يتعرض مفهوم شمولية الإسلام إلى مُحاولات عديدة للتمييع والتّهوين من العلمانيين ودُعاة التغريب، بهدف إقصاء هذا الدِّين عن أمور الحياة كافة، سيّما عن مُعترك السياسة التي تتسم بالتلوّن وغياب المبادئ، بل يرى البعض أنَّ الإسلام لم يعد صالحًا لهذا الزمان، وآخرون يختزلونه في مجرَّد شعائر دينية تُؤدّى في انعزالية عن الحياة اليومية.
وإذا طَبَّقَ المسلمون دينهم في الشوارع والمنازل والعمل والسياسة والاقتصاد والاجتماع، لأصبحوا خير الشعوب وأكرمها وأعزها وأقواها، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، فإن كان ديننا الإسلام، ودستورنا القرآن والسنة، ومناهجنا إسلامية، فلماذا لا تكون حياتنا إسلامية، وكيف لا نكون قدوة؟!
مفهوم شمولية الإسلام
الشّمولية لغةً: من الفعل الثلاثي شَمِلَ، ويشير اللفظ إلى الاحتواء والتضمين، نقول شمل الشيء أي تضمنه وعمّه، وتشير شمولية الإسلام إلى تضمّن الرسالة الإسلامية واحتوائها على كل ما يدخل ضمن حاجة واهتمام الإنسان، ويشترط حُسن فهمها واستيعاب ما جاءت به الشريعة الإسلامية، ومقاصدها ومفرداتها.
ويُمكن تعريف هذه الشمولية بأنها نظام ممنهج متكامل يهتم بشؤون الحياة بمختلف مجالاتها، ويؤدي دورًا مهمًّا في تنظيم الحياة العقائدية من الناحية الدينية، والمتمثلة في العلاقة بين العبد وربه.
ولقد أرسل الله- سبحانه وتعالى- كتابه العزيز إلى العالمين مبينًا فيه كل ما يحتاجه الإنسان في حياته اليومية والعملية، إذ يضع القرآن الكريم بين يدي المسلم جميع القواعد الكلية والخطوط الرئيسية، بالإضافة إلى احتوائه على مرجعيات ومعايير ذات علاقة بحياة الإنسان في الدنيا، ويتطرّق إلى أدقّ التفاصيل في حياتنا.
وتُعبّر الشموليّة وَفق ما جاء بالقرآن الكريم أن هذا الكتاب يتناسب مع جميع الأزمان والأماكن في الأرض، هذا وقد جاء الإسلام رحمة إلهية للعالمين؛ ليضم تحت رايته البشرية المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، إذ تنزل رحمة الله- سبحانه وتعالى- على مَن آمن ومن لم يؤمن من خلال هذ الدين القيّم.
مظاهر شمولية الإسلام
وتتجسد مظاهر شمولية الإسلام في الأب في بيته الذي يسعى جاهدًا لتربية أبنائه ليكونوا لَبِنَاتٍ صالحةٍ، كما يتجسّد في المُعلّم في مدرسته الذي يبني كل يوم غراسًا نافعًا في عقول الطلاب، ويتجسد في إمام المسجد الذي يُؤدّي مَهمة عظيمة في تِبيان الحق من الباطل وربط محراب الدين بالدنيا، ولا يقتصر على هؤلاء بل يتجسد في المسؤول والحاكم والسياسي الذي لا يألو جهدًا في تيسير وتسهيل مطالب الناس وخدمتهم من موقعه بإحسان.
إن البعض يعمل جاهدًا لقصر الدين على الصلاة والزكاة والحج وفقه الحمامات، ويحاربه إذا تكلم في شؤون السياسة، وقدم الأفكار في علم الاقتصاد، وعمل على حل المشكلات الاجتماعية، فهؤلاء كالدمى يُحركهم أعداء الدين حتى يظل المسلمون في طور العبودية للمادة وللغرب.
فالإسلام بالنسبة لهم شيء خارجي يجب أن يبقى خارجًا بالحياة السياسية مثلًا (العلمانية) أو بالسلطة الانتخابية (الديموقراطية) أو بالطرق والوسائل والأحكام التجارية والمالية (الرأسمالية)، بالنسبة لهؤلاء، فالإسلام هو بالصوامع لا غير، وهؤلاء فشلوا فشلًا ذريعًا في تذوق معنى الإسلام أو حتى معرفة الغاية من وجوده، ولذا لا يدركون قيمة الحياة، فالإنسان بلا دين صحيح هو إنسان بلا قيمة.
يقول الشيخ ابن باز: “الدين عام، يعم المسجد ويعم البيت ويعم الدكان، ويعم السفر ويعم الحضر ويعم السيارة ويعم البعير، يعم كل شيء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] يعني في الإسلام كله”.
وقد لخّص الإمام حسن البنا علاقتنا بالإسلام في الأصل الأول من الأصول العشرين من رسالة التعاليم فقال: “الإسلام نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعًا. فهو: دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة، سواء بسواء”.
ويؤكد في موضع آخر: “أستطيع أن أجهر فى صراحة، بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًا بعيد النظر، فى شؤون أمته، مهتما بها غيورًا عليها”.
