بقلم: د. صلاح عبد الحق
يتمتع عالمنا الإسلامي بموقع جغرافي ممتاز، وثروات طبيعية ضخمة، وتقاليد ثقافية عريقة، وقبل ذلك وبعده بالفكرة الحية، وهي: دين للناس كافة ومنهج للحياة عامة، وهو ما أغرى به خصومه في محاولة الاستيلاء عليه وهدمه؛ الاستيلاء عليه من الخارج، وهدمه من الداخل، وهو ما استغرق منهم قرنين من الزمان.
وكانت لحظة سقوط الخلافة لحظة مؤثرة وحدثا فادحا، فتح الطريق أمام سيطرة مرجعيات جديدة؛ سياسية وثقافية واقتصادية وفكرية واجتماعية على العقول والأوضاع، وهو ما أدى إلى فوضى بلا حدود وضعف بلا حدود في عالمنا الإسلامي من ناحية، أمام قوة بلا حدود ونظام محكم بلا حدود في معسكر الأعداء من ناحية أخرى.
وجاء الإمام البنا -رحمه الله- والمسلمون في وضع قلق؛ اندفاعات دون المستوى، أو تضحيات فوق المطلوب؛ أمام خلاف بِدعي تسيل فيه الدماء ،وأمام سقوط الخلافة حلقات النشيد والذكر، ما أدى إلى بيئات محطمة أنتجها هذا الوضع القلق؛ بيئات محطمة من الميوعة والاستهتار، ومن عقدة النقص والدونية والإعجاب بالخصم إعجابا أدى إلى تقليده في كل ما صدر عنه، وإلى فقدان الثقة في صلاحية الإسلام، وفي أهليته لإصلاح الوجود، وصلاحيته للبقاء والجدود.
فجاء الإمام البنا -رحمه الله- فطرح الفكرة والتنظيم، أمام اغتراب الأمة وضياع الدولة؛ فطرح الفكرة من أجل إحياء الأمة، وطرح التنظيم من أجل إقامة الدولة.
أبرز سمات الفكرة الإسلامية كما طرحها الإمام البنا
- فكرة جامعة
طرح الإمام البنا الفكرة جامعة، لا تحمل طابعا خاصا -كما كان يقول-، قوامها العلم والتربية والجهاد، لأنه كان يدرك أن حاجة الفكرة إلى الأمة أكبر وأولى، وأن الجماعة مهما اتسعت فلن تكون الأمة، وأن الجماعة إذا احتكرت الفكرة أضرت بها إذا اختفت أو تقلص دورها، فطرحها جامعة من أجل إحياء الأمة، لا تحمل طابعا خاصا، قوامها العلم والتربية والجهاد.
- فكرة واضحة
طرحها واضحة تصل إلى الناس بلا عوائق؛ “الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جيش وفكرة أو جهاد ودعوة، كما أنه عقيدة صادقة وعبادة صحيحة.. سواء بسواء”.
- فكرة بسيطة
وطرحها بسيطة تناسب كل بيئة، فليس هناك بيئة تناسبها وأخرى لا تناسبها. يقول الإمام البنا رحمه الله -رحمه الله- نتقدم بدعوتنا إلى كل من شهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، مهما كان مقصرا في ما دون ذلك من تعاليم الإسلام وأفكاره.
تناسب كل بيئة فليس هناك بيئة تناسبها وأخرى لا تناسبها، هؤلاء الذين يريدون أن يعيشوا بالإسلام وأن يعملوا له، وهؤلاء الذين يريدون أن يعيشوا به ولا ينتمون لتنظيم يعمل له، وقبلهم الإمام البنا رحمه الله وقال في حقهم: “إنهم رأي عام يعمل دون إكراه بشكل مؤثر وفعال، وهو ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عاقل، ومن تأخر عنا اليوم فسيلحق بنا غدا وللسابق عليه الفضل”.
يقول روبير جاكسون أحد الذين كتبوا عن الإمام البنا -رحمه الله- في كتابه (حسن البنا الرجل القرآني): “سمعت أنه حدث اللصوص يوما ففهموا عنه حين بشرهم بالتوبة ويسر لهم طريق الغفران، فأقبلت الجموع عليه، فأحست السلطة بخطره فلم يكن بد من الإطاحة به باغتياله، وهو ما كان”.
ومن بساطتها قوله رحمه الله: ” تستطيع أن تجمع مظاهرها في خمس كلمات: البساطة، والتلاوة، والصلاة ،والجندية، والخلق. وتستطيع أن تجمع مبادئها في خمسة كلمات أخرى: الله غايتنا، الرسول قدوتنا، القرآن شرعتنا، الجهاد وسيلتنا، الموت في سبيل الله أمنيتنا”.
- فكرة محددة
وطرحها محددة يسهل الاستدلال عليها: “القرآن الكريم والسنة المطهرة هما مرجع كل مسلم في تفهم أحكام الإسلام ويفهم القرآن الكريم طبقا لقواعد اللغة العربية الصحيحة من غير تكلف ولا تعسف ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وما جاءنا من السلف الصالح رضوان الله عليهم موافقا لكتاب الله وسنة رسوله قبلناه وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع”، هكذا طرحها محددة يسهل الاستدلال عليها.
