يشمل التراث التربويّ الإسلاميّ على ثراء معرفي، وعناية سامية بعالم التربية والتّعليم، وفق مُقاربة نفسية وتربوية معاصرة في سياسة العقاب للأبناء، إذ أيقن القدماء بمركزية التربية في بناء الإنسان جسديًّا، ونفسيًّا، وروحيًّا.
ويعتقد كثير من الآباء أن التربية دون عقاب بدني لا يُمكن أن تؤتي ثمارها، وأن التعنيف اللفظي والمقارنات مع الآخرين أفضل وسيلة لتحفيز الأطفال ودفعهم نحو التميز، لكن عملية العقاب لدى العلماء المسلمين ركزت على الأبعاد الفقهية، والتربوية، والروحية، فنجد أن مُعالجة ابن خلدون قد اتّسمت برؤية جامعة للبعد النفسيّ والروحيّ، مسترشدًا بمفهوم المَلَكَة، وفعاليتها في تنمية الإدراك، والإحساس بالانتماء الحضاريّ، والريادة في السّبق بين الأمم والحضارات.
مفهوم سياسة العقاب
لقد استقرّ في الفكر التربويّ قديمًا وحديثًا أنّ سياسة العقاب للأبناء نتيجة طبيعية لكل سلوك سلبيّ، إلا أن ابن خلدون قدّم قراءة تتخطى عتبة البعد السلوكيّ والاصلاحيّ إلى مفهوم السياسة بأبعادها الواسعة، إذ رأى أن مفهوم العقاب في تربية الوِلدان، عبارة عن:
أ- التأديب في الصغر وعلاقته بسوء المَلَكَة: حيث ينطلق ابن خلدون في حديثه عن أثر الشّدة في المتعلّمين من منطلقات نفسية معيشة، ومشاهدة في تاريخ الأمم والحضارات، مستلهمًا هذا المفهوم من الفكر التربويّ التراثيّ.
ومقتضى ظاهر كلام ابن خلدون أنه ربطَ العقاب الذي هو الشّدة بالصفة الراسخة الثابتة في المتعلّم، ذلك أن الإفراط في القسوة في مرحلة عمرية محددة هي أشد أثرًا باعتبارها مَلَكَة سيئة ملازمة له في مراحل حياته، ومصاحبة له لا تزايله ولا تفارقه مهما حاول الانفكاك منها تبقى راسخة في أعماق وجدانه.
ب- مساوئ مسلك الشّدة، والقهر، والاستبداد، وأثره في المتعلّمين: فغياب وعي الدولة في إدارة أحوال الرعية، وممارسة القهر والإكراه في مجال التربية وغيرها مصدره التخلي عن وظيفة التّسديد التي تروم تحقيق سعادة المجتمع، ورقيّه المعرفيّ والحِرفيّ.
ت- حاجة الصبيان إلى التدبير، والرِفد، والمعاضدة: فالطموح الإنسانيّ غريزة في البشر، والحرص على تحقيقها لا حد له، ولا نهاية، لأنه حاجة لا لغاية، ولو كان الطموح غاية لانتهى بقضائها، ولكن الدنو إلى الحاجات بعد السعي إليها ينشأ من الصغر، وهو أسهل على الأولاد لطبيعة نفسياتهم المرهفة الطموح إلى المراتب العالية، والمقامات السامية.
ث- مسوغات العقاب: يرى ابن خلدون أنّ العقاب في الإسلام ليس غاية لذاته، وإنما وسيلة لتقويم السلوك المنحرف والأخلاق الذميمة. والمتأمل في فلسفة العقاب الإسلاميّ يجد أنها تستند إلى التوازن بين اللين والشدة، وهي وسطية تراعي آدمية الإنسان وكرامته، وهي امتداد لمفهوم الحصانة الذهنية، والنفسية، والإنسانية.
سياسة العقاب من منظور الفقه الإسلاميّ
مراعاةً لحُرمة الطفولة وقداستها وضع الشّارع جملة من الضوابط الفقهية التي توجه سياسة العقاب للأبناء، صونًا لكرامتهم، وحمايتهم من الاستبداد والغصب.
وقد يترتب على الضرب تبعات شرعية ملزمة للمعلّم، ولعل وقوع بعض المعلّمين في خطأ العقوبة وتنفيذها مصدره الاعتقاد بالوصاية الكاملة على المتعلّمين، وهي وصاية غير مشروعة، لأنها لا تستند إلى الإذن بالضرب من ولي الأمر.
ومن ثم يرى الفقهاء أنه: “لا يجوز الإقدام على الضّرب إلاّ بالتّصريح، فليس مجرّد الإذن في التّعليم إذنًا في الضّرب، لأنه لا يستلزمه، فسُكوته عنه يحتمل رضاه به وعدمه. ولا يجوز الاعتماد على العادة ونحوها، إذ العقوبات يُحتاط فيها وتُدرأُ ما أمكن كما أجمعوا عليه. فإذا وُجد الإذن المُعتبر: جازَ للمُعلّم الضّرب على كلّ خُلق سيّء صدر من الولد، وعلى كلّ ما فيه إصلاحٌ للولد”.
