تخضع حياة الأفراد والأمم إلى سُنن الله الكونية، ومنها سنة الاستبدال في الأرض، فكلَّما حدَث وضع أو نشأت ظاهرة تتطلَّب هذه السّنة، نفذت وتحكَّمت، ولا يحول دون نُفوذها حائل، ولا تنفع في ردِّها حيلة، يقول- سبحانه وتعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 62].
وتتبلور هذه السّنة جليَّة في سقوط الحكومات والقيادات وقيام الأخرى مقامها، وإذا وصل مجتمع إلى حالة يستعصي فيها على التغيير الاجتماعي الإيجابي المطلوب فإن ذلك يكون إيذانًا باستبداله بمجتمع آخر، يكون أقدر منه على حمل الرسالة، وأداء الأمانة، والقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، وتحقيق الشهود الحضاري، لذا يجب الانتباه والوعي بهذه السنة، والعمل بمنهج الإصلاح لتفادي الاستبدال والتغيير.
مفهوم سنة الاستبدال
ويُعرّف الراغب الأصفهاني سنة الاستبدال في كتابه (المفردات) بأنها “جعل الشيء مكان آخر وهو أعم من العوض، فإنّ العوض هو أنْ يصير لك الثاني بإعطاء الأول، والتبديل قد يُقال: للتغيير مطلقًا وإنْ لم يأتِ ببدله”.
والمادّة الأصلية لمفهوم “الاستبدال” هي الحروف الثلاثة الآتية: الباء والدال واللام. وهي تعني في اللغة ترجيح شيء على شيء آخر.
أمّا المفهوم الاصطلاحي للاستبدال، فهو يعني تلك السنة التاريخية في القرآن الكريم التي تجري على البشر (أفرادًا وجماعات)، والتي يُعهد لها رعاية التكليف الإلهي بالخلافة في الأرض طبقا إلى الآية الكريمة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، بوصفه أمانةٌ ربانية حملها الإنسان بحسب استعداده التكويني.
فإذا فشل الإنسان في رعاية هذا التكليف- الأمانة- ولم يكن بمستوى المسؤولية المعهودة إليه؛ فإنه سوف يستبدل بغيره لكي يأخذ دوره هو الآخر في رعاية التكليف، وهذا الأمر ينطبق على الفرد أو الجماعة (القوم أو الملأ) بحسب التعبير القرآني.
سنة الاستبدال في القرآن والسنة
وَوَرَد في القرآن الكريم آيات عديدة تتحدّث عن سنة الاستبدال كفعل منسوبٍ إلى الله- جل وعلا-، ومفعوله هم المسلمون في لغةٍ أشبه بالتهديد، وكأنّها دعوة إلى المسلمين أنّ لا يحسبوا أنّهم القناة الوحيدة لتحقيق إرادة الله تعالى، بل هم إحدى القنوات التي تمرّ من خلالها المشيئة الإلهيّة التي لا بُدّ من أن تتحقّق إذا أراد الله لها أن تتحقّق.
ومن الآيات التي دلّت على هذه السنة الكونية، قول الله تعالى: (هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) [محمد: 38]. ففي هذه الآية يخاطب الله المسلمين ويأمرهم بالإنفاق في سبيل الله، وإن تولوا يذهب الله بهم ويأتِ بقومٍ غيرهم لا يكونوا مثلهم.
وفي أمر القتال، حذّر الله المسلمين بأنهم إن لم ينفروا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإنه سوف يستبدلهم ويعذبهم عذابًا أليمًا، قال تعالى: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة: 39].
ووعد الله المؤمنين الصادقين الذين يعملون الصالحات بأنه سيستخلفهم في الأرض، فقال جل في علاه، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].
وكان لبني إسرائيل شأن في التبديل في كتاب الله، فقد كانوا أهل جدال وكبر، فأمرهم الله- عز وجل- أن يدخلوا باب بيت المقدس ساجدين أي راكعين، وأن يقولوا “حطة”، ومعناها اللهم حط عنا خطايانا، لكنهم ظلموا أنفسهم فبدّلوا هذه الكلمة استهزاء وكبرا وفسادا فقالوا “حنطة”، فأرسل عليهم الله العذاب، قال سبحانه: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [البقرة: 59].
