في بداية عهد الإسلام، نهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عن زيارة القبور التي كانت مُباحة أيام الجاهلية دون قيدٍ أو شرطٍ، ولمّا تمكّن الإيمان من قلوب المسلمين أمر النبي- صلى الله عليه وسلم بزيارتها، حيث أصبحت مكانا للعظة والعبرة وتربية النفس، وتذكُّر الآخرة، والسّلام على الأموات، والدعاء لهم، وليس مكانا للفتنة أو التعلق بأصحاب هذه الدّيار.
والقبر أول محطَّة للتفكُّر في الدُّنيا وحالها، والنَّظر في حقيقة الموت، وهو غاية ينتهي إليها كلُ إنسان، وليس أكثر ولا أعظم مقامًا منه لتذكُّر الآخرة، والتَّفكُّر في حقيقة النَّفس وتربيتها على العمل الصالح والتقوى والخشية من الله، والنَّظر في حال مَن فارق الدُّنيا.
زيارة القبور سُنّة مؤكدة
وتُعدّ زيارة القبور سُنة مؤكدة أمر بها النبي- صلى الله عليه وسلم- وفَعَلها، فعن عبد الله بن بريدة عن أبيه- رضي الله عنه- قال: قال رسول- الله صلى الله عليه وسلم-: “كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا” (مسلم)، وفي لفظ عند (الترمذي): “فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ”.
بل ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يزور القُبُور، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: زار النبي- صلّى الله عليه وسلّم- قبر أمه فبكى وأبكى مَن حوله، وقال: “استأذنت ربي بأنْ أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت” (مسلم).
وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخرج إلى البقيع فيقول: “السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ” (مسلم).
وقالت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: “كيف أقول يا رسول الله في زِيَارَة القُبُور؟ قال قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون” (مسلم).
قال ابن عبد البر- رحمه الله-: “في هذا الحديث من الفقه: إباحة الخروج إلى المقابر وزيارة القُبُور وهذا أمر مجتمع عليه للرجال، ومختلف فيه للنساء، وقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا فإنها تذكر الآخرة”.
وقال النووي- رحمه الله-: “اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زٍيارة القُبُور، وهو قول العلماء كافة: نقل العبدري فيه إجماع المسلمين، ودليله مع الإجماع الأحاديث الصحيحة المشهورة، وكانت زيارتها منهيا عنها أولاً ثم نسخ”.
وعن سبب مشروعية زِيَارَة القُبًور، قال الشيخ عبد الله الغنيمان: يعود ذلك لشيئين؛ أحدهما:
- أن يتذكر الإنسان مآله؛ لأنه سيصير مثلما صار هذا المقبور، ويكون مرجعه إلى القبر، ولا بُد من أن يكون مقبورًا مثل هذا، فيتوب ويجتهد في العمل، ويتذكر الآخرة، ويتذكر ما أمامه.
- والأمر الثاني: أن يُحسن إلى الميت بالدعاء له، فإنه في أمسّ الحاجة إلى دعوة تلحقه من أخ له صادق، أما أن تنعكس القضية، ويصبح الإنسان يزور القبر ليسأل صاحبه، فهذا عكس ما أراد الرسول- صلى الله عليه وسلم- تمامًا.
أهداف تربوية من زيارة القبور
ويستفيد المسلم من زيارة القبور دروسًا تربوية وروحية عديدة، منها:
- التذكير بالموت: فالإنسان سيُصبح يومًا من الأيام من ساكني هذه القبور، وهو ما يهوّن عليه كل عسير في الدنيا.
- التخفيف على النفس من الهموم التي تحملها: حيث يوجد ما هو أهم وهو الاستعداد ليوم الرحيل.
- الصبر على المصائب والابتلاءات: فمن يتذكّر الموت تَهُنْ عنده كل مصيبة، ومن يتذكّر إخوانه ساكني القبور تصغر في عينه كل عظيمة، وإنّ المحروم فعلًا من أشغلته الدنيا بكل ما فيها من لذات ومتاع عن الآخرة، ومن انهزم أمام مصائبه وابتلاءاته.
- الحرص على الطاعة: فالموت حق على كل حي، وزيارة القبور تُذكر المسلم بالموت وبحال الأموات، فتجعله أكثر حرصًا على طاعة الله والاستعداد للآخرة.
- الاعتبار بحال الموتى: فزيارة القبر تُشعر المسلم بحال الموتى، وتجعله يُفكر في حاله بعد الموت، فيحرص على العمل الصالح ويترك المعاصي.
- حمل النفس على الأعمال الصالحة: فحينما يتذكر الإنسان أنه سيموت حتما، يحرص على الطاعة ويداوم عليها، ويبتعد عن الأعمال السيئة والفواحش.
- الدعاء والاستغفار للميت: فهذه الزيارة تُعدّ من التفاعل الروحي ووسيلة لإظهار الرحمة والتضامن مع الأرواح الراحلة ولأهلها.
- تعزيز التواضع والخشوع: فزيارة القبر فرصة لتعزيز قيم التواضع والخشوع أمام عظمة الله وضعف الإنسان أمام قضاء الله وقدرته.
- توجيه النظر نحو الغاية الحقيقية للحياة: فتُساهم زيارة الأموات في توجيه النظر نحو الأهداف الحقيقية للحياة، وتحفيز المؤمن للابتعاد عن الدنيا المؤقتة والسعي للحياة الأبدية.
- تعزيز الترابط الاجتماعي: وهذا درس تربوي يعزز قيم الترابط بين أفراد المجتمع، حيث يُشارك المسلمون في هذه التجربة الروحية ويظهرون فيها الود والتعاطف والتعاون.
- تربية النفس على العدالة: فيحرص المسلم على العمل من أجل إحداث تحسين في المجتمع، والاهتمام بالغير وتقديم العون، وتحقيق مبدأ العدالة في التعامل مع الناس.
- التسامح مع الناس: حيث يدرك الإنسان حقيقة الدنيا، وأن أهلها راحلون بلا عودة، فيحسن التعامل مع الناس.
- تعزيز الشكر والامتنان:، فزيارة القُبور توجِّه نظر المسلم نحو نعم الله وفضله، ما يعزز الشعور بالشكر والامتنان تجاه الحياة والأوضاع الراهنة.
- تربية النفس على التوازن بين الدنيا والآخرة: فلا تطغى الدنيا على أعمال الآخرة، فإذا كان مسؤلًا عن أسرة وتوفير متطلباتها لا يعني هذا التقصير في العبادة أو عمل الخير أو الاستعداد للموت.
- التأمل في عظمة الله: حيث تتيح هذه الزيارة فرصة للتأمل في عظمة الله وقدرته على خلق الحياة والموت، وهذا التفكير العميق يعزز الإيمان ويقوي العلاقة الروحية مع الخالق سبحانه وتعالى.
- توجيه النية للتوبة والاستغفار: فتكون زيارة القبر مناسبة لتوجيه النية نحو التوبة والاستغفار، حيث يتأثر المسلم بالمنظر الذي يجعله يتفكر في أفعاله ويسعى للعمل الصالح والبعد عن كل معصية.
- تعزيز قيم العطاء والخدمة الاجتماعية: حيث تلقي زيارة القبور بظلالها على الدعوة للعطاء وخدمة المجتمع، فيُشجع المسلم على القيام بأعمال الخير والعمل الاجتماعي بنية صافية تخدم الآخرين.
- تربية النفس على السلام والوئام: لأن الإنسان لن يُخلّد في الدنيا، فمهما عاش من عمر سيموت، لذلك فمن الأفضل أن يعيش في سلام ووئام مع الناس جميعا.
- تدريب النفس على الرضا: فزيارة الأموات تُعزز لدى المسلم قضية الرضا والقبول لقضاء الله وقدره.
- الاستفادة من الوقت في عمل الخير: فهذه الزيارة هدفها الاتعاظ من الموت وتربية النفس على فعل الخير والمشاركة فيها والدعوة إليه، والبعد عن الفواحش والذنوب.
- النظر نحو العمق الروحي: تُسهم زِيارة الأموات في توجيه النظر نحو العمق الروحي، حيث يمكن للفرد أن يجد تأملًا في معاني الحياة والموت والوجود.
- تحفيز البحث الشرعي: فهذه الزيارة تشجع المسلم على البحث عن العلم الشرعي، لمعرفة آداب زيارة الأموات وأحكامها والبدع المنهي عنها.
- تطوير النفس للأفضل: فزيارة القبر تحفز المسلم إلى تطوير نفسه والسعي لتحسين خلقه وتعزيز القيم الإيجابية.
- تقوية روح الأمل والتفاؤل: حيث تعد هذه الزيارة فرصة لتقوية وتجديد روح الأمل والتفاؤل، بالتفكير في فضل الله ورحمته والأمل في المغفرة والجنة.
- الابتعاد عن الغفلة: فحينما يرى المسلم القبور ويتأمل في الموت، يحفز لديه الابتعاد عن الغفلة والضياع في الأمور الدنيوية، ويسعى للتركيز على الأمور ذات الأهمية الحقيقية.
- تعليم الأطفال عن الموت والآخرة: وبالتالي فهي فرصة جيدة لتعليم وتربيتهم، وتعريفهم بأهمية التقوى والعبادة والاستعداد للحياة الآخرة.
آداب وأحكام
وتَحْمل زيارة القبور في الإسلام عدة آداب وأحكام، منها:
- يُستَحَبُّ للرِّجالِ زيارةُ القُبورِ: وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة، والمالِكيَّة، والشَّافعيَّة، والحَنابِلَة.
- زيارةُ النِّساءِ للقبورِ: اختلفَ أهْلُ العِلْمِ في حُكْمِها، فمنهم من يُكْرَهُ للنِّساءِ زيارةُ القُبورِ، ومنهم من يحْرم على النِّساءِ زيارةُ القبورِ، ومنهم من يبيح زيارةُ القبورِ للنِّساءِ، وهو مذهَبُ الحَنفيَّة، وقولٌ للمالكيَّةِ، وقولٌ عند الشَّافعيَّة، وروايةٌ عن أحمد.
- السلام على الموتى، والدعاء لهم: فعن بريدة- رضي الله عنه- قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: “السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية” (مسلم).
- لا يستقبل القبور حين الدعاء لأهلها: بل يتوجه نحو القبلة، لنهيه- صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة إلى القبور، والدعاء لب الصلاة وروحها، كما هو معروف فله حكمها.
- وقت زيارة القبور: ليس لزيارة القبور وقتٌ محدد، وتقييد زيارتها بأوقات مخصوصة يدخل في البدع والمحدثات، فلا يجوز تخصيص يوم الجمعة، أو يوم العيد لزيارة المقابر، ولا يجوز اعتقاد أن فيها مزية وفضل زائد عن الزيارة في غيرها من الأيام.
- عدم الجلوس عليها، لما روى أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- “لأن يجلس أحدكم على جمرة فتمزق ثيابه حتى تخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر” (مسلم).
- عدم الاستغفار لمن مات على غير الإسلام حتى ولو كان قريبًا: قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113].
- عدم سب الأموات: فعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “لا تسُبُّوا الأموات، فإنهم قد أفضَوا إلى ما قدَّموا” (البخاري).
- عدم الاستغاثة بالموتى: قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9].
إن زيارة القبور خير للحيِّ والميِّت، فليحرص المرء عند زيارته أن يجعلها عبرة له وعظة، وسبيلًا لذهاب قسوة قلبه وتربية نفسه على الأعمال الصالحة، وإيقاظها من غفلتها وتشبثها بالدنيا، وأن يتذكر مصيره الذي لا بد من أن يصل إليه، ثم لتكن زيارته سعيدة على الموتى، فيسلم عليهم، ويدعو لهم، ويسأل الله لهم المغفرة والرحمة.
مصادر ومراجع:
- محمد الحمود النجدي: آداب زيارة القبور.
- النووي: الآثار في النهي عن زيارة القبور 5/281.
- ابن عبد الهادي: الصارم المنكي، ص 327-331.
- الرومي: المجالس الأربعة، ص 50-51.
- محمد المعصومي: المشاهدات المعصومية، ص 73.
- حسين بن سعيد: الزيارة المنسيَّة.