بقلم الدكتور: سناء أبو زيد
أولًا: أهمية هذه القاعدة
لا بد أن يوطِّن المرء نفسه على تحرِّي الحق دائمًا ومتابعته وربط مصيره به فيكون معه حيث يكون، ويدور معه حيث يدور، وفي الوقت نفسه يجب التحرز من الارتباط بالأشخاص.
وهذه القاعدة تفرضها الأسباب الآتية:
أ) ثبات الحق وزوال الأشخاص:
فالحق قديم، والحق خالد، والحق واحد، وقد استمدَّ الحق صفاته هذه من الله عز وجل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)﴾ (الحج: 62).
والأشخاص يزولون ويتقلبون، وتتنازعهم الأهواء والشهوات، وتعتريهم الشبهات، ويغويهم الشيطان، وتغلبهم النفس، ويكون الارتباط بهم كالمشي على أرض تميد أو تمور، أو كركوب سفينة تتقاذفها الأمواج ويتهددها الغرق والهلاك.
ب) الحق حاكم والأشخاص محكومون:
فالحق يحكم على الأشخاص بصلاحهم أو فسادهم، وباستقامتهم أو انحرافهم، وبهداهم أو ضلالهم. ويوزن الأشخاص بميزان الحق، فيثقل من ثقل الحق معه، ويخف مَن يخف الحق معه، ولا وزن البتة لمن تنكَّر للحق وأدار له ظهره: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8)﴾ (الأعراف: 8). ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَأمَةِ وَزْنًا (105)﴾ (الكهف).
ثانيًا: أسباب التنازع مع الحق
قلما تُسِلم النفس قيادها للحق طائعةً مختارةً، ولكن تتنازعها النوازع وتتدافعها الدوافع، إلا مَن أخذها بشدة وألجمها بلجام التقوى وربَّاها وزكاها ففاز وسعد: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس).
ومن هذه النوازع:
أ) اتباع الهوى:
فهناك مَن يسارع فيما يمليه عليه هواه وما يشير به رأيه، ويميل إليه مزاجه من غير أن يقيس أمره بمقياس الحق، وهذا من أشدِّ الناس ضلالًا وعمى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾ (القصص). ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)﴾ (الجاثية).
ب) رؤية النفس:
وهي داء وبيل، يرى المصاب به نفسه فوق غيره ويعتبر نفسه مرجعًا يُقاس عليه، ولا يخضع هو لمقاييس الحق المقررة، وبالتالي يعمى عن الحق ويضرب بعيدًا عنه، وأول المبتلين بهذا الداء إبليس اللعين، الذي أُمر أن يسجد لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين بدافعٍ من رؤيةِ النفس، كما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾ (الأعراف).
وقد صدَّت هذه العلة فرعون عن السبيل، فضلَّ هو وأضلَّ قومه معه، كما ورد في قوله تعالى على لسانه: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)﴾ (الزخرف)، وقد أرسل يوسف بن الحسن إلى الجنيد ناصحًا فقال: «لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذقته مرةً لم تذق بعدها خيرًا قط».
ج) مسايرة الواقع:
فقد يفرض الواقع الباطل نفسه وتستهوي الأعراف والتقاليد مَن لم يستهدِ بنورِ الحق في طريق الحياة، فتراه متشبثًا بما اعتاد من باطلٍ، مقاومًا لكل تغيير ولو إلى الحق، كما في قوله تعالى: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)﴾ (ص).
وإن تعجب فعجبٌ دعاء المشركين عندما التقوا بالمسلمين في بدر: «اللهم أقطعنا للرحم ومَن أتانا بما لا نعرف»؛ أي عليك بأقطعنا للرحم ومَن أتانا بما لا نعرف قاصدين بذلك رسول الله ﷺ!
د) اتباع الآباء:
فمن الناس مَن يُفتن بمسلك الآباء، مهما جافى الصواب وجانب الحق، كما في قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)﴾ (الزخرف).
هـ) التبعية للأشخاص عمومًا:
إما لزعامتهم المسيطرة وقوة شخصيتهم وشدة تأثيرهم في غيرهم، أو لمبالغتهم في جانب من جوانب الحق.
1- ومثال الأول في قوله عز وجل: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)﴾ (الأحزاب).
فها هو موقف الندم والحسرة بعد فوات الأوان. فيتمنون أن يكونوا قد اتبعوا الحقَّ ممثلًا في مصدريه كتاب الله والرسول ﷺ، ثم يقرون باتباعهم الزعماء والوجهاء والكبراء، فما رجعوا بغير الغواية والضلالة في الدنيا ثم الوبال والنكال في الآخرة، وقد رأينا هذا في مسيلمة الكذاب مع قومه حين تابعوه على ضلالته، وما كاد يسلم من تلك الفتنة أحد منهم حتى لقوا حتفهم بسيوف المسلمين في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
2- ومثال الثاني: فتنة الخوارج، فقد تبعهم التابعون وفُتن بهم المفتونون؛ لمبالغتهم في باب العبادات والطاعات، ولكنهم شطحوا بفكرهم بعيدًا، وضلوا ضلالًا كبيرًا، حتى خرجوا من الإسلام كما يخرج السهم من الرمية، وخرج معهم مَن بهرتهم عبادتهم وارتبطوا بهم بسببها، وقد قال النبي ﷺ عنهم: «تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقيامكم إلى قيامهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
و) الخوف:
فقد يتملك الخوف قلوب الناس حين يعرض عليهم الحق ويتخيلون صنوفًا من الإيذاء والابتلاء تصادفهم إن هم اتبعوه. فيؤثرون العافية ويركنون إلى الدعة والراحة باستمرارهم على الباطل: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)﴾ (القصص).
وما حملهم على هذا- في الواقع- إلا الجهل بحقيقة الأمور ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام: من الآية 37)، وكذلك السقوط في شراك الكيد الشيطاني رغم أنه ضعيفٌ في ذاته ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء: من الآية 76)، ثم هو يخوف بضعاف من أوليائه: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)﴾ (آل عمران).
ثالثًا: صور الارتباط بالحق
1- المفارقة الكاملة إلى الحق:
فقط يرتبط الناس بروابط متينة من قربى أو رحم أو مصاهرة ويضربون معًا في بيداء الحياة من غير نورٍ ولا بصيرة ولا هدى، ثم يجيء منادي الإيمان وداعي الحق فيبادر بعضهم بالإجابة والاتباع، ويستعلي على تلك الأواصر السالفة، ويستخف بها عند تعارضها مع الحق الذي آمن به وصار أغلى وأعلى ما يعتز به ويحرص عليه.
ونماذج هذا فيما يلي:
أ) أبو بكر مع ابنه: فحين أخبره ابنه وكان في صفوف المشركين أنه كان يتحاشاه في القتال في بدر، أجابه أبوه الصديق: «ولكني كنتُ حريصًا على قتلك ولو كنت في مرمى سهمي لقتلتك».
ب) إبراهيم الخليل وأبوه: فقد تبرَّأ من أبيه حين تبيَّن أنه عدوٌّ لله عز وجل بعد أن وعده بالاستغفار له، وقد كان أبرَّ الناس بأبيه، وأرقَّ الناس معه، وأحرصَ الناس عليه: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)﴾ (التوبة: 114).
ج) سعد بن أبي وقاص وأمه: فقد نذرت أمه ألا تطعم طعامًا ولا تشرب شرابًا ولا تستظل ولا تمتشط حتى يترك محمدًا، فأعطى للدنيا بأسرها درسًا بليغًا في إيثار الحقِّ واستعلائه على أوثق الوشائج: «والله يا أمي لو كانت لك مائة نفس خرجت نفسًا نفسًا ما أنا بتاركٍ ديني».
د) مصعب بن عمير وأخوه: فها هو أخوه يرسف في أغلاله ويمسك أحد المسلمين بتلابيبه – وكان من أسرى بدر- ثم يلمح أخاه مصعبًا وهو في هذه الحال البئيسة فكان له مثل قارب النجاة للغريق ولكنه فوجئ بصدمة عنيفة حين قال مصعب لمَن يأسره: «اشدد عليه فإنَّ له أمًا ذات ثراء ولعلها أن تفديه»، فيرد متحسرًا منكسرًا «أهذه وصاتك بأخيك؟ ». فيصدمه مصعب صدمةً أشد بقوله: «هو أخي دونك»، يا سبحان الله! ألهذا الحدِّ يصنع الحق في القلوب؟ نعم. وأشد!
