بعد مضي 10 سنوات على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وتحديدًا في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، ألقى الإمام الشهيد حسن البنا رسالة المؤتمر الخامس التي بلا شك كانت من أهم الرسائل، حيث تكلَّم فيها الإمام عن كثيرٍ من القضايا التي تهمُّ الإخوان وغيرهم؛ فتحدَّث عن غاية الإخوان ومناهجهم ووسائلهم التربوية، وعن إسلامهم وخصائص دعوتهم وعن موقفهم من الهيئات والأحزاب، وموقفهم- أيضًا- من الدول الكبرى.
وفي نهاية الرسالة، تحدّث الإمام البنا عن التضحية والجهاد ودورهما التربوي في صناعة الجيل المسلم؛ وكونهما الدعائم التي قام عليها الدين الإسلامي في عهد الأسلاف الكرام- رضوان الله عليهم- ثم بثَّ الأمل في نفوس الإخوان، وأنهم قادرون- بإذن الله- على أن يُعيدوا هذا المجد مرةً أخرى لو سلكوا ما سلكه الأسلاف الكرام بهمَّةٍ وعزيمة.
قراءة تربوية في رسالة المؤتمر الخامس
لقد أكد الإمام حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس كثيرًا من المعاني والرسائل التربوية التي يجب الالتزام بها لتنهض الأمة، ومن ذلك:
- الإسلام دين شامل: فهو ينظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة، لأنه عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف، والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه ويوصي بالإحسان فيه جميعه، وإلى هذا تشير الآية الكريمة: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (القصص:77).
- التحرر من أسر أهل الكفر والعدوان، فقال الإمام: “والإسلام يأبى على أبنائه إلا أن يعيشوا سادةً في أوطانهم، أئمةً في ديارهم، فما يعيشه المسلمون الآن وضع مخزٍ بالغ السوء والبؤس”، وقرَّر الإمام- رحمة الله عليه- قاعدةً عظيمةً، وهي عدم قدرة قوةٍ مهما بلغت من العُدَّة والعتاد من القيام بهذه المهمة وحدها، ولكن ينبغي أن تضطلع بها الملايين، وعلى الأمة جمعاء أن تقوم بدورها تجاه هذه المهمة الضخمة.
- تغليب العمل على القول: وهو ما يتضح من قول الإمام البنا في بداية الرسالة حينما قال: “كنت أود أن نظل دائمًا نعمل ولا نتكلم، وأن نَكِلَ للأعمال وحدها الحديثَ عن الإخوان وخطوات الإخوان، وكنت أحب أن تتصل خطواتكم اللاحقة بخطواتكم السابقة في هدوءٍ وسكونٍ من غير هذا الفاصل الذي نحدِّد به جهاد عشر سنوات مضت لنستأنف مرحلةً أخرى من مراحل الجهاد الدائب في سبيل تحقيق فكرتنا السامية”.
- التأكيد على الأخوة والحب في الله: فأوصى الإمام الدعاة العاملين لدين الله بعدم إغفال الحب والأخوَّة في الله؛ فهما الوقود الدافع لعجلة الدعوة، وهما الضمانة الأكيدة- بعد توفيق الله وعونه- لاستمرار العمل ونمائه.. فكيف يتسنَّى لعملٍ بلا حب ومودة وتعاطف أن يُوصَف بأنه إسلامي؟! فنحن نتقرَّب إلى الله بحبِّنا لبعض وتعاوننا مع بعض، فلا ينبغي إذن أن نختلق أعذارًا تبرِّر تقصيرنا في هذا الجانب، وعلينا أن نعمل جاهدين لاستكمال النقص في طاعة الله أولاً ثم لتحقيق الأهداف ثانيًا.
- تهذيب النفس بالمراجعة: حيث أوضح الإمام الشهيد الهدف الرئيس من المؤتمر؛ فهو للتقييم واستعراض النتائج وعدم الحياد عن الغايات والوسائل؛ لعدم الانحراف عن المستهدفات الأساسية للدعوة، كما تمَّ وضعها من البداية، ومن هنا ينبغي على مَن يسير في هذا الطريق مراجعة نفسه ووسائله ومراحله في كل فترة، ولا عيبَ في هذا حتى تستقيم الأعمال وتتضح الأهداف: “ولا بأس أن ننتهز هذه الفرصة الكريمة فنستعرض نتائجنا، ونراجع فهرس أعمالنا، ونستوثق من مراحل طريقنا ونحدِّد الغاية والوسيلة”.
