تحل ذكرى رحلة الإسراء والمعراج في نهاية شهر رجب من كل عام بما تحمله من نفحات وبركات ومعانٍ للمسلمين، هذه الذكرى التي ما زلت عبرها ومعانيها ودروسها تستنهض الهمم وتربي الأجيال وتنير الطريق إلى الخير.
ولقد خلّفت هذه الرحلة المباركة دروسًا تربوية يمكن استخلاصها لتربية الأولاد عليها وغرسها في نفوسهم منذ الصغر، سيما أنها تُجدد الحالة النفسية، وتشحذ من الهمم لمواجهة المواقف العصيبة، وهي رحلة كانت شاهدة على نصر الله وانبلاج الظلم وقتما يشاء الله سبحانه، فضلًا عن أنها تُعزّز مكانة الأقصى في قلوب الصغار.
دروس من الإسراء الإسراء والمعراج
وتشتمل رحلة الإسراء والمعراج على دروس وعبر تربية يمكن الاستفادة منها في تربية الأولاد، ومنها:
- ذكر الله على كل حال: فسورة الإسراء تبدأ بكلمة “سبحان” وفيها التنزيه والتعظيم والإجلال لصاحب هذه المعجزة من ألفها إلى يائها، فيحسُن بالمربين وأولياء الأمور تدريب أبنائهم على التسبيح لله- تبارك وتعالى- في كل وقت، ليعيشوا في صلة دائمة مع الخالق سبحانه، يقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ (الإسراء: 44).
- شرف العبودية: إذ يمكن نوجه الأبناء إلى قول الله سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، حيث نجد أنّ الله لم يقل برسوله أو نبيه أو حبيبه أو خليله، بل قال “بعبده”، وعندما تحدث القرآن عن المخلصين بين خلق الله أسماهم عبادًا، يقول تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: 63].
- اللجوء إلى الله في كل همّ: فها هو النبي- صلى الله عليه وسلم- سَلَّم قلبه لله عز وجل، وهو يحمل هم الدنيا كلها، وأمانة تنوء بها الجبال، فقد ماتت زوجه السيدة خديجة- رضي الله عنها- التي كان يأوي إليها عند تعبه، ومات عمه أبو طالب الذي كان يحميه، وذهب إلى ثقيف، ولكنها ردته ردًا سيئًا، فكان الإجابة سريعة من الله بالإسراء به إلى المسجد الأقصى.
- دواء النفس عند الله: حيث كانت هذه الرحلة أفضل علاج للطبيعة النفسية لأنها ألجأت النبي- صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده- إلى الله سبحانه وتعالى، بعد أن خرج دامي القدمين من الطائف ولكن الذي آلمه ليس الحجارة التي جرحت رجليه ولكن الكلام الذي جرح قلبه.
- تفريج الكربات: فما إن بلغ النبي- صلى الله عليه وسلم- سدرة المنتهى حتى عاد بمفرج الكروب- ليس له وحده ولكن لأمته من بعده- حيث عاد وهو يحمل تكاليف الصلاة التي أصبحت بمثابة تفريج الكرب لكل من حزبه أمر أو تكالبت عليه الدنيا والمظالم، وسطرها الحبيب بقوله لبلال: “يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها” (رواه أبو داود).
- اليقين بالله: حيث عاد النبي من هذه الرحلة بعدما أيقن أن الله سبحانه لن يتركه وأمته وسط الظلمات والمظالم، حيث أكدها سبحانه في قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)، وقال تعالى: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر:51).
- الاهتمام بالصلاة: فهي الجائزة الكبرى التي عاد بها النبي- صلى الله عليه وسلم- من السماء، وعلينا أن ندرب أولادنا عليها، ونوضح لهم أننا بها نعرج بروحنا إلى السماوات العلا، حيث يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: “قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: {مالِكِ يَومِ الدِّينِ}، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، فإذا قالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ.”.
- الأقصى في القلب: فعلى الرغم من أن هذه الرحلة كانت راحة نفسية وتشريعًا سماويًا، فإنها كانت- أيضا- تعزيزًا لمكانة الأقصى الذي يحاول البعض أن يبيعه بعَرَضٍ من الدنيا. وأراد الله تبارك وتعالى أن يربط بين المسجدين، لما يعلمه بعد ذلك أن يرتبط في وجدان المسلم هذان المسجدان، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأراد سبحانه أن يثبت المسجد الأقصى بقوله الذي باركنا حوله، وصف الله هذا المسجد بالبركة، حتى لا يفرطوا في أحد المسجدين، فمن فرط في المسجد الأقصى أوشك أن يفرط في المسجد الحرام.
- مكافأة للصبر في الدعوة إلى الله عز وجل: وهو ما يجب أن نعلمه لأولادنا، سيما في ظل هذا العصر الذي يمر فيه كل شيء على عَجَل، فها هو النبي الكريم عانى معاناة شديدة ليهدي قومه إلى صلاحهم في الدنيا والآخرة، وعارضوه، وقاوموه رغم أنه بدأ سرّا ثم جهرًا بدعوته لكنه بقي لا يستطيع أن يصلي صلاة سلمية حول الكعبة حين كان حولها 360 صنمًا حتى لا يأتي يتعرض له أي مشرك، واستمرت المعاناة في ظل فرض حصار اقتصادي واجتماعي على المسلمين، فمنع عنهم الطعام والشراب والزواج والزيارات، حتى أكلوا أوراق الشجر.