وأكد الله- سبحانه وتعالى- حقيقة أنه خَلَقَ الإنسان وقادر على أن يُبدّل أمثاله، بل وخيرًا منه، قال تعالى: (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الواقعة: 61]. وقال جل شأن: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا) [الإنسان: 28]، وقال سبحانه: (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [المعارج: 41].
وبدّل الله النعمة إلى نقمة للذين أعرضوا عن عبادته وكفروا بنعمته، فقال تعالى: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ: 16].
والله- سبحانه وتعالى- غني عن عباده، والجهاد في غنىً عنهم، بل هم في أمسّ الحاجة إلى الله وإلى الجهاد في سبيله، يقول- عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة: 54].
وشدد النبي- صلى الله عليه وسلم- على أهمية التمسك بدين لله حتى لا يغير الله عباده بآخرين يحبهم ويحبونه، فعن مُرَّة بن كعب البهزي- رضي الله عنه- أنه سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: “لَا تَزَالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي عَلَى الحَقِّ ظاهِرِين على مَن نَاوَأَهُمْ، وَهُمْ كالإِنَاءِ بينَ الأَكَلَةِ حتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وهُمْ كَذَلِكَ”. قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: “بأَكْنَافِ بيتِ المَقْدِسِ” (الطبراني).
وروى البخاري ومسلم عن المغيرة، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ”.
وجاء في السُّنة عن الاستبدال ما رواه الطبراني في (الأوسط)، وابن أبي الدنيا في (قضاء الحوائج) عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إن لله أقوامًا اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم”.
هؤلاء يختارهم الله بديلا عن المتولين
وقد يسأل البعض عن القوم الذين يأتي بهم الله بديلا عن المُتولّين، وهو ما أجاب عنه الصحابي الجليل أبو هريرة- رضي الله عنه- حينما قال: “تلا رسولُ اللَّهِ- صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- هذِهِ الآيةَ يومًا (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38]، قالوا ومَن يستبدلُ بنا، قالَ فضربَ رسولُ اللَّهِ- صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- على منْكبِ سلمانَ، ثمَّ قالَ “هذا وقومُهُ هذا وقومُه” (الترمذي).
وفي هذا الحديثِ يقولُ أبو هُريرةَ- رضِيَ اللهُ عَنه-: قال ناسٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم-: “يا رسولَ اللهِ، مَن هؤلاء الَّذين ذكَر اللهُ”، أي: في قولِ اللهِ تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)، أي: إن تتَولَّوْا عن طاعتِه يَستبدِلْ بكم مَن يكونُ مُطيعًا له- عزَّ وجلَّ-، “إن توَلَّيْنا”، أي: إنْ نحن قصَّرنا وخالَفْنا وأعرَضْنا عن طاعةِ اللهِ وطاعةِ نبيِّه- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم- “استُبدِلوا بِنا”، أي: يأتي اللهُ بقومٍ آخَرين يَنصُرون دينَه ويُعظِّمونه، “ثمَّ لا يَكونوا أمثالَنا”، أي: يَكونوا خيرًا منَّا.
قال أبو هُريرةَ: “وكان سَلْمانُ” الفارسيُّ “بجَنبِ رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم-“، أي: كان قَريبًا مِن النَّبيِّ- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم-، قال أبو هُريرةَ: فضرَب رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم- فَخِذَ سَلْمانَ، ومرادُ ضربِه- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم- هو الإشارةُ له والالتفاتُ إليه، وقال: “هذا وأصحابُه”، إشارةً إلى سَلْمانَ- رضِيَ اللهُ عَنه- وقومِه.
ثمَّ حلَف النَّبيُّ- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم-، فقال: “والَّذي نفْسي بيدِه”، أي: أُقسِمُ بالَّذي حَياتي ورُوحي بيَدِه ؛ وذلك لأنَّ اللهَ هو الَّذي يَملِكُ الأنفُسَ، وكثيرًا ما كان يُقسِمُ النَّبيُّ- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم- بهذا القسَمِ، “لو كان الإيمانُ مَنوطًا”، أي: مُعلَّقًا “بالثُّريَّا”، والثُّريَّا: اسمٌ لِمَجموعةٍ مِن النُّجومِ كانوا يَعرِفونها، “لَتَناوَله رجالٌ مِن فارِسَ”، أي: أخَذه وحصَّله رِجالٌ مِن فارسَ، وهذا إشارةٌ إلى حِرصِهم وشدَّةِ ما يَبذُلونه لخِدْمةِ هذا الدِّينِ.