والعقاب له ضوابط وأصول وقواعد، يمكن إيجازها في النقاط الآتية:
- الإذن أو التصريح بالضرب، وهذا يدل دلالة واضحة على أن استشارة المعلم أو المربي وليّ الأمر في العقوبة واجب شرعيّ.
- موافقة ولي الأمر على تعليم ابنه أو ابنته لا يستوجب الموافقة على ضربه، كما أن سكوته لا يعني قبول ضربه.
- العقوبة إجراء احتياطيّ واحترازيّ لا يُلجأ إليه إلا لضرورة الإصلاح أو التربية أو التهذيب أو تقويم سلوك منحرف.
- تقييد الإذن بالاعتبار، ومن ثم يُستبعد الإذن غير المؤسَّس على رضى أولياء الأمور، ومن ينوب عنهم شرعًا، وأغلب الظن أن الإذن المعتبَر هو الذي يستند إلى مراعاة واجب الأبوة، وحقوقها، وشروطها، وأحكامها.
- جواز الضرب هو مرحلة أخيرة بعد استيفاء الشروط المنصوص عليها أعلاه.
والمكانة التي أقرّها الشرع الإسلاميّ للمعلّم، والثقة التي منحها إياه لا ينبغي أن تُفهم في إطار السلطة المطلقة التي تدير شؤون الأحداث بمقتضى القهر، بل هي سلطة معنوية مستوحاة من إقرار الإسلام بوظيفة التّعليم المقدسة، وهي سلطة محكومة بضوابط الشرع، ومن ثم دلّ على أن المعلّم أو المربي الذي يسبب ضررًا ماديًا للمتعلم يستحق عقوبة القصاص.
شروط العقاب وحدوده
يجد الناظر في تراث علماء السلوك في الإسلام تباينًا واضحًا في آرائهم في طبيعة نوع سياسة العقاب للأبناء والأطفال، ومقدارها، وحدودها، وشروطها، وإن أجمعوا على ضرورتها عند الحاجة الملحّة والضرورة القصوى.
فهي وسيلة تهذيبية، لإدراك مقاصد جليلة، وغايات شريفة، وليست مقصودة لذاتها كما شاع في بعض المجتمعات العربية والإسلامية التي اعتمدت العقاب غاية لتقويم سلوك منحرف، كما أن بعض المجتمعات العربية والغربية منعتها مطلقًا، ما أدى إلى ظهور حالات من الاعتداء على الأساتذة لدرجة القتل العمديّ داخل الحرم الجامعيّ.
وعناية الإسلام بالطفل بلغت مبلغًا من الحرص، والرعاية لا نجده في الثقافات الغربية الأخرى، ويشهد على هذا الاهتمام الخاص أن بعض العلماء والفقهاء وسّعوا مجال النظر في أدوات العقاب، ووصفوها وصفًا في منتهى الدقة، مراعاة لآدمية الطفل، وحرصًا على حفظ كرامته من مختلف أشكال الإساءة الجسدية والنفسية.
إنّ الغاية المثلى والهدف الأسمى من العقاب هي: الإصلاح، وتقويم الجانب الخُلقيّ من التربية، وأغلب الظن أن في عدم مراعاة هذه الضوابط تعدٍ على حرمة الطفل دون مسوّغ لهذا الاعتداء.
وجدير بالإشارة أنّ التريث، والأناة، والرفق والتؤدة في العقاب مصدره خصوصية عالم الطفولة، وما يترتب عن العقاب من آثار نفسيّة في المجال التربويّ، من قتل لقيم الانتماء، والشعور بالغبن في الصبيان، ما يورّث الوحشة، والانقباض، والنفور من التعلم.
لهذا يرى التربويّون: “أن للعقاب شروطًا يجب أن تراعى كي يكون مثمرًا، منها أنه يجب أن يتلو الذنب مباشرة، وألا يكون من الخفة بحيث لا يجدي، أو من الشّدة بحيث يشعر بالظلم، أو من النوع الذي يجرح الكبرياء، ومنها أن الإسراف في العقاب يُذهب بقيمته، كذلك الحال في التهديد دون العقاب”.
ولحكمة التدرج، ومراعاة مراتب التأديب اعتبِر العقاب من باب التعزير الذي يردع الولد عن معاودة الوقوع في الخطأ، وبهذا الاعتبار يُعدُّ: “التعزير أخف في الحدّ في عدده فلا يجوز أن يُزاد عليه في إيلامه ووجعه”.
فالعقوبة كما أقرّها الفقهاء وعلماء السلوك والتربية لا تخرج عن إطار الزجر، والإصلاح، ومتى تحققت الفائدة منها، وأدت الوظيفة التأديبية المنوطة بها أُجيزت بمقتضى ما وُضعت له.
