إن دور الأب في تربية الأبناء أهم من انشغاله بلقمة العيش وتوفير احتياجات الأبناء والزوجة، لذا فقد أوجبت الشريعة الإسلامية على الآباء أن يُحسنوا تربية أبنائهم ورعايتهم، وحرَّمت تضييعهم وتضييعَ حقوقهم، وشرعت الكثير من الأحكام لحفظ الأبناء، والله- سبحانه تعالى- أوجب على الوالد أن يقيَ أهله من النار، وما يكون ذلك إلا بالتربية الصالحة.
ولا شك أن من أهم أدوار الأب، تربية الأبناء تربيةً إيمانية، نابعةً من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- من أجل المحافظة عليهم في الدنيا من الانحرافات والفتن، وفوزهم في الآخرة برضوان الله، وبُعْدهم عن سخطه وغضبه.
دور الأب في تربية الأبناء.. الأنبياء قدوة
وتأتي أهمية دور الأب في تربية الأبناء ورعايتهم، من أن ذلك كان عمل أنبياء الله الذين ضربوا أعظم مَثَل في سعيهم المستمر لتأديب أبنائهم، وعلِموا أنهم قُدوة مُتبعة لأبنائهم ولكل البشر؛ فكانوا كبارًا بهِمَمهم، وبنَوا مجدهم بأنفسهم، وعلَّموا أولادهم ألا يفتخروا بنسب أو بعِرْق، بل معيار التفاخر هو هممهم الموصلة إلى مرضاة الله.
قال- تعالى-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وهذه أفضلُ درجة تنافس فيها المتنافسون، وأعلى مقام شمَّر إليه العاملون، وأكملُ حالة حصَّلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم.
وحرَص إبراهيم- عليه السلام- على تربية أبنائه على هذا المبدأ العظيم، الذي هو التوحيد، وذلك في دعواته: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وفي موضع آخر: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، فكان هذا أسلوبَ إبراهيم- عليه السلام- في تربية أبنائه، فأول أمر هو الأهل والأولاد، فصب همتَه على إصلاحهم ودعوتهم، فكان هذا الأسلوب وتلك الوصايا الميمونة في عقِبه ونسله، فكل واحد من أبنائه كان موحِّدًا يعبد الله ويُربِّي على ذلك ولَدَه، ويحذِّرهم من الشرك بالله.
وقال- تعالى-: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ..} [لقمان: 13]، فتبيِّن لنا هذه الآيات همةَ لقمان- عليه السلام- العالية، وكيف جعلها في ابنه، وصبَّ جلَّ همه على تربيته، بأسلوب رقيق، فيبدأ بنصحه بتوحيد الله بأوامر إيمانية متسلسلة مبدوءة بالصلاة، أول شعيرة من شعائر الإسلام أُمرنا بتعليمها أولادنا.
مجالات دور الأب في تربية الأبناء
وينطلق دور الأب في تربية الأبناء ورعايتهم من عدة مجالات تربوية، نذكرها فيما يلي:
أولًا: المجال العَقَدي، ومن من أهم المجالات التي لا بد أن يهتم بها الأب، إذ يتولى تشكيل المعتقد والقِيَم والأفكار؛ قال- صلى الله عليه وسلم-: “ما مِن مولُودٍ إلا يُولدُ على الفِطرةِ، فأبواهُ يُهوِّدانِهِ أو يُنصِّرانِهِ أو يُمجِّسانِهِ..” (البخاري)، فمن الواجب على الأب أن يعمِدَ إلى ترسيخ المفاهيم العقدية لدى أبنائه منذ السنوات الأولى، ويرضعه العقيدة كما ترضعه الأم الحليب؛ فالتربية العقائدية السليمة لها دور كبير في تربية الطفل المسلم، وإكسابه المناعة اللازمة ضد الأفكار والعقائد المنحرفة.
ثانيًا: مجال العبادات: فلا بد من تنشئة الأبناء على العبادات المفروضة منذ الصغر مثل الصلاة والصوم وإيتاء الزكاة والصدقات، وهذا ما ورد في وصايا لقمان إلى ابنه إذ قال له: (يا بُنىّ أقمِ الصلاةَ وأمرْ بالمعروفِ وَانْهَ عن المنكرِ واصبرْ على ما أصابَك إنَّ ذلك من عزمِ الأمور) (لقمان: 17) وهذا يُوجب على الأب بصفة خاصة أن يُعلم ويُدرب أولادَه على الصلاة والصوم ويصطحبهم إلى المساجد، وأن يضع لهم برنامجًا عمليًّا على ذلك.
ثالثًا: المجال الأخلاقي، فلقد اهتم الإسلام بالأخلاق، واعتبرها الأساس الذي تستند إليه كلُّ المعاملات الإنسانية، وقد أثنى الله- عز وجل- وامتدح نبيَّه- صلى الله عليه وسلم- بقوله- سبحانه وتعالى-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ووجَّه النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- الآباءَ إلى ممارسة دورهم التربوي الأخلاقي؛ فهو مأمور بأن يُعوِّد أبناءه السلوك الأخلاقي، وتعديل السلوك الذي يتنافى مع الأخلاق الإسلامية بالممارسات والإجراءات التي يمكن إجمالها فيما يلي:
- ترسيخ خُلق الأمانة في نفوس الأبناء؛ حيث إن الإنسان وحده هو المؤهَّل لحمل الأمانة، وهذه التبعة الثقيلة هي مناط التكريم الذي أعلنه اللهُ في الملأ الأعلى، وعليه أن ينهض بتلك الأمانة؛ حتى يصل إلى مقام كريم؛ قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
- غرس خُلق الصبر في أنفسهم؛ وذلك أسوة بالنبي محمد- صلى الله عليه وسلم- الذي أُوذي في مكة، وهجر بيته ووطنه، وحُوصر في شِعب أبي طالب، وبيان أجر الصابرين؛ قال تعالى: {… إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
- تعليمهم خُلق الصِّدق؛ فالمسلم صادقٌ ظاهرًا وباطنًا، وقولًا وفعلًا، فإن الصدق أصلٌ من أصول الأخلاق، وهو المحك لمعرفة درجة الإيمان.
رابعًا: المجال الاجتماعي، ويُمكن إجمالُ دَور الأب في هذا المجال من خلال ما يلي:
- تعليم الأبناء ردَّ السلام، لِما فيه من شيوع المحبة والتآلف في الأسرة والمجتمع ومواطن الرباط.
- حثهم على الغض من البصر عن المحرَّمات؛ إذ لا بُد للحياة من ضوابطَ مع الفرد؛ فالإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهيج فيه الشهوات كل حين.
- ربط الأبناء بالصحبة الصالحة، فللصحبة أثرٌ بالغٌ في نمو الطفل النفسي والاجتماعي.
- تعويد الأبناء على آداب الاستئذان داخل البيت قبل البلوغ وبعده.
خامسًا: المجال النفسي والوجداني، ويمكن إجمالُ دور الأب في هذا المجال من خلال:
- إرواء الحاجة إلى الحب والحنان، قال- صلى الله عليه وسلم-: “إن الله إذا أراد بأهل بيت خيرًا، أدخل عليهم الرفق”.
- غرس حسن الظن بالله، والتوكل عليه، وكذلك الثقة بالنفس، وتعويدهم على حمل المسؤولية.
- تحذير الأم لأبنائها من التكبُّر والخيلاء، إلا أمام صفوف الأعداء.
- إرواء حاجة الأبناء في الملاطفة والممازحة؛ فعن أنس قال: كان النَّبيُّ- صلى الله عليه وسلم- أحسنَ الناسِ خُلُقًا، وكان إذا جاء قال: “يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير؟”.
سادسًا: تدريب الأولاد على شؤون الحياة، وتوريثهم الخبرات، حيث إن هناك قضايا كثيرةً لا توجد في الكتب وغيرها من الوسائل غير المباشرة، ولكن تُنقل من جيل إلى جيل بالتوارث المباشر، ويتطلب هذا الأمر إشراك الأولاد في الرأي والاستفادة من مشورتهم، ومن وصايا رجال التربية والدعوة الإسلامية تدريب الأولاد على شؤون البيت والمشاركة في حل المشكلات المعاصرة لاكتساب الخبرة، والانتفاع من التجارب.
سابعًا: تدريب الأولاد على أساليب الدعوة إلى الله- عز وجل- بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك بصحبتهم إلى حضور الندوات والمحاضرات والرحلات ونحوها؛ حتى ينشأ الولد على فهم الإسلام فهمًا صحيحًا، ويكون من الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ثامنًا: تربية الأولاد على أن يكونوا أحرارًا بأن يتسع صدر الوالدين لهما والمحافظة على مشاعرهم وكرامتهم، وتجنب ضربهم وإذلالهم وتخويفهم، حيث إن إرهاب الأطفال يُورِثُهم الجبنَ والخوفَ ويَسلبهم إرادتَهم ويُضعف من شخصيتهم.
الأب ومراحل تربية الطفل
ويَمر دور الأب في تربية الأبناء بثلاث مراحل فصّلها الإسلام لتكون ظاهرة أمام كل رجل مُقبل على الزواج ويريد تكوين أسرة ناجحة، وهي:
- تربية الولد قبل ولادته: فالإسلام يدعو الآباء إلى الاهتمام البالغ والعناية المركزّة في مجال اختيار الوعاء الحاضن لهذا الولد الذي سوف يأتي، قبل أن يأتي، بإعداد العدّة وتمهيد كل المقدمات التي تساعد على نشأة سليمة للطفل في بيئة أُسَرِيَّة دافئة خاليةٍ مَا أمكَن من المنغِّصات الروحيّة أوّلاً والجسديّة ثانيًا.
- التربية بعد الولادة خلال حياة الأب: في هذه المرحلة يتولّى الأب رعاية الطفل وتربيته في كلّ أبعاد حياته، فالطفل في هذه المرحلة أحوجُ ما يكون إلى أبيه، والتربية في هذه المرحلة عمليّة معقّدة تحكمها عشرات القواعد والمبادئ، فلا بد من تربية الصغير دينيًا ونفسيًا وروحيًا واجتماعيًا.
- التربية المستدامة بعد موت الأب: وهي المرحلة الأخيرة في عمليّة التربية، وهي مستمدة من المرحلتين الأولى والثانية عن طريق ترك آثارهما في المستقبل، وهي في حقيقتها استمرار لعمل الأب ومتابعة لمسيرته، وتكملة لعمله، وليس غريبًا في مفاهيم الشريعة وقيمها أن يستمرّ العمل حتى بعد الوفاة، يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له” (مسلم).
إن دور الأب في تربية الأبناء ضروري لخلق جيل سوي نفسيًا واجتماعيًا، ولا بُد من تغيير المفهوم الذي يربط التربية بالأم فقط دون إلقاء الضوء على دور الأب في هذه التربية، وأهميته في بناء شخصية الطفل.
وأصل وجود الأب في حياة الأبناء، هو الحماية والرعاية، والقدوة والسلطة والتكامل الأسري، فالأطفال بحاجة إلى أن يشعروا بأن هناك حماية ورعاية وإرشادًا يختلف نوعًا ما عمّا يجدونه عند الأم، وبأن الأب هو الراعي الأساسي للأسرة، وهو المسؤول عن رعيته، فوجوده كمعلم من العوامل الضرورية لتربية الأبناء ومساعدة الأسرة على تخطي الأزمات في الدنيا والوصول إلى الجنة في الآخرة.
المصادر والمراجع:
- عبد العزيز سالم شامان الرويلي، بحث بعنوان “تربية الأهل والأولاد في القرآن الكريم.. دراسة قرآنية”.
- دور الأب في الأسرة.
- أهمية دور الأب في الأسرة.
- الشيخ محمد زراقط: الأُبوَّة وصناعة الإنسان.. نظرة إسلاميَّة إلى دور الأب في الأسرة.
- الدكتور علي القائمي: دور الأب في التربية، ص 85-109.
- واجبات الآباء نحو الأبناء.