لماذا لا نطبق شمولية الإسلام؟
الإسلام منهج متكامل، وتشريع شامل لكل مجالات الحياة، فهو إيمان وعمل، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، فكر وعاطفة، أخلاق وعمران، فلماذا لا نطبقه في حياتنا لكي نسعد في الدنيا والآخرة؟!
إن المرض العضال الذي أصاب هذه الأمة هو الخلل في الفهم الصحيح لمبدأ الشمولية في الإسلام، الذي يعني أن الإسلام كشرع سماوي أراد الله الحكيم سبحانه منه أن يفي بحاجة الإنسان لِمَا ينظم له كل شؤون الحياة، فوضع له القواعد الكلية والأصول العامة التي من شأنها أن تستوعب المكان والزمان.
ولم يتطرّق الإسلام إلى جميع جزئيات الحياة وتركها لاجتهادات الإنسان حسب حاجات عصره، وإن النظرة القاصرة لمفهوم الشمولية للإسلام هو الذي أنتج هذا الفهم الخاطئ الذي ظهرت أعراضه في فئات مختلفة من المجتمع.
لقد ضرب لنا النبي القدوة- صلى الله عليه وسلم- المثل في الشمول والتنوع والتوازن في شخصيته عليه الصلاة والسلام، فكان أبًا، وكان زوجًا، وكان رئيس دولة ومؤسسها، وكان القائد الأعلى لجيش الإسلام والمحارب الفذ، وبعث للإنسانية عامة؛ فشرع لها بأمر الله ما يلزمها في كل جوانب حياتها العقدية والعبادية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية.
فإن كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دعا لشُمُولية الإسْلام في كل المناحي، فلماذا لا نطبقه في حياتنا؟ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:162].
فنرى نصوص القرآن الكريم الكثيرة لم تُفرّق بين فرضية الصيام والوصية، أو القصاص أو المواقيت أو الحيض أو الجهاد.. وهذا نموذج مُصغّر عن الشّمولية في القرآن الكريم.
نماذج من التمسك والثبات
ولقد ساق الصحفي مصطفى عاشور بعض المواقف العملية على ثمار تطبيق شمولية الإسلام في المجالات المختلفة، فقال:
“في السبعينيات من القرن الماضي أصرّ كوكبة من الطيارين المصريين، المؤمنين بربهم والمجدّين في عملهم؛ على منع تقديم الخمور على خطوط شركة مصر للطيران، وتصدى لهم المرجفون في المدينة الذين في قلوبهم مرض، واحتجوا بأن الشركة سوف تخسر عملاءها، وسوف ينصرف عنها السياح والركاب الأجانب.. لكن الشركة مشكورة استجابت لرغبة الطيارين الشجعان، وامتنعت عن تقديم الخمور على خطوطها.. فماذا كانت النتيجة؟
أقبل الركاب من جميع الجنسيات على استخدام خطوط الشركة المصرية، وأصبحت معظم الخطوط محجوزة مُقدمًا لشهور عدة وحققت الشركة الأرباح والنجاحات، وتوارى المشككون خجلًا وسلموا بالأمر الواقع”.
وفي مجال الرياضة شكّك المرجفون اللاعبين المسلمين في جدوى الصيام في رمضان، وزعموا أنه سوف يُؤثّر على جهدهم وعطائهم في الملعب، ما قد يتسبب في هزيمة فريقهم وعلى الرغم من أن الشمس تغرب في بعض الدول الأوربية في العاشرة مساءً، والنهار طويل جدًّا، أصر اللاعبون المسلمون على الصيام حتى ولو وقع عليهم عقاب.
ففي الدوري الإنجليزي رفض اللاعبان الهولنديان بريس وأبو ديابي لاعبا نادي الأرسنال الإنجليزي الإفطار، وكذلك الفرنسي أنيلكا مهاجم فريق تشيلسي الإنجليزي، ودخل اللاعب المالي كانوتيه مهاجم فريق أشبيلية الأسباني في مشاكل مع إدارة فريقه ورفض الإفطار أيضًا وأصر على خوض المباريات وهو صائم، وهدد بالرحيل إذا لم يستجيبوا لمطالبه، وتبعهم العديد من اللاعبين المسلمين في فرنسا وألمانيا وأصروا على الصيام، ومرة ثالثة يعود مثيرو الفتنة إلى جحورهم مطأطئين رؤوسهم، يجرون أذيال الخزي والهزيمة والانحدار.
إنّ شمولية الإسلام ضرورة تربوية؛ فهذا الدين لا يخص قومًا دون قوم، ولا يتعلق بأمة دون أخرى، ولا يصلح لزمان دون زمان أو مكان دون مكان، بل هو صالح لكل الأزمان والأماكن ولكل الناس، وهو منهج حياة متكامل جَمَعَ بين الدين والدنيا، والقول والعمل، والظاهر والباطن، فضمن بذلك للإنسان خيري الدنيا والآخرة، ولذلك جاءت شريعته على قدر كبير من الدقة، والأحكام العامة والخاصة، والمبادئ المجملة والمفصلة، والقواعد المقررة والمستنبطة، ما يجعل هذه الشريعة تصلح لكل مناحي الحياة، وتتسع لكل تطوراتها ومتغيراتها.