إنّ من رحمة الله تعالى بأمة محمد- صلى الله عليه وسلم- أن شرع لها ما يحفظ دينها، ويثبت عقيدتها، ويجدد رسالتها، ومن هذه التشريعات خطبة الجمعة التي تعد بمنزلة صمام الأمان للحفاظ على التذكير والتواصل مع المجتمع المسلم بجميع أفراده، سواء في مجال إحياء إيمانه، أو حسن صلته بربه، أو تنظيم علاقته بالحياة والأحياء من حوله.
وللجُمعة في الإسلام مكانة كبيرة؛ فهي من فروض الأعيان، وإحدى شعائر الإسلام العظام، ومدرسة لتربية الأجيال على تعاليم وآداب هذا الدين الحنيف، وعلاج للمُشكلات، لذا شُرع التبكير لها، والإعلاء من شأنها، والتأكيد على الإنصات فيها، والوعيد الشديد في حقّ مَن تخلّف عنها.
مفهوم خطبة الجمعة وأهميتها
ومفهوم خطبة الجمعة في اللغة، يشير إلى أن الخُطبة هي بضم الخاء، وهي ما يُقال على المنبر، يُقال: خَطَبَ على المنبر خُطْبَة- بضم الخاء- وخَطَابة، وأما خِطْبَة- بكسر الخاء- فهي طلب نكاح المرأة. وهي مشتقة من المخاطبة، وقيل: من الخطب، وهو الأمر العظيم؛ لأنهم كانوا لا يجعلونها إلا عنده.
قال الأزهري في تهذيب اللغة: “والخطبة مصدر الخطيب، وهو يخطب المرأة ويخطِبُها خِطبة وخِطِّيبى… قلت: والذي قال الليث إن الخطبة مصدر الخطيب لا يجوز إلا على وجه واحد، وهو أن الخُطبة اسم للكلام الذي يتكلم به الخطيب، فيوضع موضع المصدر، والعرب تقول: فلانٌ خِطْبُ فلانة، إذا كان يخطبها”.
وفي القاموس المحيط: “… وخَطَبَ الخاطب على المِنْبَر خَطابة بالفتح، وخُطبة بالضم، وذلك الكلام خُطبة أيضًا، أو هي الكلام المنثور المُسَجَّع ونحوه، ورجل خَطِيبٌ حسن الخُطبة بالضم”.
وفي الاصطلاح، عرَّفها بعضهم بأنها: الكلام المؤلف المُتضمِّن وعظًا وإبلاغًا، ومنه من قال: إنها قياس مركب من مقدمات مقبولة أو مظنونة، من شخص معتقد فيه، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم. وعرَّف بعض المعاصرين الخطابة: بأنها فنّ من فنون الكلام، يقصد به التأثير في الجمهور عن طريق السمع والبصر معا.
وهذه الخُطبة لها مكانة سامية في الإسلام، فهي تتميز بمزايا، وتختص بخصائص لا تتوفر في أي نوع من أنواع الخطب الأخرى، سواء من حيث مكانها، وزمانها، أو حكمها، وحال المخاطبين بها، فمن حيث المكان فهو المسجد بيت الله، وأحب البقاع إلى الله، تعمره السكينة، وتغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة الأطهار، ومن حيث الزمان؛ فيوم الجمعة، أفضل أيام الأسبوع وأعظمها.
ويوم الجمعة نعمة اختص الله تعالى بها هذه الأمة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد”.
ومن حيث الحكم، فحضورُها واجب، والإنصات إليها واجب، وهذا يُحَتّم على الخطيب أن يكون في مستوى هذه المسؤولية التي أهِّلَ لها، والتي هُيّئَ له الناسُ فيها.
دور خطبة الجمعة في التربية والإصلاح
وتتعدد أدوار خطبة الجمعة في التربية وإصلاح الأفراد والمجتمع، وغرس القيم والأخلاق في نفوس الكبار والصغار، من ذلك:
- نشر تعاليم الإسلام السمحة: فالمنبر له أهمية كبيرة في خلق الوعي العام، وتربية النشء، ولكي يؤدي دوره؛ لا بد له من خطيب ذي ثقافةٍ واسعة، يحمل همومَ عصره، ويعرف أوضاعَ مجتمعه، ويجعل هدفَه إصلاحَ المجتمع، يستمدّ تعاليمَه من كتاب الله وسنة نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم-؛ ليؤدي رسالته على أكمل وجه.
- تقوية إيمان المسلم وحماية عقيدته: والعقيدة هي التي تقود المسلم إلى سعادة الدنيا والآخرة.
- نشر المحبّة بين المصلّين: وتقوية روابط وأواصر الأخوّة فيما بينهم.
