إن سلامة البيئة والمحافظة عليها لم تسنها القوانين والتشريعات فقط بل هي نهج الإسلام في أصول تشريعاته، لأن علاقة الإنسان بالبيئة علاقة طردية مترابطة تنعكس على سلامة النفس البشرية.
أولى الإسلام اهتماما كبيرًا بسلامة البيئة، فكان له السبق في وضع التشريعات والقواعد التي تنظم العلاقة بين الإنسان وبيئته للحفاظ على مواردها المختلفة وضمان استقرارها وسلامتها. وهذا يتفق ونظرة الإسلام إلى الكون الذي هو من صنع الله وتدبيره، وضرورة الحفاظ عليه، كما في قوله تعالى:{كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة :60).
وقد بيَّن لنا القرآن الكريم أن الله خلق الإنسان ليكون خليفته في الأرض ليُعَمِّرَ فيها، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(البقرة: 30). ولذا فإن هذا الاستخلاف يوجب على الإنسان المحافظة على البيئة وإعمارها، فالله سخر للإنسان كل شيء. قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (الجاثية:13).
تعريف البيئة
البيئة في اللغة مشتقة من (البوء) وهو القرار أو اللزوم والمرجع. قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ) (الحشر: 9). والتبوّؤ يعني اتخاذ المسكن وإلفه والتزامه.
أما البيئة في الاصطلاح: فهي المحيط الذي يُوجَدُ فيه الإنسان وما فيه من عوامل وعناصر تؤثر في تكوينه وأسلوب حياته.
ويمكن تعريف البيئة بأنها المحيط الذي يعيش فيه الإنسان ويبوء إليه (يرجع) إذا سافر أو اغترب بعيدا عنه. وهذه البيئة تشمل البيئة الجامدة والحية. فالبيئة الجامدة تشمل (الطبيعة) التي خلقها الله، و(الصناعية) التي صنعها الإنسان. والبيئة الحية تشمل الإنسان والحيوان والنبات.
دور الإنسان في البيئة
إن دور الإنسان في البيئة هو الدور الأساسي والرئيس، ولذا فعليه أن يرعى لها حقها لتؤدي له حقه. ويتمثل هذا الدور في مهام ثلاثة، تعد هي الأهداف الكبرى للحياة الإنسانية، أو كما عبر عنها الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه (الذريعة إلى مكارم الشريعة) هي مقاصد الله تعالى من المكلفين:
المقصد الأول: عبادة الله، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56). والعبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، فهي تستوعب كل مجالات الحياة.
المقصد الثاني: الخلافة لله في الأرض، قال تعالى:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(البقرة:30). وخلافة الله إنما تتم بإقامة الحق والعدل، ونشر الخير والصلاح.
المقصد الثالث: عمارة الأرض، قال تعالى:{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61). ومعنى (استعمركم): طلب إليكم أن تعمِّروها.
وعمارة الأرض تتم بالغرس والزرع والبناء والإصلاح والإحياء والبعد عن كل فساد أو إخلال. وهذه المقاصد كلها متداخلة ومتكاملة ومتلازمة، فعمارة الأرض تدخل في الخلافة، وكلتاهما ضرب من العبادة لله تعالى، كما أن العبادة تدخل في الخلافة، فلا خلافة بلا عبادة.
أما فساد البيئة فإنه يحدث بسبب ظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}. (الروم:41). ويرجع فساد البيئة لعدة أسباب تتمثل في:
- تغيير خلق الله: أي خروج الإنسان من سواء الفطرة واستقامتها إلى الميل والانحراف إلى اليمين أو اليسار[5].
- الظلم: حيث يشمل ظلم الإنسان لنفسه، أو لغيره، أو للبيئة. فالظلم والإساءة مما حرمه الله على عباده، في التعامل مع عناصر البيئة، كما في التعامل مع الإنسان.
- العلو في الأرض: المقصود بالعلوِّ هو طغيان الإنسان واستكباره بغير حق وتجاوزه حده. كما تمثَّل في فرعون الذي قاله فيه القرآن:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ}(القصص:4).
- اتباع الهوى: إن من أعظم ما يفسد سلامة البيئة هو اتباع الإنسان لهواه وركضه وراء شهواته على حساب المُثل العليا.
- الانحراف عن الميزان الكوني: إن إنحراف الإنسان عن الميزان الكوني الذي أقام الله عليه هذا العالم، فيه إفساد للكون وسلامة البيئة وذلك بتجاوز العدل والقسط. قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8).
- الكفر بأنعم الله: آتى الله الإنسان نعما كثيرة، حتى إن أغلاها عند الإنسان تُوَفَّر له مجانا، كالماء والهواء والشمس والضياء. بيد أن الإنسان لم يرعَ حقها ولم يؤد شكرها، وهذا هو كفران النعمة التي يؤدي إلى زوالها.