قيل: إنَّ هذا الخِطَابَ والوعيدَ وإنْ كان للصَّحابةِ- رضِيَ اللهُ عَنهم- إلَّا أنَّه يُرادُ به غيرُهم ممَّن سيَخلُفُهم ويأتي بعدَهم ممَّن قد يَجوزُ تَولِّيه عن رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم-، فيَكونُ بتَولِّيه عنه مِن أهلِ ذلك الوعيدِ، ويكونُ حَرِيًّا بوُقوعِه به؛ لأنَّ الصَّحابةَ- رضِيَ اللهُ عَنهم- هم خِيرتُه لنَبيِّه- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم-، وقد أُعِدَّ لهم ما أُعِدَّ في الآخرةِ، مِن كَرامتِه ورِضْوانِه بما لا يكونُ مِنهم معَه في الدُّنيا التَّولِّي عن رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم-. وفي الحديثِ: فضلُ سَلْمانَ الفارسيِّ رضِيَ اللهُ عَنه وأصحابِه المُؤمنِينَ مِن قَومِه.
شروط خيرية الأمة الإسلامية وتأهلها للقيادة
ووصف القرآن الكريم الأمة الإسلامية بأنها خير أمة أخرجت للناس في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، وهذه الخيرية لها شروط هي:
- الأمر بالمعروف: وهذا هو الشرط الأول لخيرية الأمة بنص الآية، لذا كان هو المهمة الكبرى للأنبياء والمرسلين والصالحين، وعدَّه بضع أهل العلم ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، لما يشتمل عليه من الفضل العظيم، والخير العميم، والفوائد والمصالح العاجلة والآجلة، ولما يترتب على تركه من استشراء الباطل وانتشار الفساد، وغلبة المعاصي وهيمنتها، وهي الجالبة لسخط الله، والمنذرة بمقته وعاجِل عقوبته على الأفراد والأمم.
- النهي عن المنكر: وهو الشرط الثاني لخيرية الأمة، لأنه إذا كثر الخبث وانتشر الفساد ولم يُغيَّر، عمَّ العذاب، فعن أم المؤمنين زينب بنت جحش- رضي الله عنها- قالت: “قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث” (متفقٌ عليه)، وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” (مسلم).
- الإيمان بالله: ولا شك أن هذا الشرط جعل الأمة تحظى بالخيرية، فهو يُقوِّي العزم عند المؤمن، ويزيل أثَر الغثائيَّة والوهن والشعور بالضعف، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173]، وعلى العكس فإن ضعفَ الإيمان أصلُ الأسباب التي تؤدي إلى دنوَّ الهمة عند الأمَّة، وانتشار العجز والكسل في أفرادها.
المسلمون بين الاستبدال والاستعمال
من المؤكد أنّ أمة النبي- صلى الله عليه وسلم- لن تُستبدل؛ فهي آخر الأمم، لكنها تمرّ بمراحل من الضعف والانحطاط، لكن كلمة الله هي الغالبة، حيث أقسم سبحانه تعالى، قائلا: (كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21].
إنّ الإسلام هو دين كل الرسالات، وشريعة النبي- صلى الله عليه وسلم- هي خاتمة الشرائع، لذا فإنّ سنة الاستبدال لا تقع عليها، بل على المسلمين أنفسهم، إذا تولّوا عن طاعة الله وعن نصرة دينه والالتزام بأوامره، أو ابتعدوا عن سنة النبي- صلى الله عليه وسلم-، حيث يأتي الله بمسلمين آخرين يطيعون ربهم ونبيهم الخاتم، ومن هذا المنطلق فإذا صلح الإنسان، صارت رسالته معروضة للعالم بشكل أقوى، وأكثر جذبًا، لذلك هذه السنة في هذه الأمة تجري على أبنائها، وليس على بِنائها.
وعلى الرغم من هذا الوضع الذي يعيشه المسلمون اليوم، هناك مَن يعد العُدّة ليكون المجدد المرتقب؛ وليخرج تلك الأمة من عتمتها، وما إن تشرق الشمس يأخذ بالأسباب ويعمل على بناء نهضتها.
ولا شك أنّ النّصر والاستعمال من جديد لا يقتصر على شخص بعينه، وإنما بجهود المجموع، بعد الإيمان بأن الجميع يحمل مسؤولية هذا النصر، ورسالة التجديد، سيما أنّ ما يحدث هذه الأيام من سيطرة الباطل على الساحة، لم يعتد عليه المسلمون الذين أعزّهم الله بالإسلام، لكن إن ابتغوا العزة في غيره أورثهم ذُلًّا.
وفي تلك المحنة التي يمر بها المسلمون يجب أن نُدرك أنّ سيناريو ضياع الأندلس القديمة، يتكرر الآن وبالإيقاع نفسه، في فلسطين المحتلة! فالاحتلال الاستيطاني على فلسطين يطبق الخطوط نفسها التي اتبعها الإسبان لاحتلال الأندلس، من إبادة الشعب الفلسطيني بالقتل والطرد والتشريد، وإصرارهم على عدم عودة اللاجئين إلى ديارهم، ثم الإكثار من بناء المستعمرات، كل ذلك وغيره ما هو إلا خطوة من خطوات إحلال الشعب الصهيوني مكان الفلسطيني.
والذي يجب أن يشغلنا الآن هو أن يعرف كل منا دوره في الحياة؛ ومن ثَمّ يقوم عليه بأحسن ما يكون، وليعلم كلنا إنما هو على ثغرة عظيمة من ثغور الإسلام، فليحذر وليحرص كل الحرص على ألا يؤتى الإسلام من قبله.
حالات سنة الاستبدال
إن استبدال الأمم ببعضها مُشاهد في تاريخ البشرية، وقد هدد الله عباده المؤمنين بالاستبدال في ثلاث حالات:
أولًا: الردة عن دين الإسلام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54].
وهنا نجد أن التحذير لكل مَن يرتد عن دين الله تعالى والإيمان الصادق به وبتَعاليمه وبأنبيَائه ورسله، فلا يطيعه في أمره ولا يلتزم بأحكامه ولا يعمل بإرادته، بل يستغني ويتولى معرضًا عن الدين الحنيف والملة الحقة، فسوف يستبدل الله به مَن هو أحق منه بهذه المَكْرُمة، ممن يحبون الله ويحبون أن يعبد في أرضه، ولا يرتدون عن تعاليم وأحكام دينه، ولا يتخلفون عن الجهاد والتضحية بكل ما يملكون في سبيله.
ثانيًا: التخلي عن الجهاد، والتولي عن نصرة هذا الدين وإعلاء كلمة الله، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) [التوبة: 38-39].
ثالثًا: التولي عن الإنفاق في سبيل الله، لقوله سبحانه (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].
ويبقى الأمان أن تقف في جانب الحق حتى لو بدا مهيضًا أو منكسرًا إلى حين، فكل هذه الموازين والتقلبات مؤقتة، والأمور تتغير، وما زالت أنهار الحياة جارية تتقلب أمواجها، والباطل خفيف وبيء، فلا يخدعنك أحد أنه مستقر، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105).
إنّ سنة الاستبدال هي إحدى السنن الإلهية التي تجري على الأمم والأفراد، ورعايتها والالتزام بقواعدها الواردة في الشريعة الغراء يكفل للأمة حصولها على مرضاة الله، وبالتالي الاستمرار في الاستخلاف، والعكس بالعكس فإن إهمال تلك القواعد كفيل بحصول النتائج السلبية، ووقوع الاستبدال بقوم آخرين.
مصادر ومراجع:
- الراغب الأصفهاني: مفردات غريب القرآن، ص 39.
- حسان عبد الله: سُنَّةُ “الاستبدال” في القرآن الكريم وواقع الأمة.
- ماجد الندابي: الاستبدال في القرآن الكريم.
- محمد ساجد القاسمي: استبدال الأمم والحكومات من السنن الإلهية.
- مدحت القصراوي: حالات الاستبدال الرباني والحقيقة وراءه.