وقد وُصفت العقوبة عند علماء المسلمين بالضرب المبّرِّح، وإن اختلف الفقهاء في طريقته، وحجمه وشدته، فإنّ الإمام الأنبابيّ- رحمه الله- يرى أنه الضّرب: “الشّديد الإيذاء، بحيث لا يُحتمل عادة، وإنْ لم يُدْمِ البدن. فإذا ظنَّ أنَّه لا يُفيد إلاّ المُبَرَّح: فلا يجوز المُبرَّحُ إجماعًا، ولا لغيره على الأصحِّ، لأنّه لا يُفيد”.
فالضرب الشديد غير جائز عند فقهاء الشريعة الإسلامية، لأنه يبتعد عن مقصد الزجر والإصلاح إلى غاية الانتقام، والقسوة والإكراه، بل إن العلماء لم يجدوا غضاضة في تحريم الضرب المبّرح، وإن كان الوسيلة الوحيدة المتاحة في تصويب سلوك الطفل بعد تطبيق كل أشكال العقوبات الرادعة، والواعظة، والمصلحة.
إنه لا نزاع في أن الشّريعة الإسلامية السمحة شريعة إنسانية، كرّمت الفرد والجماعة وشرّفتهما أيّما تشريف، وبهذا المنطق الأخلاقيّ تُعدّ العقوبة الفظّة الغليظة تجريدًا للإنسان من إنسانيته وآدميته التي جعلها القرآن من مقاصده. فالرفق، واللين، والرحمة من مقوّمات التّشريع الإسلاميّ الذي راعى العقل بوصفه أعدل قسمة بين الناس.
ولا شك أنّ الحفاظ على قدسية الطفولة، وحرمتها، ووقارها، وعذريتها مما يستوجب التأني في النزوع إلى الإساءة الجسدية والنفسية، لأنها شكلٌ من أشكال: “العقاب الذي يجرح كبرياء الفرد؛ إذ أنه قد يولد في نفس المعاقَب الكراهية أو الشعور بالنقص أو فقْد الثقة بالنفس”.
ولعل آثار الضرب الشّديد، وعواقبه الجسدية، والنفسية، والتربوية أفرزت بعض المناهج السلوكية في الفكر الإسلاميّ قديمًا دفعت ببعضهم إلى عدم التّعويل على العقوبة الجسدية، وأن يستبدل بها العقوبة الروحية التي تكتفي ببسط العذر، والتلطف، وعدم المكاشفة في التوبيخ، والتدرج في الترهيب، وغيرها من الآداب السّنيّة، والقيم المَرْضيّة الفاضلة.
كيفية الضرب
وحدّد الفقهاء سياسة العقاب وطريقة الضرب العملية، وكيفياتها المختلفة، والناظر في هذا التحديد يجد أنهم راعوا مقصد الوسطية في العقوبة من جهة، وتجسيد غايات الردع، والزجر، والإصلاح من جهة ثانية.
وفي هذا السياق يفصّل الأنبابيّ طريقة العقوبة، شارحًا مراحلها قائلًا: “أن يكون مُفرّقًا لا مجموعًا في محلٍّ واحدٍ، وأن يكون في غير وجه ومَقتَلٍ، وأن يكون بين الضّربتين زمنٌ يَخفُّ به ألم الأوّل، وأن يرفع الضّارب ذراعه- ليثقل السّوط- لا عضده، حتى يُرى بياض إبطه، فلا يرفعه لئلا يعظم ألمه، ولا يضعه عليه وضعًا لا يتألّم به”.
وجُمّاع الأمر في هذه الطريقة الإنسانية في العقوبة المراعية لشرف الطفل وآدميته، أربع نقاط:
- تفريق الضرب، وعدم تمركزه في منطقة واحدة من الجسم، توزيعًا للألم، وتفريقًا له.
- تجنب مناطق المهالك من الجسم كالوجه، ونحوه من الأعضاء التناسلية.
- مراعاة المهلة الزمنية المطلوبة بين الضربتين، لأن في توالي الضربات مزيد قسوة، وألم، وقهر.
- رفع الذراع دون العضد، تحقيقًا للهيئة الوسطى من الضّرب بين شدّة الألم، وخفةّ الأثر.
من هنا، فإن الحاصل من هذه المقاربة النفسية والتربوية لسياسة العقاب أنها تؤصّل لمنهج تربويّ فريد يستشرف آفاقًا حضاريةً، ومعرفية تتجاوز الأطر التربوية الضيقة إلى فضاءات من الممارسة التعليمية الجادة والفاعلة والمثمرة، تنطلق من رؤية كونية لمفهوم آدمية الإنسان وحرمته وهيبته، في رحاب التربية الإسلامية المسدَّدة بمقاصد الوحي.
المصادر والمراجع
- الدكتور عزيز محمد عدمان: دراسة بعنوان “مقاربة نفسية وتربوية معاصرة في سياسة العقاب نحو منهج تربويّ بديل”.
- موقع ذكريات معلم: بدائل العقاب البدني.. أساليب تربوية حديثة بديلة للعنف البدني واللفظي.
- حنان زين الدين: بدائل العقاب في التعامل مع السلوك غير المرغوب فيه.
- محمد على إبراهيم المالح: كتاب رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم لشمس الدين الأنبابي.
- دنيا الوطن: بدائل العقاب لتعديل سلوك الأطفال.