إذا أراد أي مجتمع إعداد أزواج المستقبل بالطريقة التي تضمن مواجهة الظروف والمتغيرات المخيفة التي أصبحت سمة في القرن الحادي والعشرين، فلا بُد من أن ينتبه لدور الأسرة المحوري في القيام بهذه المهمة، لأنها المناخ الذي تتشكل فيه الأفكار والتصورات عن الحياة وتعلم الأدوار الاجتماعية.
ويرى الدكتور علي عبد الحسن بريسم، الأستاذ في كلية التربية بجامعة ميسان في العراق، من خلال بحثه، أنه يُمكن معرفة تأثير الأسرة في الحياة الأسرية المستقبلية للأبناء، من خلال ما يُقدمه الأبوان كأنموذج للدور الاجتماعي، والعلاقات الزوجية، وعلاقة الآباء بالأبناء وقد تحدد البحث بنتائج الدراسات النفسية والاجتماعية، النظرية والميدانية التي أُجريت في المجتمع العراقي بخصوص الأسرة والعلاقات الزوجية والعلاقات بين الآباء والأبناء.
دور الأبوين في إعداد أزواج المستقبل
يلعب الولدان دورًا مهمًّا في تنشئة الأبناء وإعداد أزواج المستقبل للحياة الأسرية المستقبلية عبر المناخ الأسري العام الذي يتمثل في: العلاقة بين الزوجين، والعلاقة بين الآباء والأبناء، والعلاقة بين الإخوة، حيث تتشكل الحياة الأسرية من سلسلة من العلاقات التي تتمحور في العلاقة بين هذه الأطراف.
ويرمز الزواج إلى نسق التفاعل الحيوي بين المرأة والرجل بوصفها منطلقًا للتفاعل الحيوي في الحياة الأسرية، وتلعب العلاقة بين الزوجين دورًا مهمًّا في التوافق الزوجي، ما ينعكس بشكل إيجابي على حياة الأبناء المستقبلية؛ فالحياة النفسية للزوجين قبل الزواج تُعد من العوامل المهمة التي تؤثر على حياتهما فيما بعد، ويسهم طبيعة التفاعل الأسري ومداه في تحقيق التوافق الزوجي بين أعضاء الأسرة، فالعلاقات المتوازنة بين الأب والأم تستثير لدى الأبناء الاتجاهات الإيجابية نحو المشاركة والتعاون والتفاهم والرضا عن الحياة بين جميع الأطراف.
والمتوافقون زواجيًّا أظهروا ثباتًا انفعاليا أعلى، وتوترًا أقل عن غير المتوافقين؛ إذ تعد الشخصية الناضجة انفعاليًّا وذات القدرة الاجتماعية أكثر تأثيرًا في التوافق الزوجي، وهناك علاقة بين التوافق الزوجي للوالدين وشخصية الأبناء؛ فأبناء المتوافقين زوجيًّا يتمتعون بسمات شخصية مثل تحمل المسؤولية والاجتماعية، وتُعد هذه الخصائص أو السمات من المؤهلات المهمة لنجاح الأبناء في حياتهم الزوجية المستقبلية.
ويرى المختصون بالدراسات المستقبلية أنّ القرن الحادي والعشرين جاء ومعه مجموعة من التحديات على المستوى العالمي منها ازدياد السكان بشكل مخيف، وازدياد العنف بأنواعه المتعددة، ناهيك عن تفشي حالة الفقر والبطالة وتعاطي المخدرات وضعف القيم الإنسانية.
وفي مصر أجريت دراسة هدفت للتعرف إلى مواقف طلبة الجامعة من بعض القضايا الأسرية، أشارت النتائج إلى أن 22% من الطلبة يفضلون بأن تكون الحياة الزوجية شراكة بين الزوجين في الأمور كافة، أما في العراق فقد أشارت نتائج دراسة إلى تأثير المستوى الثقافي للزوجين في توزيع الأدوار بينهما، وكشفت الدراسة عن مشاركة الزوجة مع زوجها في اتخاذ بعض القرارات التي كان الزوج ينفرد بها.
ويلعب العامل الاقتصادي دورًا مهمًّا في الحياة الاجتماعية بشكل عام، وفي الحياة الأسرية بشكل خاص، ففي دراسة (ألدر) التي هدفت إلى التعرف إلى آثار الركود الاقتصادي الذي حدث في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الثلاثينات من القرن الماضي، وُجد أن تغيرات كبيرة حدثت في العلاقات الأسرية وارتفعت نسب الطلاق والهجر والانفصال بين الأزواج، ووجد الباحث- أيضًا- أن هذه الآثار كانت بعيدة المدى على حياة الأطفال من أبناء هذه الأسر؛ إذ أن بقية قيمهم وأنماط عملهم وحياتهم الزوجية متأثرة بخبراتهم الماضية حينما أصبحوا بالغين.
وتمثل العلاقات الزوجية الركيزة الأساسية للحياة الأسرية، إذ من خلالها يتقاسم الزوجان المهام والمسؤوليات، ويمارسان الأدوار الاجتماعية المناطة بكل منهما، فالزوج مطالب بتوفير المستلزمات الحياتية، وترك للزوجة مهمة تهيئة الشؤون المنزلية فضلًا عن مسؤوليتهما في رعاية الأبناء وتنشئتهم، ومن خلال طبيعة هذه العلاقة تتضح صورة الحياة الأسرية وتناسقها.
