إنّ إصلاح الأرض وتعميرها مهمة أُوكلت إلى الأنبياء والرسل والعلماء الربانيين في كل زمان، لإنقاذ القرى من الهلاك والدمار، وقد فهم الحاج سعد لاشين مُراد الله – عز وجل- الذي قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117 ]، تلك الآية التي اختصرت مهمة المصلحين في الأرض، فوجودهم مؤشر على النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
وجاء التصوير الرباني ليكشف عن حال المؤمنين الذين صدقوا الله الوعد فصدقهم الله الجزاء، فمن مات فاز ومن عاش سار على المنهج القويم، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (الأحزاب 23).
والحاج لاشين، لمن يعرفه وتعامل معه أو سمع عنه، يُعد أحد المدراس التربوية التي تركت بصماتها في نفوس كثير من التلاميذ الذين تربوا فيها، حيث كان مبدأه العزة والكرامة وعدم الخشية إلا من الله سبحانه وتعالى، وهي صفات تحتاجها الأجيال المسلمة في هذا الزمان. كما كان صاحب الشعار الذي ظل يردده كل من سمع به “دعوة الإخوان دعوة عالمية علنية مشرفة”.
نشأة سعد لاشين
في قرية هورين التابعة لمركز بركة السبع في محافظة المنوفية بدلتا مصر، ولد سعد الدين مرسى لاشين، والمعرف بـ”الحاج سعد لاشين” في يوم الإثنين 16 يونيو 1924م، الموافق 14 ذو القعدة 1342هـ، في بيئة ريفية متوسطة الحال، فكانت سببا في عدم إتمام مراحل تعليمه، حيث اكتفى بالحصول على دبلوم زراعة عام 1942م، ليخرج إلى سوق العمل في سبيل مساعدة والده على تكاليف الحياة، فكانت عاملًا من عوامل غرس قيمة استشعار المسؤولية في نفسه والأخذ بها، ومع ذلك لم يركن إلى الراحة، فاستكمل تعليمه وحصل على دبلوم دراسات تكميلية عالية شعبة فلاحة 1952م.
وكان قد عُيّن في وزارة الزراعة عام 1944م في مشروع الوحدات بمدينة البرلس بشمال كفر الشيخ (حاليًّا)، وبسبب التناحر الحزبي نقلت حكومة أحمد ماهر جميع الموظفين الذين عُيّنوا في وزارة النحاس باشا، فنُقل معهم في 2 فبراير 1945م إلى سوهاج، قبل أن ينتقل ويستقر في الزقازيق 2 سبتمبر 1946م في أثناء وزارة إسماعيل صدقي.
وسافر لاشين إلى دولة الإمارات للعمل فيها بعد خروجه من سجون عبد الناصر، لكنه أنهى عمله فيها وعاد إلى مصر مرة أخرى عام 1984م، فعمل فترة في شركات توظيف الأموال حتى خرج على المعاش فتفرّغ لدعوته ونشرها وسط الناس والعمل على تربية الشباب تربية إسلامية، حيث كلفه الأستاذ محمد حامد أبو النصر حينما تولى منصب المرشد العام بأن يتولى مسؤولية الإخوان في الشرقية.
انضمام سعد لاشين للإخوان
كان سعد لاشين شابًّا حينما عرف في بداية حياته جمعية الشبان المسلمين، إلا أنّ خطابا وَرَدَ إلى أحد زملائه في سوهاج من أحد الإخوة يكلمه فيه عن الإخوان والجهاد بالنفس والنفيس، كان سببا في تغييره وتعلقه بدعوة الإخوان المسلمين، ما دفعه إلى التعرف إلى دار الإخوان بسوهاج والالتحاق بأسرها التربوية، وظل ملازما لهم حتى انتقل إلى الزقازيق عام 1946م.
التقى لاشين بالإمام حسن البنا في سوهاج وهو ما وصفه بقوله: “تعرفت إلى الإمام البنا عام 1945م في مدينة سوهاج، بعد انتهاء حفل أقامه الإخوان وقتئذٍ، فدعانا الإخوة إلى جلسةِ تعارف، اقتربنا فيها أكثر من الإمام واقترب منا، وكان اللقاء مقتصرا على التعارف، وبعدها انتقلت إلى محافظة الشرقية التي كانت تموج بالعمل الدعوي، واستفدت من نشاط الإخوان هناك كثيرا”.
وتدرج الحاج سعد في العمل الدعوي، حيث كان زائرًا في شعبة بني شبل، ثم انتخب سكرتير المنطقة في الزقازيق، ثم مساعد سكرتير المكتب الإداري بها، إضافة إلى مسؤوليته عن جوالة الإخوان بها، قبل أن يلتحق بالنظام الخاص.
بين رجالات النظام الخاص
النظام الخاص جهاز أنشأه الإمام البنا بهدف التصدي إلى استفزازات المحتل البريطاني ضد الشعب المصري، بالإضافة للعمل على صد هجمات العصابات الصهيونية التي كانت تتحرش بفلسطين، وقد برز دوره في حرب فلسطين، حيث شاركت أعداد كبيرة من شباب النظام الخاص وكان النصر قريب منهم لولا خيانة حكام العرب وقبولهم الهدنة بل واعتقال المجاهدين في أرض المعركة والزج بهم في السجون في تصرف يؤكد عمالة الحكام للمحتل الغربي الصهيوني.
والتحق سعد لاشين بمجموعة النظام الخاص في الزقازيق، وكان من ضمن المجموعة التي تجمع الأسلحة من مخلفات الحرب بالصحراء الشرقية وإعدادها وإرسالها إلى المجاهدين على أرض فلسطين، كما كان له دور في حرب القنال 1951م.
وسط آتون المحن
ما كان لأحد يسلك هذا الطريق إلا وابتلى في سبيل الله حتى يميز الخبيث من الطيب، فكان واحدًا من الذين ذاقوا مرارة المحن ومع ذلك استقبلها بقلب راض لله وحده، محتسبا ما جرى في سبيل الحق ونصرته.
وقد اعتقل لاشين في يوليو عام 1949م في قضية السيارة الجيب غير أنه لم يمكث كثيرًا في السجن، حيث قضى ما يقرب من أربعة أشهر ثم أُفرج عنه.
وعاد للعمل وسط إخوانه تحت قيادة المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي، غير أن الصدام المبكر مع قادة مجلس قيادة الثورة عامة وعبدالناصر خاصة عجلت بإخراج تمثيلية المنشية إلى الوجود فحدثت في 26 أكتوبر 1954م والتي اعتقل على إثرها عدد كبير من الإخوان في جميع المحافظات.
واعتقل الأستاذ سعد لاشين في 17 نوفمبر 1954م وقُدّم إلى محكمة الشعب التي حكمت عليه بالسجن 10 سنوات أشغال شاقة لكونه رئيس فصيلة الزقازيق، قضاها كاملة حتى خرج في 14 نوفمبر 1964م إلا أنه لم يمكث كثيرًا، حيث جاءت محنة 1965م وأمر عبدالناصر باعتقال كل من سبق اعتقاله، فتم اعتقاله مع آلاف من شباب الإخوان الذين اعتقلوا في هذا العام وظل في السجن حتى مات عبدالناصر وأفرج عنه عام 1971م.
سافر للعمل في دولة الإمارات لكنه عاد لمصر عام 1984م فنشط وسط إخوانه والعمل في تربية الشباب حتى اعتقل عام 1988م لمدة 36 يوما، ثم كانت المرة الأخيرة له فى 5 يونيو 1992م فيما عرف بقضية سلسبيل لكنه خرج قبل أن يكمل الشهر.
تجليات تربوية
رغم هذه المحن التي تعرض لها الحاج سعد لاشين والتعذيب الذي لاقاه في السجن الحربي على يدي حمزة البسيوني وصفوت الروبي وغيرهما، فإنه ضرب أروع الأمثلة في الثبات على التحمل من أجل ألا يُؤتى الإسلام من قِبله.
وحينما تعرضوا لمحنة هي أشد من محنة التعذيب على أيدي زبانية عبد الناصر وهى فتنة التأييد التي اجتاحت صفوف المعتقلين وعصفت بالكثير، بينهم القيادات، استطاع الحاج لاشين أن يدرك مرامي هذه الفتنة ويتحصن بكتاب الله ورفقة إخوانه، حتى مع التضييق الذي مارسه سجّانوا عبد الناصر على من رفضوا التأييد وعزلوهم إلا أنهم نجحوا في عدم كتابة تأييد بيدهم من أجل الإفراج عنهم كما كان يقال لهم.
بل مارس زبانية عبدالناصر أخس الطرق معه بالضغط على زوجته وأولاده من أجل أن يكتب تأييدًا صغير يخرجه من السجن لكنه رفض بإباء، حتى وصل الحال أن ضغطوا على زوجته بطلب الطلاق منه لو لم يؤيد لكنها صعقتهم بثباتها هي أيضا ورفضها الضغط على زوجها من أجل أن يبيع دينه ليؤيد ظالم.
ومن المواقف التربوية، حينما رحل إلى سجن الواحات، فأرسل زكريا محيي الدين الذي كان وزيرًا للداخلية، وكيل مصلحة السجون إسماعيل همت، لينفذ فيهم مذبحةً مثل التي حدثت في ليمان طره في أول يونيو 1957م، وما إن علم هو وإخوانه بمقدم إسماعيل همت حتى لجأوا إلى الله يشكون إليه ما هم مقدمون عليه، راجين أن يحدث أمرًا ينجيهم من كيد اللواء همت، وكأن أبواب السماء قد فتحت لدعواتهم فما إن وصل إسماعيل همت سجن الواحات بالقوة التي ترافقه حتى صرخ من الألم فحمل إلى مستشفى السجن لكن الطبيب أمر بحمله إلى القاهرة فورًا، فعادت القوة به ونجى الله المعتقلين في السجن.
وخرج من السجن بمعنويات قوية وإيمانٍ راسخ حتى أن كثيرًا من أصدقائه كانوا يستغربون لهذه النفسية وهذا الرضا الذي كان يملأ جنبات الحاج سعد رغم بقائه في السجن وتحت وطأة التعذيب ما يقرب من 17 عامًا.
وتحت وطأة التعذيب الرهيب الذي تعرض له عام 1965م قال له الأستاذ المرشد حسن الهضيبي: “يا سعد أنا بقولك قول اللي هما عاوزينك تقوله” من شدة التعذيب الذي تعرض له الحاج سعد، وكان رد المجاهد الراحل: “يا أستاذنا هما أكيد عارفين لكن هما عاوزين يكسروا إرادتي… لكن أنا اللي هاكسر إرادتهم”.
وممّا أٌثر عنه في حواراته قوله: “هناك معادلة تقول: إخوان مسلمون + تربية + عدم اعتراف من الحكومة = وجود إخوان مسلمين، والثانية تقول: إخوان مسلمون + عدم تربية + اعتراف من الحكومة = عدم وجود إخوان مسلمين”.
كان الحاج سعد صاحب سيرة عطرة سجلها الدكتور محمد طه وهدان، عضو مكتب الإرشاد، بقوله: “ما عهدناه إلا وهو طائر إلى كل هيئة ومسرع إلى كل طالب غوث، وواقف بكل جرأة وعزة وإباء وشجاعة استمدها من الله العزيز؛ ليقول “لا” في كل العصور لكل ظالم وجاحد ومستبدّ، وما طلب منه طلب أو تكليف إلا وكان نِعم المجيب والناصح.
إننا كنا نلمح ذلك في كلماته العابرة وأفعاله الكثيرة؛ حيث كان يستمد ثقته ونور بصيرته وأمله الواسع من الله سبحانه وتعالى، فلم تضعف له قوة ولم يعط الدنية في دينه يوم أعطى غيره الكثير من الدنايا”.
كما ذكره الدكتور رشاد البيومي بقوله: “أخي سعد.. كنت الفارس النبيل؛ الذي لا يعطي الدنية من نفسه.. تعطي وتقدم ولا تنتظر الجزاء إلا من الله، غابت الشهامة وبكتك المروءة فأنت خير من حملها وعمل بها، افتقدتك عوامل الكرم بكل ما تعنيه الكلمة.. فقد كنت منذ عرفتك عنوانًا للجود والإيثار”.
وفاته
لم يكل الحاج سعد لاشين ولم يمل من العمل لدينه وظل حتى آخر لحظة من حياته ثابتًا على مبادئ شريعته التي عاش عليها، حتى أصابه المرض وظل طريح الفراش مدة، حتى وافته المنية يوم الأحد 15 أبريل 2012م الموافق 23 جمادى الأولى 1433هـ، حيث شيعه آلاف من أبناء الشرقية وكان على رأسهم الدكتور محمد بديع المرشد العام وعدد من أعضاء مكتب الإرشاد وقادة حزب الحرية والعدالة.
المصادر
- أحمد رمضان: حوار مع الحاج سعد لاشين، 19 يوليو 2006،
- سعد لاشين: إخوان ويكي،
- د. رشاد محمد البيومي يكتب: أخي سعد لاشين، 21 أبريل 2012،
- أحمد مرسي: المجاهد سعد لاشين.. تاريخ من التفاني في رحاب الدعوة، 15 أبريل 2012،