نظرة الإسلام إلى البيئة
إن من أجمل ما قام به المنهج الإسلامي هو إنشاء علاقة بين الإنسان والبيئة والكون من حوله، وهذه العلاقة تتمثل في أمرين: أولهما أن الإنسان خليفة الله في الأرض، ومن ثمَّ عليه الاستثمار فيه والحفاظ عليه. والثاني: أنه مجال رحب للتدبُّر والتفكُّر والتأمُّل للوصول إلى معرفة خالقه ومُدَبِّره.
وقد قامت هذه العلاقة على عدة أمور منها: إنشاء عاطفة الود والحب لما حول الإنسان من كائنات جامدة أو حية، وفي ذلك بيَّن القرآن أن الأحياء والدواب والطيور يراها أمُما أمثالنا، لكل أمة خصائصها وطرائقها، قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}(الأنعام: 38). وغير الأحياء من الكائنات يراها ساجدة مسبحة لله، قال تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(الإسراء: 44)[9].
وفي السنة النبوية عبر النبي عن هذا الود وهذا الأنس بهذه المخلوقات وهو عائد إلى المدينة من غزوة تبوك، وقد أشرف على المدينة، ولاح (ظهر) له جبل أحد، فقال: “هذه طابة، وهذا أُحد، جبل يحبنا ونحبه” [متفق عليه عن أبي حُميد كما في اللؤلؤ والمرجان (880)، طابة: اسم من أسماء المدينة].
فهذا الحُب الذي أظهره الرسول يُبين الأنُس بالبيئة، فبالرغم من أن هذا الجبل وقعت بجواره غزوة أحد -التي استشهد فيها سبعون من المسلمين على رأسهم عمه حمزة بن عبدالمطلب، ربما لو كان أحد غيره لتشاءم من هذا الجبل- لكنه عبر عن عاطفته نحوه بهذه الجملة الرائعة “يحبنا ونحبه” كأنه جعل من الجبل كائنا حيا عاقلا له قلب يحس ويحب.
كما أنها قامت على أساس الصداقة والشعور بالصلة الوثيقة والخصوصية. ومقتضى الصداقة مع البيئة أن يكون تعامل الإنسان تعاملاً تغلفه الألفة وتحوطه الرحمة، قائما على القيم النبيلة تجاه البيئة. وقد أمر المنهج الإسلامي بالاعتدال والتوسط معتبرا الإسراف من أهم عوامل الخلل والاضطراب في منظومة التوازن البيئي. ومن ثمَّ فلابد أن يتعامل الإنسان مع هذه النظم البيئية بما يمكنه من تطوير حياته دون إسراف في استخدام الموارد الطبيعية أو جور على حقوق الآخرين.
سلامة البيئة أحد مقاصد التشريع
نظرا لأهمية البيئة وسلامتها في المنهج الإسلامي فإن التأصيل الشرعي لرعاية البيئة يتصل بعدد من العلوم الإسلامية الأصيلة والتي تتمثل في علم أصول الدين، علم السلوك، علم الفقه، علم أصول الفقه، وعلوم القرآن والسنة، ويمكن إجمالها كالتالي:
- يتصل علم أصول الدين برعاية البيئة من حيث إنه يجعل كل مكونات البيئة وعناصرها مخلوقات ساجدة لله مسبحة بحمده.
- أما علم السلوك أو علم التصوف وصلته برعاية البيئة، فلأن هذه الرعاية تدخل في دائرة (الخُلُق) الذي هو أحد ركني التصوف. كما عرفه أحدهم فقال: هو الصدق مع الحق، والخُلُق مع الخَلْق. ولا ريب أن البيئة من جملة الخلق. وقال بعضهم: الدين كله في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(النحل:128). فدينُنا الإسلامي مجموع هذين الأمرين: التقوى مع الله، والإحسان مع خلقه. فالمُكَلَّف عليه أن يتقي الله في كل شيء، ومنه البيئة بجميع عناصرها والإحسان إليها في المعاملة حيث إنها أعظم توجيهات الإسلام.
- وأما علم الفقه وعلاقته بسلامة البيئة ورعايتها، فهي علاقة واضحة المعالم، فأول ما يتصل بالبيئة من الفقه في كتاب “الطهارة”. ونجد للبيئة علاقة بالغرس والزرع، وعلاقة بإحياء الأموات….إلخ. على أن الفقه لا يتصل بالبيئة بوصفه أحكاما فقط، بل يتصل بالبيئة اتصالا وثيقا بوصفة قواعد كلية كذلك. فمن أشهر القواعد الفقهية التي يدخل كثير منها في أمر البيئة، قاعدة “لا ضرر ولا ضرار”.
وبالنظر لكل العلوم الشرعية فإن عُمْدَتُهَا علوم القرآن الكريم والسنة النبوية. فمن دلائل القرآن على الاهتمام بالبيئة أن عددا من سوره بأسماء الحيوانات والحشرات وبعض النباتات والمعادن وبعض الظواهر الطبيعية مثل سورة البقرة، النحل، التين، الرعد، الحديد، وسورة البلد (المقصود مكة المكرمة). ولهذه التسميات دلالاتها في نفس الإنسان المسلم، وربطه بالبيئة من حوله، بحيث لا يكون في عزلة أو غفلة عنها.
وتوضح أحاديث الرسول ﷺ اهتمام السنة النبوية بالبيئة، فيقول رسولنا في حديث: “ما من مسلمٍ يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقة”[18]. ويقول الرسول في حديث آخر: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”[19].
منهج الإسلام في المحافظة على سلامة البيئة
لقد تمثلت عناية الإسلام بالبيئة والكون في التشريعات التي تهدف إلى تحقيق التوازن البيئي والاستقرار. وقد اعتبر الإسلام سلامة البيئة وحمايتها مسؤولية الجميع، وأمانة في أعناق الأمة تتحمل وزر التقصير في أدائها أمام الله، قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(الأحزاب: 72)[20]. ولقد وضع الإسلام منهجا متكاملًا في الحفاظ على سلامة البيئة، ومن هذه الأساليب ما يلي:
- المحافظة على الأرض وما فيها من مخلوقات حية وجامدة حيث نهى عن: الإفساد في الأرض، وحث على تجميل البيئة، وأمر الإسلام بالنظافة والتطهير.
- تشريع الحجر الصحي لمحاربة الأمراض.
- مكافحة التصحر (هو تحول الكثير من الأراضي إلى مناطق صحراوية) وذلك بالحث على تعمير الأرض واستصلاحها. وفي ذلك يقول الرسول: “مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقّ”.
- نهى عن قطع الشجر، لأن قطعه يؤثر في جمال البيئة، ويحرم الناس والحيوان من الاستفادة منه، وعن رسول الله ﷺ: “لا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ، فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لِلْمَوَاشِي فِي الْجَدْبِ”.
- المحافظة على المياه، فحرم هدرها أو الإسراف فيها لغير حاجة.
- تحريم الصيد في أزمة معينة وفي أماكن محددة، ومن ثم تكاثر وتناسل الطيور.
- التحذير من تلويث البيئة والإضرار بها.
- الحث على التشجير والتخضير، والعمارة والتثمير، والمحافظة على الموارد، وحفظ التوازن البيئي.
- تربية الناشئة تربية موصولة بالدين: يجب أن نغرس في النشء العناية بالبيئة والمحافظة عليها وهذا يبدأ من الأسرة والمدرسة.
- تثقيف الكبار تثقيفًا موصولًا بقيم الإسلام: من خلال المؤسسات الثقافية التي تعمل على الرقي بفكر الأمة، وتصحح المفاهيم الخاطئة، وأن يقوم الإعلام الديني والعام بمهمته في التوعية والترشيد والتوجيه.
- رقابة الرأي العام (بإحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): إن الرأي العام يمثل الضمير الجماعي للأمة. ولقد قُدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الفرائض المعروفة: الصلاة والزكاة، ليشعر بأهميته في الدين. فإفساد البيئة من المنكر، ويدخل في ذلك إنشاء جمعيات أهلية للمحافظة على البيئة.
- سلطة التشريع والعقاب: إن التشريع والقانون يُلزم ويعاقب من لا يلتزم. ولقد قال الخليفة عثمان بن عفان: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” فإذا كان القرآن ينمي حوافز الإيمان وينشئ الضمائر الحية، فإن السلطان يقف بالمرصاد لكل من يتجاوز الحدود. ولهذا كان لابد من دخول المحافظة على البيئة، ومعاقبة من يجور عليها في التشريعات المُلزمة.
- التعاون مع المؤسسات المحلية والعالمية والجماعات والمؤسسات الأهلية والرسمية والإقليمية والدولية للحفاظ على البيئة، ومقاومة كل ما يهددها من الاستنزاف والتلوث والإفساد.
ولذا فإن كل مسلم حقيقي هو الذي يهتم بسلامة البيئة ورعايتها، لأنها باسم الله فهو الذي خلقنا وائتمننا عليها. إنه التزام واهتمام أخلاقي يقوم على أساس من المودة والشفقة أكثر منه التزام قانوني. ولا علاج لمشكلات البيئة إلا بعلاج الإنسان نفسه. كما أن مشكلة البيئة مشكلة أخلاقية وعلاجها الحقيقي يكمن في الرقي بأخلاق الناس والعودة إلى الإحسان والعدل والرفق وغيرها من الفضائل.
إن رعاية البيئة والحفاظ عليها يحقق مقاصد الشريعة. فالمحافظة على البيئة قضية مجتمعية وطنية دينية، تهم كافة أطياف وفئات المجتمع، فهي تبدأ من الأسرة مرورا بالمؤسسات التعليمية وانتهاء بدور الإعلام في الحث على سلامتها.
المصادر والمراجع
- البيئة والحفاظ عليها من منظور إسلامي، د.عبدالستار أبو غدة.
- رعاية البيئة في شريعة الإسلام، د. يوسف القرضاوي.
- إسلام ويب
- رؤية الشريعة الإسلامية ومنهجها في الحفاظ على البيئة (دراسة في الواقع الفلسطيني)، د. محمد محمد الشلش، جامعة القدس المفتوحة، فلسطين.
- حماية ورعاية البيئة في الإسلام، إسلام أون لاين