2- غياب رمز الحق:
فقد يغيب عن الساحة رمز الحق وحامل لوائه بموتٍ أو غيره فما يصنع حينئذٍ جندُ الحق وناصروه؟ ينكثون وينصرفون والعياذ بالله أم يستمسكون ويصبرون ويثبتون ويواصلون. وهذا ما نوضحه فيما يلي:
أ) موت النبي ﷺ: فقد انتقل رسول الله ﷺ إلى الرفيق الأعلى فزلزل الخبر الناسَ زلزالًا شديدًا فهذا ينتحب وهذا ينشج، وهذا صريعٌ مغشي عليه، حتى عمر رضي الله عنه عندما أطلق الخبر ما صدَّقه بل هدد وتوعد بأن ينكل بكل مَن يقول به وقال: «لقد أخذته إغشاءة وليقومن فيقطع ألسنة قوم منافقين قالوا إنه مات. ما مات وما يموت حتى يكون آخرنا».
وقد صوَّرت السيدة عائشة حال الناس في هذه المصيبة: «كان الناسُ كمعزى صغيرة في ليلةٍ مطيرة» ثم يأتي أبو بكر برسوخِ إيمانه وحكمته وحزمه فيستيقن الأمر ثم يصعد المنبر ويقول بملءِ فيه لتظل ترن في آذان الدنيا وتسجل درسًا بليغًا في الارتباط بالمبادئ والحقِّ لا بالأشخاص، ولا حتى برسول الله ﷺ سيد الأولين والآخرين: «أيها الناس، مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)﴾ (آل عمران)، فسكن عمر وخَّر مغشيًّا عليه، ثم أفاق من غشيته الأخيرة هذه، وغشية الموقف الأولى وقال: «كأني لم أقرأها من قبل».
ب) شائعة موت النبي ﷺ في أحد: فقد سرت هذه الشائعة في الناس سريان النار في الهشيم، وقعد الناس حيارى مستسلمين تاركين القتال، وما زال الأعداء يصولون ويجولون في ساحة المعركة يُعملون سيوفهم في رقابِ المؤمنين، وفي هذه الأثناء يمر أنس بن النضر- رضي الله عنه – بعمر وطلحة بن عبيد الله وهم قعود يبكون فيسأل: «ما أقعدكم هكذا» فتكون الإجابة: «قُتل رسول الله ﷺ»، فيعطيهم درسًا بليغًا بكلمات الإيمان العميق والوعي الدقيق: «قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ»،
ثم انطلق هو كالعاصفة القاصفة تدمر كل شيء بأمر ربها حتى نال الشهادة ولقي ربَّه مع الصادقين، وقد أصابته بضع وثمانون جراحة – بل وسامًا – فلم يعرفه أحدٌ إلا أخته عرفته ببنانه، وفي مثله نزل قول الله تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾ (الأحزاب).
3- الانحياز إلى الحق في موقف:
فقد يخالف الناس شيئًا من مقتضيات الالتزام بالحقِّ في موقف من المواقف أو قد يقعد الناس عن واجب يمليه الاستمساك بالحق فنرى فريقًا آخر ممن عرف معنى الارتباط بالمبادئ ينحازون إلى الحقِّ ويؤثرونه على سائرِ العلائق والوشائج كما يتضح في الأمثلة التالية:
أ) عبد الله بن عبد الله بن أُبي وأبوه: فحين قال أبوه مقالته الشنعاء «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» وقف له بسيفه على مشارف المدينة متحديًا ومؤدبًا «أنت القائل كذا، والله لتعلمن لمَن العزة اليوم لك أم لرسول الله، والله لا يؤويك ظله ولا تؤويه أبدًا – أي بيته – إلا بإذنٍ من رسول الله ﷺ».
ب) رجل يخذف: فقد رأى رجل رجلًا آخر يخذف (يرمي بالحجارة) فقال له: «نهى رسول الله ﷺعن الخذف وقال إنه لا يصيد صيدًا ولا يقتل عدوًا، ثم رآه مرةً أخرى يخذف أيضًا فقال له: «أقول لك نهى رسول الله ﷺ عن الخذف بالحجارة وأراك تخذف، والله لا أكلمك أبدًا».
ج) الكُرار في غزوة مؤتة: انسحب خالد – رضي الله عنه – بالمسلمين من وجهِ الروم في غزوة مؤتة بحيلةٍ بارعة وقدم بالجند سالمين إلى المدينة، فما استساغ الناس هذا واعتبروه فرارًا من الزحف فجعلوا يعيرونهم بقولهم: يا فرار. وما كان ذلك إلا انسياقًا وراء ما تقتضيه نصرة الحق من الثبات والاستبسال ولتكن النتائج ما تكون. إلا أن النبي ﷺ صحح النظرة برده عليهم «بل هم الكرار أنا فئتهم»، فبيَّن أن هذا ليس الفرار المنهي عنه المتوعد عليه بغضبِ الله وعذاب النار، وإنما هو تحيز إلى فئة، وهو سائغ لا شيء فيه حين يلقى المسلمون عدوًا لا قبلَ لهم به عددًا وعدة.
