لقد استهل الإمام الشهيد حسن البنا رسالة دعوتنا بالتعريف بغاية الإخوان المسلمين، وذكر أصناف الناس، وشخص الدّاء الذي أصاب الأمة الإسلامية، ووصف لها الدّواء، الذي يتمثّل في المنهج الصّحيح، وهو اتباع كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، والسّير على نهج السّلف الصالح.
وحاول الإمام البنا من خلال هذه الرسالة، التي نُشرت بمجلة الإخوان المسلمين في أبريل 1935م، ثم أعيد نشرها في مجلة النذير في نوفمبر 1939م، أن يُوضّح معنى الوطنية في الإسلام وموقف الإخوان منها، بالإضافة لمعاني القومية ومدى اتساقها مع تعاليم الإسلام، ثم ختمها بالبعد عن الفرقة والاجتماع على الحق.
رسالة دعوتنا.. مصارحة وبراءة وعاطفة
وبدأ الإمام البنا رسالة دعوتنا بالمصارحة، وبيان منهج الإخوان المسلمين في غير لبسٍ ولا غموض، وأكد أن هذه الدعوة بريئة نزيهة، تسامت في نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية، واحتقرت المنافع المادية، وخلّفت وراءها الأهواء والأغراض، ومضت قدمًا في الطريق التي رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين إليه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108).
وقال الإمام البنا: فلسنا نسأل الناس شيئًا، ولا نقتضيهم مالًا ولا نطالبهم بأجر، ولا نستزيد بهم وجاهة، ولا نريد منهم جزاءً ولا شكورًا، إن أجرنا في ذلك إلا على الذي فطرنا. ونحب أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداء لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء.
وأضاف: ما أوقفنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا وملكت علينا مشاعرنا، فأقضت مضاجعنا، وأسالت مدامعنا، وإنه لعزيز علينا جد عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس، فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم في يوم من الأيام.
ويعقب الإمام الشهيد على ذلك بقوله: لسنا نمتن بشيء ولا نرى لأنفسنا في ذلك فضلًا، وإنما نعتقد قول الله تعالى: (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17). وكم نتمنى- لو تنفع المنى- أن تتفتح هذه القلوب على مرأى و مسمع من أمتنا، فينظر إخواننا هل يرون فيها إلا حب الخير لهم والإشفاق عليهم والتفاني في صالحهم؟، وهل يجدون إلا ألمًا مضنيًا من هذا الحال التي وصلنا إليها؟ ولكن حسبنا أن الله يعلم ذلك كله، وهو وحده الكفيل بالتأييد الموفق للتسديد، بيده أزمة القلوب ومفاتيحها، مَن يهد الله فلا مضل له ومَن يضلل الله فلا هادي له وهو حسبنا ونعم الوكيل. أليس الله بكافٍ عبده؟!
أصناف الناس في رسالة دعوتنا
وفي رسالة دعوتنا، ذكر الإمام البنا أن موقف الناس من دعوة الإخوان المسلمين ينقسم إلى أربعة أصناف، هي:
- مؤمن بدعوة الإخوان: وهو شخص صدّق الدّعوة وأُعجب بها، ورأى فيها خيرًا اطمأنت إليه نفسه، وسكن له فؤاده، فهذا يُدعى إلى أن يبادر بالانضمام للدعوة حتى يكثر به عدد المجاهدين ويعلو بصوته صوت الداعين، ولا معنى لإيمان لا يتبعه عمل، ولا فائدة في عقيدة لا تدفع صاحبها إلى تحقيقها والتضحية في سبيلها، وكذلك كان السابقون الأولون ممّن شرح الله صدورهم لهدايته فاتبعوا أنبياءه وآمنوا برسالاته وجاهدوا فيه حق جهاده، ولهؤلاء من الله أجزل الأجر وأن يكون لهم مثل ثواب من اتبعوهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.
- متردد: وهو شخص لم يستبين وجه الحق، ولم يتعرف في قول الدعوة معنى الإخلاص والفائدة، فهذا يُترك لتردده ويوصى بأن يتصل بالدعوة من كثب، ويقرأ عن الإخوان من قريب أو بعيد، ويطالع كتاباتهم ويزور أنديتهم ويتعرف إلى الإخوان، فسيطمئن بعد ذلك لهم إن شاء الله، وكذلك كان شأن المترددين من أتباع الرسل من قبل.
- نفعي: شخص لا يُريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة وما يجرّه هذا البذل له من مغنم فنقول له: حنانيك ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله إن أخلصت، والجنة إن علم فيك خيرا، أما نحن فمغمورون جاهًا فقراء مالًا، شأننا التضحية بما معنا وبذل ما في أيدينا، ورجاؤنا رضوان الله سبحانه وتعالى وهو نعم المولى ونعم النصير، فإن كشف الله الغشاوة عن قلبه وأزاح كابوس الطمع عن فؤاده فسيعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وسينضم إلى كتيبة الله ليجود بما معه من عرض الحياة الدنيا لينال ثواب الله في العقبى، وما عندكم ينفد وما عند الله باق، وإن كانت الأخرى فالله غني عمن لا يرى لله الحق الأول في نفسه وماله ودنياه وآخرته وموته وحياته.
- متحامل: شخص أساء في الإخوان ظنه وأحاطت بهم شكوكه، فهو لا يراهم إلا بالمنظار الأسود القاتم، ولا يتحدث عنهم إلا بلسان المتحرج المتشكك، ويأبى إلا أن يلج في غروره ويسدر في شكوكه ويظل مع أوهامه، فهذا ندعو الله لنا وله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يلهمنا وإياه الرشد، ندعوه إن قبل الدعاء ونناديه إن أجاب النداء وندعو الله فيه وهو أهل الرجاء، ولقد أنزل الله على نبيه الكريم في صنف من الناس: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (القصص:56).
وإلى جانب هذه الأصناف الأربعة، فإن دعوة الإخوان تستند إلى دعائم ومبادئ أخرى، أهمها التفاني في خدمتها، لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24).
ودعوة الإخوان المسلمين دعوة مبدأ، وفي الشرق والغرب اليوم دعوات ومبادئ وفكر ومذاهب وآراء ومنازع كلها تتقسم عقول الناس وتتنازع ألبابهم، وكل منها يزينه أهله ويقوم بالدعاية له أبناؤه وأتباعه وعشاقه ومريدوه، ويدعون له المزايا والمحاسن ويبالغون في هذا الادعاء ما يبرزه للناس جميلًا خلابًا رائعًا.
والدعاة اليوم غيرهم بالأمس فهم مثقفون مجهزون مدربون أخصائيون- ولا سيما في البلاد الغربية- حيث تختص بكل فكرة كتيبة مدربة توضح غامضها وتكشف عن محاسنها وتبتكر لها وسائل النشر وطرائق الدعاية، وتتلمس لها في نفوس الناس أيسر السبل وأهونها وأقربها إلي الاقتناع والاتباع.
ووسائل الدعاية الآن غيرها بالأمس كذلك، فقد كانت دعاية الأمس كلمة تلقى في خطبة أو اجتماع أو كلمة تكتب في رسالة أو خطاب، أما الآن فنشرات ومجلات وجرائد ورسالات ومسارح وخيالات وحاك ومذياع، وقد ذلل ذلك كله سبل الوصول إلى قلوب الناس جميعهم، نساءً ورجالًا في بيوتهم ومتاجرهم ومصانعهم ومزارعهم.
ودعوة الإخوان إسلامية، ولهذه الكلمة معنى واسع غير ذلك المعنى الضيق الذي يفهمه الناس، فإنا نعتقد أن الإسلام معنى شامل ينتظم شؤون الحياة جميعًا، ويفتي في كل شأن منها ويضع له نظامًا محكمًا دقيقًا، ولا يقف مكتوفًا أمام المشكلات الحيوية والنّظم التي لا بُد منها لإصلاح الناس.
الوطنية والقومية في دعوة الإخوان
وذكر الإمام البنا في رسالة دعوتنا موقف جماعة الإخوان المسلمين من الوطنية والقومية، فأفاد بأن كثيرًا من الناس افتتن بدعوة الوطنية تارة والقومية تارة أخرى وبخاصة في الشرق، حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها إساءة نالت من عزتها وكرامتها واستقلالها وأخذت من مالها ومن دمها وحيث تتألم هذه الشعوب من هذا النير الغربي الذي فرض عليها فرضًا، فهي تحاول الخلاص منه بكل ما في وسعها من قوة ومنعة وجهاد وجلاد، فانطلقت ألسن الزعماء وسالت أنهار الصحف، وكتب الكاتبون وخطب الخطباء وهتف الهاتفون باسم الوطنية وجلال القومية.
حسن ذلك وجميل ولكن من غير الحسن وغير الجميل أنك تحاول إفهام الشعوب الشرقية وهي مسلمة أن ذلك في الإسلام بأوفى وأزكى وأسمى وأنبل مما هو في أفواه الغربيين وكتابات الأوروبيين أبوا ذلك عليك ولجوا في تقليدهم يعمهون، وزعموا لك أن الإسلام من ناحية وهذه الفكرة من ناحية أخرى، وظن بعضهم أن ذلك مما يفرق وحدة الأمة ويضعف رابطة الشباب.
إن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب هذه الأرض، وألفتها والحنين إليها والانعطاف حولها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، مأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن كانوا يريدون أن من الواجب العمل بكل جهد في تحرير الوطن من الغاصبين وتوفير استقلاله، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك- أيضًا- وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد، فقال تبارك وتعالى: (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8).
وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد، وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فذلك نوافقهم فيه أيضًا ويراه الإسلام فريضة لازمة، فيقول نبيه صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا)، ويقول القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118).
وإن كانوا يريدون بالوطنية فتح البلاد وسيادة الأرض فقد فرض ذلك الإسلام ووجه الفاتحين إلى أفضل استعمار وأبرك فتح، فذلك قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ) (البقرة:193).
وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء وشكلتها الغايات والأعراض وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه النار اشتعالًا يفرقهم في الحق ويجمعهم على الباطل، ويحرم عليهم اتصال بعضهم ببعض وتعاون بعضهم مع بعض ويحل لهم هذه الصلة به والالتفات حوله فلا يقصدون إلا داره ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس.
ووجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.
وبيّن الإمام البنا موقف الإخوان من القومية، فيقول: إن كان الذين يعتزون بمبدأ “القومية” يقصدون به أن الأخلاف يجب أن ينهجوا نهج الأسلاف في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة، وأن عظمة الأب مما يعتز به الابن ويجد لها الحماس والأريحية بدافع الصلة والوراثة، فهو مقصد حسن جميل نشجعه ونأخذ به.
وإذا قصد بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره وأحقهم بإحسانه وجهاده فهو حق كذلك، وإذا قصد بالقومية أننا جميعًا مبتلون مطالبون بالعمل والجهاد، فعلى كل جماعة أن تحقق الغاية من جهتها حتى تلتقي إن شاء الله في ساحة النصر فنعم التقسيم هذا.
أما أن يراد بالقومية إحياء عادات جاهلية درست، وإقامة ذكريات بائدة خلت وتعفية حضارة نافعة استقرت، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس، كما فعلت بعض الدول في المغالاة بتحطيم مظاهر الإسلام والعروبة، حتى الأسماء وحروف الكتابة وألفاظ اللغة، وإحياء ما اندرس من عادات جاهلية، فذلك في القومية معنى ذميم وخيم العاقبة وسيئ المغبة، يؤدي بالشرق إلى خسارة فادحة يضيع معها تراثه وتنحط بها منزلته ويفقد أخص مميزاته وأقدس مظاهر شرقه ونبله، ولا يضر ذلك دين الله شيئًا: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38) .
وبعد أن بيّن الإمام البنا في رسالة دعوتنا غاية الإخوان، وأصناف الناس الذين ينظرون إلى الدعوة، وموقف الإخوان من الوطنية والقومية، ختم الرسالة بأنه رغم تشاؤم المتشائمين، فإن الوضع يبشر بالأمل، وأن آيات الله تبارك وتعالى وأحاديث رسوله- صلى الله عليه وسلم- تعالى في تربية الأمم وإنهاض الشعوب بعد أن تشرف على الفناء، وما قصه علينا في كتابه، كل ذلك ينادينا بالأمل الواسع، ويرشدنا إلى طريق النهوض.
المصادر والمراجع:
- الإمام الشهيد حسن البنا: رسالة دعوتنا.
- الدكتور عصام العريان: شرح رسالة دعوتنا.
- مدونة زاد السائرين: في ظلال رسالة دعوتنا.
- رابطة أدباء الشام: مختصر من رسالة “دعوتنا”.
- الدكتور إبراهيم منير: وفي ذكرى استشهاد الإمام البنا وقفات.