تأثير العلاقة بين الآباء والأبناء في إعداد أزواج المستقبل
وتلعب العلاقات بين الآباء والأبناء دورًا مهمًّا في إعداد أزواج المستقبل ورسم ملامح الحياة الأسرية بشكل عام، فالعلاقات المنسجمة بين الوالدين والأبناء تقود الأبناء إلى التكيف النفسي والاجتماعي، بينما سوء توافق الأطفال كثيرًا ما تكون له جذوره في سلوك الوالدين اللذين لا يتمتعان بقدر جيد من الحب والتوافق، وقد يرجع هذا بدوره إلى تاريخ حياة نمو الوالدين، ومن ثم شخصياتهم.
والأبناء أقرب إلى تقمص أو تقليد سلوكيات وقيم الوالد المحب الحاني من الوالد الكاره، وفي دراسة (هنري) أشارت النتائج إلى أن الدعم الوالدي يرتبط بشكل إيجابي برضا المراهقين عن الحياة الأسرية بينما يرتبط العقاب الوالدي ارتباطًا سلبيًّا برضا المراهقين عن الحياة الأسرية.
ولنا أن نتصور طبيعة هذه العلاقات وتوجهاتها في مجتمعنا من خلال استعراض نتائج عدد من الدراسات التي أجريت في المجتمع العربي، ففي دراسة أجريت في مصر أشارت نتائج الدراسة إلى وجود صراع بين قيم كلا الجيلين ما يعكس ضعف العلاقة بينهما.
وفي دراسة أجريت في العراق أشارت النتائج إلى وجود فجوة بين الآباء والأبناء نتيجة رفض الأبناء اتجاهات آبائهم باعتبارهم من جيل مختلف، وفي دراسة للاتحاد النسائي العربي العام التي أجريت في قَطَر، أشارت نتائج الدراسة إلى عدم وجود مؤشرات تعبر عن صراع بين الأجيال.
ويمارس الوالدان دورهم التربوي في الأسرة عبر عملية التنشئة الاجتماعية، إذ من خلال ذلك يتعلم الأبناء القيم والاتجاهات وأنماط السلوك الذي ينسجم والثقافة الفرعية التي ينتمون إليها.
ولطبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء دور مهم في مدى نجاح عملية التنشئة الاجتماعية الأسرية أو فشلها في إكساب الأبناء الاتجاهات والقيم والسلوكيات التي يرضى عنها المجتمع وتتقبلها الثقافة التي ينتمون لها، ويبدو من خلال نتائج الدراسات أن أثر الآباء على الأبناء يرتبط بطبيعة العلاقة بينهما.
العلاقة بين الإخوة
تمثل العلاقات الأسرية والتفاعل الاجتماعي بين الإخوة في إطار الأسرة مكونًا مهمًا من مكونات الحياة الأسرية الراهنة والمستقبلية، ولهذا التفاعل انعكاسات على جوانب نموهم النفسي والاجتماعي ناهيك عن الانعكاسات على جوانب النمو الأخرى وفي التأثير على إعداد أزواج المستقبل بعد ذلك.
ويبدو من خلال نتائج الأبحاث والدراسات أنّ النمو السليم يرتبط بقدرة الأبناء على التكيف النفسي والاجتماعي في مختلف جوانب الحياة، سيّما القدرة على بناء علاقات إيجابية مع الآخرين وممارسة الأدوار الاجتماعية بكفاءة والرضا عن الحياة بشكل عام؛ فالعلاقات المنسجمة بين الإخوة والخالية من تفضيل طفل على طفل آخر تؤدي إلى نمو الأطفال نموًا نفسيًّا سليمًا، وتقود إلى علاقات اجتماعية سليمة، أما العلاقات الأسرية المضطربة فإنها تؤثر على النظام الأسري من جهة وعلى الفرد وعلاقاته الاجتماعية خارج نطاق الأسرة من جهة أخرى، كما أن العلاقات الضعيفة تدل على ظهور سلوك غير اجتماعي نحو الآخرين.
وقد تكون العلاقات مع الشريك في الحياة الزوجية المستقبلية امتداد لهذه العلاقات، ويلعب الوالدان دورًا مهمًّا في طبيعة هذه العلاقات من خلال التفريق بين الأبناء تبعًا للجنس، والعمر، وترتيب الطفل في الميلاد ما قد يبعث في نفوس الأبناء مشاعر الغيرة والعدوان والصراع تجاه الإخوة، وتشير في هذا السياق عدد من الدراسات التي بحثت في هذا المجال ضمن بيئتنا العربية إلى أن الأبناء ومن خلال تنافسهم على محبة الأم وعطفها يتعلمون بشكل تلقائي كراهية الأشقاء واعتبارهم منافسين ومنافسات يجب التحسب لهم.
ويعكس الانسجام في العلاقات بين الإخوة جانبًا من جوانب الحياة الأسرية، كما تعكس طبيعة العلاقة بين الإخوة قدرة وكفاءة الوالدين في إدارتهما للحياة الأسرية من خلال خلق مناخ أسري منسجم خالٍ من المنافسة والصراعات، كما أن العلاقات الإيجابية بين الإخوة سوف يكون لها امتدادها في علاقاتهم المستقبلية، وهذا الأمر ينطبق أيضًا على العلاقة السلبية بين الأخوة والتي تتمثل بالغيرة والعدائية والصراعات.
المصادر:
- مستقبل الأسرة في العالم .
- إعداد وتأهيل الفتاة للزواج مسؤولية الأسرة والمجتمع.