أنا طالبة صغيرة السن ابنة لأبوين حريصين على مستقبلي وإخوتي أكثر من حرصهما على نفسيهما، وليتهما ما حرصا على مستقبلنا كل هذا الحرص لأنهما أسرفا في الحرص علينا.
فأبي وأمي العزيزين يعملان في دوامين طويلين شاقين يرجعان بعدهما مرهقين لا يستطيعان الحركة ولا الالتفات لأحد؛ والنتيجة أنني وأخوتي قد مللنا عملهما حيث افتقدناهما كثيرًا، حتى لقد كنت أستحلف أمي بالله كثيرا أن تترك عملها لأنني أحتاج إليها، أستشيرها وأحكي لها، لكن الإجابة دائما كانت تأتيني بالرفض لأن الظروف المادية لا تسمح بعمل الوالد فقط، وعلينا أن نتحمل هذه التضحيات لأنها في النهاية لن تكون إلا لنا نحن معاشر الأبناء.
والنتيجة أنني وإخوتي أشبه ما نكون باليتامى، فأنا أنهي واجباتي ومذاكرتي وكذلك إخوتي، ثم نلف وندور في بيتنا متابعين التلفاز تارة ولاعبين على الحاسوب تارة أخرى ونائمين تارة ثالثة ورابعة، حتى ألفنا الحياة بغير أب وأم، بينما أعمارنا تكبر ونحن لم نشبع بعد من والدينا العزيزين.
ثم إن الفراغ الطويل قاتل بشكل لا يتخيله إلا من يعيشه، ومن لطف الله عز وجل بنا أنني وإخوتي بفضل الله ليس عندما ميول لبعض صور الفساد في ظل انشغال من حولنا، كإدمان الإنترنت ومتابعة القنوات الهابطة وغيرها، لكنني بدأت الآن أخاف على نفسي وعلى أخوتي، فكل ما ليس مستساغا الآن مما ذكرته لك قد يكون مستساغا مع الفراغ. ثم أليس من حقنا أن نشبع من والدينا ونحن صغار قبل أن نترك بيتنا الجميل هذا ولما يشبع أبوانا منا ولم نشبع منهما؟! فبماذا تنصحني؟!
لو قرءا والديك رسالتك هذه لأوقفتهما كثيرًا أمام نفسيهما، لو وقفا أمام جملتك (أنا وإخوتي أشبه باليتامى) لتغير الحال تمامًا.
للأسف، فالأبوان ابتلعتهما دوامة الحياة، ولا أظن أنهما أقل منكم ألمًا بسبب عدم قدرتهم على التواجد وسطكم، وتفريغ الوقت لكم، فقد وقعا بين فكي الرحى، بين احتياجات الحياة المادية واحتياجاتكم العاطفية والنفسية، ربما وجّه اختيارهما فهمًا خاطئًا لطبيعة الدور المطلوب منهما، هما يظنان أنهما هكذا يقومان بدورهما كاملًا، وقد يعتقد البعض أن حديث رسول الله: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) يُقصد به نوعًا واحدًا من المسؤولية وهي الإنفاق وتوفير المال، وهذا وإن كان مطلوبًا ومشكورًا فإن هناك مسؤوليات أخرى تركز عليها آيات القرآن الكريم تجاه الأبناء كقوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) وقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، وحديث رسول الله: (لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم)، والمقصود هنا: هداية الإرشاد، فلئن جعل الله الآباء سببًا لهداية أبنائهم لهو خير لهم من جمع أموال الدنيا كلها. وهذا دور لا يقل أهمية عن باقي أدوار الرعاية الأخرى من مأكل وملبس.
لم يُغفل الأبوان الكريمان طبيعةَ دورهما فقط بل أغفلا أيضًا طبيعة احتياج أبنائهما، والواضح أنها ليست رصيدًا في البنك كبير بقدر ما هي آذان مصغية ووقت خاص يشعرهم بالاهتمام، كثير من الحب والاحتواء، مشاركة اهتمامات، مشورة ونصيحة. ويبدو أنهما قد أغفلا أيضًا حجم الأثر السلبي الذي خلفه غيابهما طويلًا على أولادهم.
التحدي الآن هو أن تقنعيهما بهذا في الوقت الذي سيشعران حتمًا أنهما غير مقصران بالمرة، بالعكس سيشعران أنهما أفنيا عمرًا طويلا وتعبا كثيرًا من أجل توفير احتياجات أبنائهم. وقد فعلا حقًا، لذلك فلفت انتباههما لن يكون أبدًا بإنكار جهدهما أو التقليل من قدر بذلهما وتضحياتهما، بل بالعكس تقديرهما وتقدير تعبهما وسعيهما في توفير المال اللازم لاحتياجاتكم ومما لا شك فيه أن بيوتا أخرى يعاني أبناؤها من تقصير الآباء الكبير في هذا الجانب.
احمدي الله على حفظه لكما فهو خير حافظ، ولعله أخلف والديكما خيرًا فيكما لصدقهما، أو قبل سعيهم أو لخير خفي يصنعانه، ونحمده على تنبهك لخطورة الفراغ وما قد يتيحه للشيطان من فرص للوسوسة، تنبهك هذا في حد ذاته حماية بل ودافع لأن تشغلي نفسك بالخير كالالتحاق بدورات تدريبية أو تعلم مهارة أو لغة جديدة أو حفظ للقرآن.
قومي وإخوتك بالتخطيط لوقت أفضل يجمعكم كإخوة تتحدثون وتقرأون وتمارسون أنشطة سويا، سيوفر هذا لكم أجواء أسرية طيبة، ولا ينكفئ كل على نفسه وفي عالمه.
كذلك لا تملوا من التعبير لوالديكم عن افتقادهما وعن رغبتهما في تقضية الوقت معهما، فقضاء الأوقات مع الأبناء لم يكن يومًا بالـ(كم) ولكن بالـ(كيف)، فرب أم لا تعمل تقضي مع أولادها أربع وعشرين ساعة ولا تجد لها أثرًا إيجابيًا على أولادها، ورُب أخرى تقضي ساعة واحدة فقط فيها من الإنصات والتشارك والتشاور والتعبير عن الحب تكون أبلغ. فلتضعوا أهمية مثلًا لأوقات الطعام على الأقل اجتمعوا على وجبة واحدة يومية كذلك أوقات الانتقال بالسيارة وأوقات الانتظار اجعلوها أوقاتًا مميزة للتحدث ومعرفة الأخبار. ربما تتفقون معهم على جلسة أسرية أسبوعية تتناقشون فيها وتأكلون وتمرحون، استغلوا أوقات صفائهم وتواجدهم ولو قلت، أعطوهم من الحب ما يعلق قلوبهم بكم ويرغبهما في مجالستكم.
وكونوا محددين في طلباتكم منهما، ولا تتهموهما أبدًا بالتقصير أو أي أحكام أخرى، ولا تكثروا من عتابهم واللوم عليهم، يشعرهم هذا بقلة التقدير وربما الجحود، بل عليكم تقديم الشكر لهم باستمرار هذا أدعى لمحاولتهم بذل المزيد لإسعادكم.وليتذكر كل أب وأم أن الأبناء ضيوف تطول إقامتهم قليلًا عندنا ثم يرحلون، وتبقى ذكرياتنا معهم وأوقات السعادة التي قضيناها معهم أو غصة في الحلق وندم لغفلتنا عنهم لحين انصرافهم، لا نحب أن يقضي الآباء بقية أعمارهم في الندم أو التشكي من قلة بر أبنائهم بل يقدمون حاليًا ما يحصدون به برًا مستقبلًا بإذن الله.
2 comments
السلام عليكم. لقد آلمتني رسالة البنت لأني أب. واعمل بعيدا عن عائلتي. اغيب لمدة شهر ثم اعود وابقى لمدة شهر مع عائلتي أحاول فيها قدر المستطاع ان اعوض ابنائي عن غيابي. ما اريد قوله هو أن الاباء ليسو اقل تضررا من الاولاد فيعلم الله اننا نعاني المر من غيابنا واشتياقنا لاولادنا. الله المستعان. شكراً.
وعليكم السلام،
نسأل الله أن يجمعكم بأهلكم ولا يفرق بينكم.
نشكر مرورك وتعليقك