- صلاة الليل: فهذه الرحلة كانت ليلًا في وقت الخلوة والتهجد والصلاة التي كانت مفروضة على الرسول- صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُودًا}. ودلالة هذا الأمر أن الأمة الإسلامية أمة الليل، ففي الليل يخلو المؤمن بربه، يشكو إليه أحواله ويسأله من فضله، وفيه نزل القرآن على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لذا يجب تدريب الأبناء على القيام في الليل وأداء ولو ركعتين لله عز وجل.
- عمارة المساجد: لأنها أمان لها شأن عظيم في الإسلام، حتى أن الله جعل عُمّار المساجد من صفات المؤمنين، قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18]. ولأهمية المساجد يكفي أن نذكر بأن أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة هو بناء المسجد ليكون مؤسسة كبيرة للصلاة والعبادة، ومكانًا لتربية الأطفال والترفيه وإعلان الأفراح، ومأوىً للفقراء وعابري السبيل، ومشفى لمداواة المرضى.
- تربية الأبناء على التوحيد: فالأنبياء والرسل بعثهم الله إلى خلقه ليعرفوهم بالله، وكيف يعبدونه؛ ليُعلموهم أن الله وحده هو المستحق للعبادة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]. وهذا يعني أن رسالة الأنبياء واحدة، وأنهم جميعًا إخوة.
- تعريف الأبناء بقيمة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-: حيث صعد به رب العزة إلى مكان عظيم لم يبلغه أحد من البشر قبله، فعرج به إلى السموات السبع، وتخطاهن حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وكلَّمه الله جل في علاه.
الإسراء والمعراج رحلة لتربية للنفس
ولقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج للنبي- صلى الله عليه وسلم- في وقت كانت الأوضاع النفسية غير مستقرة، ولما لا وهو الذي يجري عليه ما يجري على البشر من متغيرات حيث وصف نفسه في كتاب الله سبحانه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا}(الإسراء:93).
وإذا كانت الإصابة الجسدية للنبي- صلى الله عليه وسلم- كبيرة يوم غزوة أحد، فإن إصابته النفسية يوم الطائف كانت أبلغ وأشد، ثم لمّا عاد إلى مكة بعد رحلة عصيبة على النفس، مُنع من دخولها فزادت من محنته النفسية حتى جاء المطعم بن عدي ونادى على أبنائه أن البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا.
فكيف أنت يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذه الحالة؟، وكيف قضيت يا رسولي ليلتك وأنت تتذكر الأحداث التي مرت بك؟، وكيف كانت دمعاتك التي تساقطت وأنت ترفع أكف الضراعة إلى مولاك- وهو يعلم حالك سبحانه؟
لقد عاد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في أشد الحاجة لِمَن يُجدد نفسيته، ويُخفف همّه فكان ملجأه إلى البيت الحرام، وهو ما يجب أن نربي أولادنا عليها، فنغرس فيهم أن اللجوء إلى الله هو علاج كل هم وأن المسجد بيت الله في الأرض، حيث كانت هذه هي الروح التي عاش بها النبي الكريم حتى جاءه جبريل- عليه السلام- وهو نائم في الحجر فأخذ بيده في طريق طويل قصير لإزالة ما علق به من شجون.
إن الله- عز وجل- أراد أن يجعل من هذه الرحلة تفريجًا للكرب، وقد كانت.. فما إن بلغ سدرة المنتهى حتى عاد النبي- صلى الله عليه وسلم- بالتشريع الذي يعدّ رباطًا خاصًا بين العبد وربه، عاد وهو يحمل تكاليف الصلاة التي أصبحت بمثابة تفريج الكرب لكل من فزعه أمر أو تكالبت عليه الدنيا والمظالم، وسطرها الحبيب بقوله لبلال: “يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها” (رواه أبو داود).
ومر النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- بشواهد كثيرة أنسته همومه وآلامه، وشعر أن ما جرى له في الدنيا من ألم وحزن وهم وغم وكرب لا يساوي مثقال ذرة مما يعانيه أهل النار في الآخرة، فزادت قيمة الآخرة عنده وعفى الدنيا وما فيها من ألم، وعمل على ترسيخ هذه القاعدة في وجدان أمته فقال: “لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ” (رواه الترمذي، وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ).
لم تكن هذه الرحلة المباركة تخفيفًا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فحسب، لكن لكل من آمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولًا، بل كانت أفضل علاج للطبيعة النفسية لأنها ألجأته- صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده- إلى الله سبحانه وتعالى، ولم تكن تلك الرحلة بمعناها العادي لكنها كانت رحلة لرسم مستقبل هذه الأمة وطبيعة المرحلة التي ستعيشها، ورسائل الراحة النفسية.
المصادر والمراجع:
- الدكتور صلاح سلطان: الإسراء والمعراج دروس تربوية ودعوية.
- عثمان حنزاز: ذكرى الإسراء.. تربية وبناء.
- حسن أحمد العماري: الأبعاد التربوية في رحلة الإسراء والمعراج.
- الشيخ أحمد أبو عيد: الإسراء والمعراج.. دروس وعبر.
- الدكتور يوسف القرضاوي: الإسراء والمعراج.. العبر والعظات.
- الدكتور راغب السرجاني: الإسراء والمعراج .. دروس وعبر.