- تربية النفس على إرشاد الناس للحق: ووضَّح الإمام بُعدًا مهًّما في تربية النفس، وبدأ فيه بنفسه حين قال: “ولهذا وقفت نفسي منذ نشأت على غايةٍ واحدةٍ هي إرشاد الناس إلى الإسلام حقيقةً وعملاً..”؛ فهو هنا يرسي مبدأ المسئولية الفردية بادئًا بنفسه؛ فعلى كل داعية أن يؤديَ دوره على وجهٍ يرضى ربه عنه ولا يتكل على أحد ليؤديَ عنه هذا الدور، وليتذكَّر قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى (41)) (النجم).
- العناية بالنفس: وهذا لأن بها تستقيم الأفهام وبها تصحح النيات، ولقد عني الإسلام بالنفس عنايةً عظيمةً لمكانتها وقيمتها “ولضمان حق الصواب في هذا التطبيق أو تحريهما على الأقل، عني الإسلام عنايةً تامةً بعلاج النفس الإنسانية، وهي مصدر النظم ومادة التفكير والتصوير والتشكل.. ومن هنا كانت النفس الإنسانية محل عناية كبرى في كتاب الله، وكانت النفوس الأولى التي صاغها هذا الإسلام مثال الكمال الإنساني، ولهذا كله كانت طبيعة الإسلام تساير العصور والأمم، وتتسع لكل الأغراض والمطالب، ولهذا أيضًا كان الإسلام لا يأبى أبدًا الاستفادة من كل نظام صالح لا يتعارض مع قواعده الكلية وأصوله العامة”.
- لا للعَجَلة: يقول الإمام البنا، “فإنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات. ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة”.
- ابتغاء وجه الله: وهنا يُوجه الإمام البنا رسالة لإخوانه، حيث يقول لهم: “إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه، وذلك مكفول لكم ما دمتم مخلصين. ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد، ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين، وإما مصيبون فلنا أجر الفائزين المصيبين. على أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا طريقكم، ولا إنتاج إلا مع خطتكم، ولا صواب إلا فيما تعملون، فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم. واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم والفوز للعاملين: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143)”.
خصائص دعوة الإخوان من منظور رسالة المؤتمر الخامس
وحددت رسالة المؤتمر الخامس للإمام الشهيد حسن البنا، خصائص دعوة الإخوان المسلمين، وقد جاءت على على النحو التالي:
- البعد عن مواطن الخلاف: لأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري لا بد منه، حيث إن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام، لهذا كان الخلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم وما زال كذلك، وسيظل إلى يوم القيامة.
- البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان: وذلك لانصرافهم عن هذه الدعوات الناشئة المجردة من الغايات والأهواء إلى الدعوات القائمة، التي تستتبع المغانم وتجر المنافع ولو في ظن الناس لا في حقيقة الحال، ولأننا معشر القائمين بدعوة الإخوان تعمدنا هذا، لأول عهد الدعوة بالظهور، حتى لا يطمس لونها الصافي لون آخر من ألوان الدعوات التي يروج لها هؤلاء الكبراء، وحتى لا يحاول أحد منهم أن يستغلها أو يوجهها في غير الغاية التي تقصد إليها.
- البعد عن الهيئات والأحزاب: فلما كان ولا يزال بين هذه الهيئات من التنافر والتناحر الذي لا يتفق مع أخوة الإسلام، ودعوة الإسلام عامة تجمع ولا تفرق ولا ينهض بها ولا يعمل لها إلا من تجرد من كل ألوانه وصار لله خالصا، وقد كان هذا المعنى من قبل عسيرا على النفوس الطامحة، التي تريد أن تصل عن طريق حزبيتها أو جماعتها إلى ما تريد من جاه و مال.
- التدرج في الخطوات: فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لا بد لها من مراحل ثلاث: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب، ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين، ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج.
- إيثار الناحية العملية: فقد أثارها في نفوس الإخوان ودعا إليها في منهاجهم أمور، منها ما جاء في الإسلام خاصا بهذه الناحية بالذات، ومخافة أن تشوب هذه الأعمال شوائب الرياء فيسرع إليها التلف والفساد والموازنة بين هذه النظرة وبين ما ورد في إذاعة الخير والأمر به والمسارعة إلى إعلانه ليتعدى نفسه، أمر دقيق قلما يتم إلا بتوفيق، ومنها نفور الإخوان الطبيعي من اعتماد الناس على الدعايات الكاذبة والتهريج الذي ليس من ورائه عمل، وما أنتجه في هذه الأمة من أثر سيئ وتضليل كبير وفساد ملموس، ومنها ما كان يخشاه الإخوان من معاجلة الدعوة بخصومة حادة أو صداقة ضارة ينتج عن كليهما تعويق السير أو تعطيل عن الغاية.
- إقبال الشباب على الدعوة: حيث أقبل الشباب من كل مكان على دعوة الإخوان يؤمن بها ويؤيدها و يناصرها، ويعاهد الله على النهوض بحقها والعمل في سبيلها.
- سرعة الانتشار في القرى و المدن: حيث نشأت الدعوة في الإسماعيلية، وترعرعت في جوها الصافي ودرجت على رمالها الممتدة الجميلة، ثم خطت إلى القاهرة باندماج جمعية الحضارة الإسلامية بدعاتها وأدواتها إلى الإخوان، ثم تبع ذلك تكون مكتب الإرشاد العام بالقاهرة وإشرافه على شعب الجماعة الناشئة في الأقاليم والبلدان، وعمله الدائب على نشر الفكرة وإيصالها للبلدان التي لم تتصل بها بعد.
منهاج الإخوان المسلمين
وبين الإمام البنا منهاج الإخوان المسلمين في رسالة المؤتمر الخامس بادئًا بالغاية والوسيلة للجماعة، وهي تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها.
وأما عن القوة في منظور الإخوان، فهي شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (لأنفال:60)، والنبي يقول (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)، ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرًا وأبعد نظرًا من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا في أعماقها ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها، فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح.
والإخوان يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدي الإسلام الحنيف كما فهموه، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في أول هذه الكلمة. وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان يجعل الحكومة ركنًا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد، وقديما قال الخليفة الثالث رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
ويعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظامًا آخر.
والإخوان المسلمون يحبون وطنهم، ويحرصون على وحدته القومية، ولا يجدون غضاضة على أي إنسان يخلص لبلده، وأن يفنى في سبيل قومه وأن يتمنى لوطنه كل مجد وكل عزة وفخار، هذا من وجهة القومية الخاصة.
ويعتقد الإخوان أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكر في أمرها والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي ودفنه، حتى فرغوا إلى تلك المهمة واطمأنوا إلى إنجازها.
ويرى الإخوان في الهيئات الإسلامية على اختلاف ميادينها أنها تعمل لنصرة الإسلام، ويتمنون لها جميعا النجاح، ولم يفتهم أن يجعلوا من منهاجهم التقرب منها والعمل على جمعها وتوحيدها حول الفكرة العامة.
ويعتقد الإخوان المسلمين أن كل أمة اعتدت وتعتدي على أوطان الإسلام دولة ظالمة لا بد من أن تكف عن عدوانها ولا بد من أن يعد المسلمون أنفسهم ويعملوا متساندين على التخلص من نيرها.
إن رسالة المؤتمر الخامس تُعد من أهم وثائق الجماعة ورسائلها التي توضِّح فكرَ الجماعة ومنهجها، كما أنها مليئةٌ بالمعاني الشيِّقة الجزلة، وتتناول الكثير من المفاهيم التي تشكِّل محاور أساسية في دعوة الإخوان، ومنها اكتسبت هذه الرسالة العظيمة أهميتها ومكانتها؛ لكونها تمس الكثير من القضايا الفكرية الحساسة التي تصيغ التكوين الفكري للإخوان المسلمين.
المصادر والمراجع:
- إخوان ويكي: رسالة المؤتمر الخامس.
- الدكتور حلمي الجزار: شرح رسالة المؤتمر الخامس (من رسائل الإمام البنا).
- وليد شلبي: قراءة في رسالة المؤتمر الخامس.
- الدكتور محمد عبد الرحمن: الإمام البنا واستخدام القوة (من خلال رسالة المؤتمر الخامس).