- تذكير المسلمين وتنبيههم: لأنّ المسلم مهما قوي إيمانه واشتدّت عزيمته يبقى محتاجا لما ينتشله من الغفلة، ويُعينه على الإقلاع عن الذنوب.
- وسيلة إعلامية مهمة: ففيها يتداول الخطباء الأخبار التي تهم المسلمين في حياتهم اليومية.
- تحقيق التكافل والتضامن الاجتماعي: فعن طريقها يمكن الحث على جمع التبرعات للأيتام والمساكين أو للمسلمين المستضعفين في الأرض، وغير ذلك من مصارف الزكاة.
- تغيير الواقع إلى الأفضل: وهو من أهم أدوار الخُطبة، حيث النهوض بالمجتمع وتحقيق الرقي والتحضر.
- حماية المجتمع من الاختراق: ويكون ذلك من خلال التحذير من الرذيلة والتخلف والمعاصي.
- حماية الوحدة الدينية والوطنية للأمة: فالإسلام يدعونا إلى الوحدة والألفة، وينهانا عن التنازع والفرقة، فيقول ربنا سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103]. فعلى الخطيب أن يجمعَ الناس على الدين الذي ارتضاه الله لهم، وهداهم إليه، في عقيدته وأحكامه وسلوكه، ويغرسَ في نفوسهم حب بلادهم والاعتزاز بوطنيتهم وثقافتهم.
- توحيد الصف الإسلامي: فهي تجمع المسلمين في مكان واحد، وتجعلهم يسمعون الخطاب نفسه، ما يساعد على توحيد صفوفهم، وتعزيز روح الأخوة والمحبة بينهم.
اصطحاب الأولاد لصلاة الجمعة
ومن المستحب اصطحاب الأطفال إلى المسجد لسماع خطبة الجمعة وسط الجمع الغفير من الناس، حتى يتعلموا أحكام الدين ويتشرّبوا التربية الإسلامية والآداب والأخلاق الحسنة، بالإضافة إلى التعويد على أداء الصلاة في جماعة.
ولقد وَرَدَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: “رَأَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ، وَهِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا” (متفق عليه).
والنبي- صلى الله عليه وسلم- بتعليم الأطفال الصلاة، وهو ما يمكن أن يتم من خلال سماع الخطبة في المسجد، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر” (رواه أبو داود وصححه الألباني).
والخطبة تُقوّي صلة الأطفال بالله تعالى، وزيادة إيمانهم به سبحانه، ويتعلمون العقيدة الصحيحة، وكيفية الوضوء والآداب والأخلاق الفاضلة من حسن جوار، وبر للوالدين، ورحمة الأيتام والمساكين، والرحمة بالحيوان، والصدقة وفضلها، ويتعلمون حب الله ورسوله، وحب القرآن والسنة النبوية، وحب الناس الصالحين.
ويتعلم الطفل من خلال الخُطبة، البعد عن الغلو والتعصب، والكذب والنميمة والغيبة، ويعرفون عواقب كل هذه المعاصي، فيخافون الاقتراب منها.
والمسجد له خاصية فريدة تميزه عن سائر المؤسسات الاجتماعية في جانب التربية الاجتماعية؛ حيث إن له خاصية التجمع اليومي لشتى طبقات المسلمين خمس مرات في اليوم الواحد؛ وهو ما يعد تدريبًا للطفل في هذا الجانب، حيث يتعرف الطفل فيه على جيرانه، ونظرائه في السن من أهل الحي والمناطق المجاورة، ويتعود فيه على الاختلاط برفقة صالحة طيبة، حيث لا يحافظ على الصلاة إلا تقي صالح.
ومن هنا فإنّ خطبة الجمعة لها مكانة سامية وأهمية عظيمة في حياة كل مسلم، لذلك فالأعناق تشرئبُّ، والأنظار تتعلق، والأسماع تصغي لما يقوله الخطيب على المنبر في هذا اليوم العظيم، رجاءَ أن تحصِّل في تلك الفريضة زادًا إِيمانيًا يجدِّد في نفوس أصحابها العزيمة على الرُّشد، والغنيمة من كل برّ، والسلامة من كل إِثم، وما يحقق لها الفوز بالجنَّة والنجاة من النار.
مصادر ومراجع:
- الفيروزآبادي: القاموس المحيط 1/65.
- أبو بكر الرازي: مختار الصحاح، ص 76.
- الفيومي: المصباح المنير 1/173.
- الأزهري: تهذيب اللغة 7/246.
- ابن فارس: حلية الفقهاء، ص 87.
- الجرجاني: التعريفات للجرجاني، ص 99.
- النووي: تحرير ألفاظ التنبيه، ص 84-85.
- الدكتور مصلح سيد بيومي: الخطابة في الإسلام، ص 11.
- جمال بامسعود: الدور المفقود للخطبة والخطيب.