من نعم الله العظيمة على بني البشر أن منَّ عليهم بنعمة ستر العورة باللباس، وهو كل ما يُغطّي الجسد، مما يلبسه الرجال والنساء، والهدف منه- أيضًا- التجمل عند الناس، والوقاية من الحرّ والبرد. يقول الله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف: 26).
قال العلامة ابن عاشور في “التحرير والتنوير”، سمّى ربنا- سبحانه وتعالى- تيسير اللباس لهم وإلهامهم إياه إنزالاً، لقصد تشريف هذا المظهر. وجاء في تفسير القرطبي: “هذه الآية دليل على وجوب سَتر العورات، فبيّن أنه سبحانه جعل لذرية آدم ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالستر، ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس”.
معنى ستر العورة وحكمها في الشرع
وفي معنى ستر العورة للرجال والنساء، قال المناوي في فيض القدير: “إنها سوأة الإنسان وكل ما يستحى منه”، وفي الصحاح فإنّ العورة: “كل خلل يتخوّف منه”، وقال القاضي: “إنها كل ما يستحى من إظهاره، وأصلها من العار، وهو المذمة”.
ولقد حض الشرع الحنيف على ضرورة سَتر العورات، وبين أنّ عورة الرجل هي السوءتان إجماعًا، وما بين السرة والركبة على الاحتياط، حيث ذهب الأئمة الأربعة في المشهور عنهم إلى أن الفخذ عورة واختلفوا هل السُّرة والركبة داخلان في العورة أو أنهما ليسا منها على قولين.
وقد أخرج أحمد في مسنده عن جرهد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رآه قد كشف عن فخذه، فقال: [غط فخذك فإن الفخذ من العورة]. وذهب داود الظاهري والطبري إلى أن الفخذ ليس بعورة وإنما العورة السوءتان، ودليل ذلك ثبوت انكشاف فخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- بمحضر من الصحابة مع عدم الدليل على التحريم لضعف حديث جرهد. لكن الأحوط بلا شكّ ستر ما بين السرة والركبة وإن كان الفخذ ليس من العورة على الصحيح.
وإذا قيل بأن الفخذ ليس بعورة فلا يعني هذا كشفهما ولبس ما يظهرهما أصالة، بل كما يقول بعض أهل العلم: معناه أنه ليس بعورة يجب سترها كالقبل والدبر، وأنه عورة يجب سترها في مكارم الأخلاق ومحاسنها.
ويحصل سَتر العَورات بشرطين، الأول: ألا يكون الثوب شفافًا؛ أي لا يكون رقيقًا يُرى اللون من تحته، فما يُرى من تحته اللون لا يعتبر ساترًا للعورة، والثاني: ألا يكون ضيقًا يحدد العورة بالتفصيل كالمحدد للفخذ على قدره تمامًا، والمحدد للإليتين مثلًا على قدرهما وهكذا، أما إن حدد العورة بسبب ريح ونحوه فهذا لا يمكن الاحتراز عنه وليس محرمًا إجماعًا.
ستر العورة من الفطرة
ولو تأملنا عقاب الله- سبحانه وتعالى- لسيدنا آدم وزوجته حينما عصى أوامره، إذ لم يكن الطرد من الجنة، لكن نزع عنهما لباسهما، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} (الأعراف: 22) وقال تعالى في موضع آخر: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} (طه: 121)، فكان رد فعليهما السريع ستر العورة لما ورد عن رب العزة- جل وعلا-: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} على الرغم من أن الجنة لم يكن بها أحد سواهما، لكنها الفطرة التي فطر الله آدم وذريته من بعده. ثم جاء العقاب التالي وهو الخروج من الجنة: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (الأعراف: 24).
فهناك تلازم في القرآن بين اللباس لستر العورات والزينة، وبين تقوى الله عز وجل، فكلاهما لباس، هذا يستر عورات القلب ويزينه ويحميه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه ويحميه، قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف: 26)، فإذا تلبس القلب بتقوى الله والحياء منه انبثق شعور باستقباح العري والخلاعة، ومن لا يستحي من الله، لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري، فما أنزل الله لنا من أنواع الملبوسات نعمة عظيمة يجب شكرها والتأدب بآدابها.
والإسلام دين الفطرة لا يسلك في كل شؤون الحياة إلا ما يوافق الفطرة ويحقق السعادة في الدنيا والآخرة، لذا لم يقرر نوعاً خاصاً من اللباس لا يجوز تخطيه، بل اعترف بشرعية كل لباس لكل أمة لكل بلد ما دام متفقاً مع المبادئ والقواعد الشرعية التي حددها في لباس الرجل والمرأة.
أما ما يحدث الآن من كثير من رجال ونساء المسلمين من تمزيق للملابس تحت مسمى الموضة أو ليس ما يكشف أكثر مما يستر، فهو أمر يندى له الجبين وينزف القلب من جراءه الدم.. فليحذر الجميع من غضب الله إذا حل.
ولن يعدم الشيطان حيلة في صرف الناس جملة أو بالتدريج عن الفطرة والشرع والحضارة الحقة، ولن يهنأ له بالٌ ولا لجنوده من الإنس والجن حتى ينزع عن الناس لباس التقوى وفضيلة الستر والعفة، فما فعله مع أبوينا من قبل لن يبرح يكرره مع كل واحد منا، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
تربية الأبناء على سَتر العَورات
وبناءً على ما تقدم من ضرورة ستر العورة وعدم التعري، فإن الآباء عليهم مسؤولية كبيرة في توصيل هذه المعاني للأطفال منذ نعومة أظافرهم ليتعوّدوا الأمر، ويقوى لديهم حب التستر وكره التعري، وذلك من خلال:
- ستر الآباء والأمهات عوراتهم أمام الأطفال؛ لأنهم يتعلمون الاحتشام منهم ومن المحيطين بهم.
- تدريب الطفل على الاعتناء بالنظافة الجسمية خصوصا في مناطق العورة، لأنّ ذلك يشعره بأن هذه الأماكن خاصة ويجب عدم لمسها أو رؤيتها من طرف آخر.
- تغيير ملابس الأطفال في أماكن مغلقة بعيدة عن أعين الآخرين.
- سرد قصص هادفة عن الحفاظ على النفس وعدم إظهار العورة أمام الآخرين.
- تنمية الوازع الديني بهذا الأمر حتى يدرك الطفل معنى السلوكات التي يقوم بها لاحقًا.
- التنبيه على المحيطين بالطفل عدم التغيير أمامه وعدم سلك سلوكات مناقضة للتستر والاحتشام.
- على الوالدين عدم السرور بخروج الولد عاريًا أمام إخوته في البيت وأقاربه؛ فإنّ إظهار الفرح في هكذا موطن يعد بذرة سيئة في قلب الولد، فلا يعود يستحي إذا كبر من انكشاف عورته.
- من المهم أن يحفظ الأب والأم عورة الولد عن الأعين في جميع فترات عمره، لا يظهر منها شيء لغير حاجة أو سبب، مع عدم تركه عاريًا ولو كان خاليًا وحيدًا.
المصادر:
- البارعي: تبيين الحقائق 6/18.
- الطرابلسي: مواهب الجليل 2/179.
- الزركشي: شرح الزركشي، 1/195.
- المرداوي: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 2/237.
- الحنفي: معتصر المختصر 2/256.
- أهمية تعويد الطفل على ستر العورة .