ويقول روبير جاكسون: “إنه جمع في عرضه لها عرضا لائقا كريما الغايات والعزائم، سألته يوما إلام تدعو؟ -ولم يكن يعرف لغة أجنبية رغم أسلوبه الأخاذ وعباراته الخلابة- فتطوع بعض من تلامذته بالإجابة، وبعد فترة وجيزة لمح الحيرة في وجهي؛ فقال لبعض تلامذته: اسألوه: أتعرف محمدا؟
فقلت نعم.
قال اسألوه: أتعرف ما صنع؟
قلت: نعم.
قال: قولوا له: “نحن ندعو إلى ما دعا إليه لنصنع ما صنع”.
يقول روبير جاكسون: فأدركت أن الحوادث أكبر منه، وأن الأيام لن تمهله، وأنه لم يكن هناك بد من الإطاحة به باغتياله وهو ما كان؛ لأن الغرب لم يكن ليقف مكتوف الأيدي أمام هذا الرجل الذي عرف رجل الشارع بدعوته، وخفت ريح الإباحية والإلحاد والجنس واعتدلت لهجات الكتاب لتجري مع الريح الإسلامية”.
- فكرة أصيلة
وطرحها أصيلة ليست اختراعا جديدا، كتب التاريخ لا تزال تحفظها وذاكرة الأمة لا تزال تعيها، كثيرا ما كان يقول إن ما نُدلي به اليوم إليكم ونقصه اليوم عليكم كان عند أسلافكم بدهيا قريبا في الوقت الذي هو عندكم غامضا بعيدا.
- بعيدة عن مواطن الخلاف
ونأى بها عن مواطن الخلاف؛ لأنه كان يعلم أن أعظم ما انتصر به المسلمون قديما كان هو الحب والوحدة، وأن أعظم ما ابتلوا به الفرقة والخلاف، فنأى بها عن مواطن الخلاف ليحتفظ بنفسه في منطقة قوته ليبدو صاحب قضية وليس صاحب شغب، وأن ما يعرضه على الأمة من قضية إنما هي تهمهم كمصير.
يقول فريد عبد الخالق في ذكرياته عن الإمام البنا، عندما سأله أحمد منصور في برنامج شاهد على العصر: لو استقبلت من أمرك ما استدبرت تعود إلى السير معه وقد تحملت في سبيل ذلك المخاطر والآلام؟
قال: نعم؛ لأني معه عرفت ديني وعرفت أنه يكفيني.
- إنها قضية تهم الأمة كمصير
ومما يحفظه التاريخ وتعيه ذاكرة الأمة موقف الإمام أحمد بن حنبل في قضية خلق القرآن، لقد رفض تماما أن يدخل بها في مواطن الخلاف، ويعرضها كقضية فلسفية؛ لذلك أبى أن يتكلم مع المعتزلة في جدالهم معه حول قضايا الفلسفات البالية القديمة، التي ورثناها من حضارات سالفة بالية، وقال لهم أسألكم سؤالا واحدا -لتبدو القضية على أنها تهم الأمة كمصير وليست قضية فلسفية- فقال لهم: هل ما تتكلمون فيه علمه رسول الله أم جهله؟ فسكتوا. ثم قالوا: علمه وسكت عنه. قال: ألا يسعكم ما وسعه؟ فقام الخليفة من مجلسه.
فبدا بصاحب قضية وليس بصاحب شغب، حتى أن الأمة بعلمائها وزهادها وعامتها ودهمائها وقفوا خلفه.
يقولون: إن بشر بن الحارث -وهو أحد المتصوفة الكبار الزهاد- خرج من خلوته ومعتكفه ووقف أمام القصر الذي يمتحن فيه أحمد بن حنبل، فلما سأله الحراس عن ذلك، قال: لأنه لو سقط قمتُ مقامه. فكان يرى أن القضية تهمه كمصير.
كذلك العامة والدهماء، حتى اللصوص، يقول الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: وأنا في محبسي أستعد لأن أمتحن، دخل علي الحراس بالقيود والسياط، فإذا برجل يربت على كتفي؛ فالتفت، فقال أنا أبو الهيثم عيار (لص)، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني مجلود ثمانية عشر ألف جلدة متفرقات من أجل الدنيا (كتعاذير في سرقات سرقها)، وما أنت فيه من أجل الدين، فاصبر واحتسب. يقول الإمام أحمد: فساندني وقواني.
وحتى صاحب الشرطة يسأله المعتصم: ما تقول فيه؟ أتعرفه؟ قال: نعم أعرفه، إنه يرى الصلاة خلفك والحج والجهاد معك. فأدرك أنه صاحب قضية وليس صاحب شغب.. قضية تهم الأمة كمصير.
ولذلك نأى بنفسه عن منطقة الخلاف، ليحتفظ بها في منطقة قوته وهي الغايات والعزائم، يقول الإمام البنا رحمه الله: “إذا قيل لكم إلام تدعون؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، الحرية فريضة من فرائضه والحكومة جزء منه”، وهي الغايات والعزائم ونأى بهم عن مواطن الخلاف.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم