ابنتي الصغرى قاربت الخمس سنوات، وقد لاحظت أن أخاها الذي يكبرها يشكو من ضرب رفاقه له في المدرسة ولاحظت انزعاجنا وخوفنا عليه؛ ومؤخرا وجدت أنها قد بدأت تختلق قصصًا عن أطفال أو معلمات يعتدون عليها وتبالغ في تصوير ذلك، وإذا طلبنا منها أن تعيد القصة مرة ثانية تذكرها بتفاصيل مختلفة وأسماء مختلفة فهل ابنتي تكذب؟! أم أنها عاجزة عن نقل الصورة الحقيقية؟ وإن كانت تكذب فماذا عساي أن أفعل؟
الإجابة:
تتميز المرحلة السنية لدى الأطفال حتى الخامسة بالخيال الخصب، فلا يعرف فيها الأطفال الكذب. حيث يبدأ الأطفال في نسج قصص من وحي خيالهم، يتأثرون فيها بالحقيقة أحيانا، فتجدينهم يعطون للعبهم أسماء أشخاص حقيقيين في حياتهم، وفي الوقت ذاته ينسجون قصصًا وهمية عن هذه الشخصيات فتبدو وكأنهم يحكون أحداثًا حصلت بالفعل.
ومن هنا، فعندما تحكي ابنتك قصصًا من وحي خيالها عليك أولًا عدم وصفها بالكاذبة، وعدم نهيها كذلك عن الكذب، لأنّ تكرار هذا على مسامعها من شأنه تثبيت سلوك الكذب لديها على الرغم من كونه طبيعة مرحلة ليس أكثر- إن صح تسميته بالكذب في هذه المرحلة العمرية-.
كذلك يجب ألا تواجه رواياتها المختلفة للقصة نفسها بالضحك من قِبلنا، إذ ربما إذا قوبلت حكاياتها الوهمية بالضحك مع نعتها بالكذب، يُوصّل لها مفهومًا خاطئًا أنّ الكذب يجعل الآخرين مسرورين، فترتبط صفة سلبية (الكذب) بحالة إيجابية كالسعادة والضحك فنخلق لديها بذلك دافعًا للسلوك.
في الوقت ذاته يجب أن نستثمر هذه المواقف لتعليمها الفرق بين الحقيقة والخيال، فعندما تحكي موقفًا، نسألها: هذا حصل في الحقيقة أم أنه خيال؟، ونضرب لها أمثلة متعددة كأن نقول هذا الولد يلعب فهذا حقيقي يحدث أمامنا ونراه، لكن عندما نقول هذا الولد يطير، فإن هذا من الخيال وليس ما يحدث في الحقيقة. ويمكن أن نحول هذا إلى لعبة، نذكر لها جملة ونطلب منها تقييمها هل هي حقيقة أم خيال ومن ثم تتعلم الفرق بينهما.
بعد تكرار هذا التمرين لفترة يمكن أن نقف عند أول حكاية تحكيها ونقوم بتوجيه السؤال، هل هذا حقيقة أم خيال؟ ستدرك بمرور الوقت الفرق بينهما وربما تخبرك لاحقًا قبل أن تسألي إن كان ما تحكيه حدث بالفعل أم هو من نسج خيالها.
وإن كانت المرحلة العمرية من الابنة لا تعي جيدًا معاني كالصدق والكذب، إلا أن هذا لا يعني عدم توجينا لها كي تحب الصدق والصادقين، بل يمكن أن نعزز أمامها مواقف الصدق من الآخرين الذين يكبرونها، ونسرد لها القصص التي يتصف أبطالها بالصدق. كأن نكرر الثناء على شجاعة أخيها مثلا في قول الصدق في موقف معين.
أو نسرد قصة كتلك الشهيرة عن الغلام الذي عاهد أمه على الصدق وخرج في طريقه إلى الحج، ولما قطع طريقه اللصوص وسألوه عمّا يملك، أخبرهم بكل صدق عن المال الذي معه، حتى تعجب اللصوص وسألوه عن سبب قوله الحقيقة، فقال: لقد عاهدت أمي على الصدق، فما كان من اللصوص إلا أن تابوا خجلًا من عدم صدقهم في العهد مع الله.
ومن ضمن التوجيه لسلوك الصدق مراعاة أسلوبنا كأهل مع أولادنا بحيث لا تدفعهم طريقتنا إلى الكذب، خوفًا من ردة فعلنا أو قسوة عقابنا، فكثيرًا ما يربك الأبناء سؤال الآباء عن الفاعل عندما يجدون وضعًا خاطئًا أو شيئًا قد تعطل، بشكل لا يبشر الأبناء بحُسن استقبال الآباء لهذا الخطأ، فيضطرون حينها إلى اللجوء للكذب مع إصرار الآباء في الكشف عن (الجاني).
والأفضل هو لفت انتباه الجميع إلى وجود خطأ ما وطلب إصلاحه بدلًا من طرح سؤال من فعل هذا؟ أو هل فعلت هذا أم لا؟ ويمكن أحيانًا أن نقدم سبب السؤال على السؤال، كأن نخبر الأبناء أننا نريد فقط الاطمئنان عليهم وليس الهدف العقاب.
لذا يجب أن نعلم أنه إذا طرح السؤال بشكل غير مريح، فسيلجأ الأبناء للكذب، تجنبًا لعواقب سيئة، خصوصًا إذا رأوا عواقب وخيمة سابقة لمَن أقرّ بفعلته. وطرح السؤال لا يكون بالكلمات فقط وإنما كذلك نبرة الصوت وحدته، وكذلك طريقة النظر للأبناء أثناء طرح السؤال، والهدف وراء السؤال، كلها عوامل قد تؤثر على استقبال الأبناء للسؤال إما خوفًا أو طمأنينة ومن ثم اختيارهم للصدق أو الكذب. ولن يستطيع بث الطمأنينة في نفوس الأبناء إلا آباء يفسحون المجال لأبنائهم للتعلم ويتقبلون أخطاءهم.
من المهم كذلك أن نلحظ أن لجوء الأبناء أحيانًا للكذب يكون بهدف لفت انتباه واهتمام الأهل، فقد لاحظت الابنة اهتمامكم بأخيها حينما حكى عما يتعرض له في المدرسة من زملائه، فقررت لفت الانتباه لها بنسج قصص مشابهة حتى تحوز الاهتمام نفسه. فإذا ما منحنا الصغيرة مزيدًا من الوقت الخاص بها، وأحسنّا التفاعل مع اهتماماتها، وأجدنا الإنصات لها، ربما ستختفي هذه المشكلة حينها بإذن الله.
ولا داعي أبدًا من وضع الابنة تحت الاختبار، بإعادة طلب حكي الكلام مرة أخرى لكشف ما إن كانت صادقة أم لا، لأنّ هذا- أيضًا- يدفعها للاستمرار في سرد تفاصيل جديدة من نسج خيالها، ومن ثمّ يزداد شعوركم بأنها تكذب، وبشكل عام فإن السلوك البشري تحت أي ضغط لا يظهر الأفضل، وحتى لا يصل للابنة شعور متنامٍ بعدم ثقتكم بها أو تصديقكم لها، فيتولد داخلها سلوك الكذب، فلنسمع منها مرة واحدة تكفي، ولنتفاعل معها ونحسن الإنصات لها، وليكن سؤالنا سؤال استفهام حقيقي هدفه تفهم الابنة وحسن مساعدتها وتقديم الدعم النفسي والاهتمام بها، وليس كشف صدقها من كذبها.