د) الثلاثة المخلفون: فحين قال النبي ﷺ كلمة واحدة «لا تكلموهم» تنكَّرت لهم الأرض فلم تعد الأرض التي يعرفون – أرض التحاب والتآخي – للحدِّ الذي جعل ابن عم كعب بن مالك لا يرد عليه مجرد السلام، وقد قصد الأخير بيته وتسوَّر البيت عليه حين لم يأذن له ابن عمه وجعل كعب يكلمه والآخر لائذٌ بالصمت لا يرد عليه شيئًا حتى إذا استيأس منه رجع كَسيفَ البال بئيس الحال. وما حمله على هذا الموقف إلا التزام الحق على حساب الصلات الشخصية مهما كانت قويةً وعميقة.
هـ) أبو خيثمة: فقد ظلَّ يتردد في خروجه مع النبي ﷺ لغزوة العسرة حتى فصل الجيش ثم نزل النبي منزلًا على مقربةٍ من المدينة ليتفقد الرجال فسأل: «ما فعل أبو خيثمة؟» قالوا تخلَّف يا رسول الله. فكان الرد قويًّا قاطعًا: «إن يكن به خير فسيلحقه الله بكم. وإن كان غير ذلك فقد أراحكم الله منه»، هكذا بوضوح، قافلة الحق تسير لا تبالي بالقاعدين المتخلفين مهما كان قدرهم وتاريخهم. فشقَّ هذا على المسلمين.
ثم مضت لحظات فإذا بالحارس يقول: «هذا راكبٌ على الطريق يا رسول الله»، فقال الرسول ﷺ: «كن أبا خيثمة»، وقد كان فعلًا وما كان للنبي أن يخطئ الظن فيه، وهو يعرف رجاله وجنوده حق المعرفة. ولكن لم يمنعه ذلك أن يقرر القاعدة السابقة ويطلق ذلك الشعار الخالد «إن يكن به خير فسيلحقه الله بكم»، وقد تكرر هذا الأمر أيضًا بالنسبة لأبي ذر، وقال ﷺ القول نفسه حين علم بتخلفه ثم لحق أبو ذر بهم راجلًا حاملًا متاعه حين أبطأ به بعيره. وحين أخبر الحراس باقتراب سواد هذا الرجل قال صلى الله عليه وسلم «كن أبا ذر» فكان فعلًا.
رابعًا: حسنة وحيدة
وإن كان للارتباط بالأشخاص لا بالمبادئ ما له من الأضرار والأخطار كما علمنا فإن له حسنة لا نغفلها. وذلك حين يستفيد الفرد من صلته بغيره وثقتهم به واتباعهم له في اصطحابهم معه إلى ساحةِ الحق الذي آمن به، ونسوق هذه النماذج إيضاحًا لها المعنى:
أ- ضمام بن ثعلبة:
فقد جاء إلى رسول الله ﷺ يسأله عن أركان الإسلام ثم عاهده على الالتزام بها من غير زيادةٍ ولا نقصان ثمنًا للجنة، وقال عنه ﷺ: «أفلح ذو العقيصتين – الضفيرتين – إن صدق»، ولكنه بدأ بالدعوة إلى الله حين رجع إلى قومه وكان يستفزهم بقوله: «بئست اللات والعزى» فيفزعون قائلين: «صه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام» فكان يرد بمنطق الإيمان القوي الذي يأخذ بالألباب ويفتح القلوب مذكرًا بالله عز وجل مع بيان حقيقة تلك الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع ولا تخفض ولا ترفع ولا تعطي ولا تمنع. حتى أسلم قومه عن آخرهم فكان أيمنَ وافدٍ على قومه.
ب- سعد بن معاذ:
فحين أسلم على يدي مصعب بن عمير رجع إلى قومه بني عبد الأشهل فجمعهم وسألهم: «يا بني عبد الأشهل ما تظنونني فيكم» قالوا: «سيدنا وابن سيدنا» فقال:«فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علىَّ حتى تشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، فما بات أحدٌ من بني عبد الأشهل إلا مسلمًا.
والله من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين