانية الإنسان ومادته، لا يقول: أيها الإنسان، ما دامت مخلوقا من الطين وركبت فيك الشهوات فلا فائدة من رفعتك، ولا أمل في انطلاقتك. فكل وتمتع كما يتمتع الحيوان، کلا. لا يقول ذلك، لأنه – وهو دين الفطرة – يؤمن بكل ما تحتويه الفطرة من طاقات، ويؤمن كذلك بطاقة الروح وقدرتها الفائقة على التحليق والانطلاق.
وهو – في واقعيته الكاملة التي تحسب حساب الضعف البشري – لا يكف أبدا عن المحاولة؛ لا يكف عن النفخ الدائم لإذكاء شعلة الروح، لأن هذا هو الطريق الوحيد للرفعة، والطريق الوحيد لموازنة ما يهبط بالنفس من أثقال.
وسائل الإسلام في تربية الروح
الطريق الوحيد لتربية الروح في الإسلام هي عقد الصلة الدائمة بين الله والإنسان، ويستخدم لذلك وسائل شتى:
– فهو من ناحية يثير حساسية القلب بيد الله المبدعة في صفحة الكون، لتحس دائما بوجود الله، وقدرته المطلقة التي ليست لها حدود.
– ومن ناحية يثير حساسية القلب برقابة الله الدائمة عليه. فهو مع الإنسان أينما كان، وهو مطلع على فؤاده، عالم بكل أسراره، وبما هو أخفى من الأسرار.
– ومن ناحية يثير في القلب وجدان التقوى والخشية الدائمة لله، ومراقبته في كل عمل وكل فكرة وكل شعور.
– ومن ناحية يثير فيه الحب لله، والتطلع الدائم إلى رضاه.
– ومن ناحية يبعث فيه الطمأنينة إلى الله في السراء والضراء، وتقبل قدره بالتسليم والرضاء، والهدف في النهاية واحد: هو وصل القلب البشري بالله تعالى.
الكون آية الله الكبرى
والكون كتاب الله المنظور كما أن القرآن الكريم كتاب الله المسطور، والكون معرض قدرة الله المعجزة التي تبهر العقول، ولكن الإلف والعادة يفسدان روعة التطلع لآيات الكون، وروعة الإحساس بها جياشة واصلة إلى الأعماق، ومن ثم لا تحقق هذه الآية هدفها في تربية الروح البشرية، فتتبلد الحواس لما ترى وما تسمع، فتمر بكل شيء كأنه لا وجود له، وتنسى – بحكم التعود – أن كل شيء حولها آية للقدرة المبدعة الخالقة التي تبدع كما تريد.
- الليل والنهار متعاقبان متكوران على الأرض، مختلفين في الطول باختلاف الفصول واختلاف المكان.
- الشمس الطالعة الغاربة في كل يوم لا تكف يوما عن الطلوع أو تكف يوما عن الغروب.
- النجوم المتلألئة في ظلمة الليل كأنها عيون توصوص في الظلمة وتتناجی على ما بينها من أبعاد.
- الحياة النابتة في الطائر الصغير والحيوان الضئيل وهو يدرج وراء أمه ترضعه أو تغذوه.
- الحياة المنبثة في الكون «الميت» لظاهر العين، وهو في حقيقته طاقات حية متحركة على الدوام.
- النظام المذهل في روعته، المذهل في دقته، الذي يسير عليه الكون كله، فلا يختل منه كوكب واحد، ولا يخرج عن مساره قيد أنملة في الزمان الطويل الذي يقدر بالملايين والبلايين من السنين.
- الزمن ذاته؛ كنهه وحقيقته، وطريقة إدراکه، المخلوق البشري المعجز بكل ما فيه من أجهزة دقيقة وطاقات.
- «العمليات» الجسمية، و«العمليات» الفكرية، و«العمليات» الروحية في كيان الإنسان.
امتزاجه وترابطه المحكم الشامل الدقيق الذي يجمع كل طاقاته ويوحد بينها في كيان.
الإلف آفة الناس
آیات الله في الكون، كل منها معجز، وكل منها هائل، وكل منها مثير، ولكنها لطول الإلف والعادة يمر بها الإنسان دون وعي ودون تفكير، فلا تحدث الأثر المطلوب في تربية الروح والقلب.
ومنهج الإسلام في تربية الروح يعمد إلى هذه الآيات فيبث فيها الحياة:
فالقرآن حافل بهذه الدعوة للإنسان أن يفتح بصيرته على آيات الله في الكون، ويستشعر من ورائها يد القدرة القادرة الخلاقة المبدعة، في أسلوب أخاذ يأخذ بمجامع النفس، ويوقظها من إلفها وعاداتها، فتتفتح للكون، كأنه جدید.
وللقرآن في هذا الجانب قدرة عجيبة؛ فإيقاظ النفس من إلفها ليس مهمة ميسرة، الإلف جزء من كيان النفس، يؤدي لها مهمة ضرورية؛ فلا بد أن تألف النفس والحواس والأعصاب ألوانا معينة من التجارب والأحاسيس والأماكن والأشياء لكي تنطلق إلى تجارب جديدة وأحاسيس جديدة وأماكن جديدة وأشياء جديدة، ولولا الإلف والعادة لقضى الإنسان حياته كلها يتعلم النطق مثلا، أو يتعلم القراءة أو الكتابة أو الحساب، أو يشغل أعصابه بالعادية من الأمور، فلا تبقى فيها طاقة لتحمل شيء جديد، تلك وظيفة الإلف والعادة في كيان النفس.
ولكنهما في أحيان كثيرة يتجاوزان وظيفتهما، فيطغيان على كل مساحة ، فتتلبد المشاعر، وتغلق البصائر، وتجمد الأفكار، عندئذ يصبح الإلف عائقًا عن التقدم، معطلًا عن الطلاقة، مجمدًا للكيان، وعندئذ لا بد من إيقاظ النفس من سباتها لتتفتح وتستنشق الحياة.
وحين يحدث التفتح فإنه يُحدث أعجب الأثر في الكيان البشري، إنه يشبه – مع الفارق – ذلك النشاط الحي الذي يحس به الإنسان في أعضائه حين يخرج من الغرفة المقفلة الفاسدة الهواء، فيتلقى النسيم المنعش ويستنشقه إلى أعماقه. إنه يتجدد حسا ومعنى، وينطلق في خفة نشيط الحركات. والتفتح النفسي يشبه ذلك الأثر ولكنه أعمق وأشمل وأروع، إنه يهز الكيان النفسي كله ويوقظه وينشطه ويجدد حياته.
المصدر
مختصر من كتاب منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب.