التزم القادة المسلمون بأخلاق الإسلام في الفتوحات العثمانية مع الأهالي والجنود والحكام، وعلى رأس هذه القيم قيمة “الحرية” بدءًا من حرية العقيدة والعبادة، ومرورًا بجميع الحريات التي أقرتها الشريعة وطبقها الفاتحون.
وفي جلسة “الفتح الإسلامي وعنايته بالحرية تربية وممارسة” في مؤتمر “الإسلام والحرية” الذي عقده “المنتدى الإسلامي العالمي للتربية”، تناول الدكتور أوزجان خضر، المتخصص في علوم الحديث وعلاقته بالاستشراق والأديان بجامعة صباح الدين زعيم في كلمته، مظاهر الحريات في هذه الفتوحات، وبخاصة في فتح مدينة القسطنطينية التي رغم فتحها عنوة، فإن السلطان محمد الفاتح أقر لها بجميع الحقوق والحريات التي تقر للبلاد المفتوحة صلحًا.
مراحل الفتوحات العثمانية
بدأ المسلمون الفتوحات العثمانية بفتح المناطق التي سيطر عليها البيزنطيون في الأناضول وآسيا الصغرى؛ وتمكن أرطغرل وابنه عثمان الأول- مؤسس الدولة العثمانية- من فتح إقليم سوغوت؛ وعندما تولى أورخان- ابن عثمان الأول- السلطة استمرت الفتوحات؛ ففتح مدينة بورصة واتخذها عاصمة له، كما تمكن من فتح مدينتي نيقية وإزميت، وكذلك مدينة جناق قلعة وقد انتهت هذه الفترة من الفتوحات عام 1360م بوفاة أورخان الأول.
بدأت المرحلة الثانية من هذه الفتوحات، تحت قيادة مراد الأول- ابن أورخان- 1360م، وتمكنوا من فتح مدينة أنقرة التي كانت عاصمة القرمان، كما تمكنوا من فتح مدينة أديرنا عام 1362م واتخذها عاصمة للدولة؛ وفُتحت في هذه الفترة مدن مثل: صوفيا، وسنانيك وكوسوفو في البلقان.
وفي عهد بايزيد الأول، بدأت المرحلة الثالثة، حيث تمكن من فتح مدينة ألاشهير التي كانت آخر مدينة تحت سيطرة البيزنطيين، وفي سنة 1393م تمكن العثمانيون من فتح بلغاريا وتحديد حدود المجر وحصار القسطنطينية، وبعد بايزيد الأول جاء ابنه محمد الأول ثم خلفه ابنه مراد الثاني، وفي تلك الفترة استرد العثمانيون الكثير من المناطق التي كانوا قد خسروها بسبب النزاعات الداخلية وتهديد التتار لهم.
في 1453م كانت المرحلة الرابعة، إذ تمكن السلطان العثماني محمد الفاتح بن مراد الثاني من فتح القسطنطينية بعد حصارٍ دام ثلاثةً وخمسين يومًا، من خلال أسطول بحري متقدم، كما تمكن من فتح بلاد الصرب والمورة وألبانيا.
وفي المرحلة الخامسة، تمكن العثمانيون في عهد سليم الأول من فتح بلاد الشام بعد انتصارها على المماليك في معركة مرج دابق سنة 1516م، ثم السيطرة على مصر وهزيمة المماليك بها سنة 1517م؛ ثم خلف سليمَ الأول ابنُه سليمان الذي لقّبه بالقانونيّ، وقد بلغت الدولة العثمانية في خلافته أوج توسعها، حيث استطاع فتح جزيرة رودوس، والقسم الجنوبي والأوسط من بلاد المجر، وفتح طرابلس وكذلك وحصار مدينة فيينا النمساوية، رغم أنه لم يوفق في هذا الحصار.
الحريات الدينية في الفتوحات العثمانية
من الشبهات الدائرة حول الفتوحات العثمانية أن السلطان محمد الفاتح حين فتح القسطنطينية قام بمحو المعابد المسيحية وفي مقدمتها كنيسة آيا صوفيا التي حرقها وهدمها- حسب زعم المؤرخين الغربيين، التي لم يجرأ المؤرخون البيزنطيون الذين كانوا في وقته أن يزعموها-؛ إلا أن السلطان محمد الفاتح التزم بأوامر الشريعة في فتوحاته، وقد كان لالتزام الجنود بالأوامر التي تنص على الالتزام بأوامر الشريعة الإسلامية في التعامل مع الأعداء وممتلكاتهم أكبر الأثر في اتساع فتوحات الخلافة الإسلامية.
إن الشريعة الإسلامية تُحرّم على الجنود في أوقات الحرب القيام بتصرفات وأفعال معينة ضد العدو وممتلكاته، وكان الجنود يلتزمون بهذه الأوامر بدقة خلال الفتوحات الإسلامية، وكانت انتصاراتهم في التاريخ ترجع إلى التزامهم بهذه الأوامر.
وذكر “ملا خسرو” قاضي العسكر في عهد محمد الفاتح في كتابه (مرقاة الوصول في علم الأصول) كل هذه الأوامر في مؤلفات القسطنطينية، فهل يمكن تصديق مزاعم حرق إسطنبول وتخريبها وقتل مَن فيها، كانت الأحكام البارزة في هذا الكتاب بمثابة القوانين الرسمية للدولة، وكان القيام بهذا نموذجًا للزعم المحروم من أي دليل والذي لا ضابط له.
ونتطرق إلى فتح اسطنبول وآيا صوفيا، فحسب القانون الإسلامي لا يُتعرض لكنائس البلدان المفتوحة سلمًا، على ألا يجرى فتح غيرها، ويسمح بتعميرها وإصلاحها، لكن الوضع يختلف تمامًا بالنسبة للبلاد المفتوحة عنوة، أي أن الحاكم المسلم يستطيع في هذه الحالة أن يهدم جميع المعابد وتهجير غير المسلمين منها، وإسطنبول فتحت عنوة بعد قتال وحرب، لذا كان تحويل آيا صوفيا وغيرها إلى مساجد كان من باب تطبيق هذا الحكم.
ولكن لم يُطبّق هذا الحكم على جميع كنائس إسطنبول، ولو طُبّق لما بقيت هناك كنيسة واحدة للنصارى أو معبدًا لليهود، بل كانت هدمت كلها، وفي كل مكان في إسطنبول هناك كنائس ومعابد للديانات الأخرى.
وبعد قيام السلطان محمد الفاتح بفتح إسطنبول وتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، استقبل وفدًا من القساوسة والحاخامات، وقال الوفد للسلطان إنه فتح إسطنبول عنوة وأنه لو شاء لهدم جميع الكنائس والمعابد حسب قوانين الحرب السائدة بين الدول، ولكنهم يطلبون من السلطان أن يتلطف ويعامل إسطنبول على أنها فتحت سلمًا، وأن وفدهم وإن جاء متأخرًا، فإنهم يرجون منه الاستجابة لرجائهم.
وبعد مشاورة السلطان الفاتح علماء المسلمين قرر الاستجابة لهذا الرجاء ولم يتعرّض للكنائس الأخرى ولا لمعابد اليهود، التي لم تُحوّل بعد إلى مساجد، مع أنه كان يحق له أن يفعل ذلك، وهذا هو سبب بقاء الكنائس والمعابد الموجودة في إسطنبول إلى الآن، وهذا يعود إلى رأي الفاتح في الحرية الدينية والوجدانية.
والفتوى الصادرة من الشيخ أبو السعود الأفندي صاحب التفسير تجيب عن هذا بكل جلاء، وأصل الفتوى كما يلي: “هل قام المرحوم السلطان محمد الفاتح بفتح إسطنبول المحروسة والقرى المجاورة لها عنوة؟!”، ويجيب: “إن المعروف للجميع أنها فتحت عنوة ولكن الكنائس والمعابد الموجودة في إسطنبول تشير إلى أنها فتحت سلمًا”.
ويؤيد المؤرخون هذه معلومات، فقد أرسل السلطان محمد الفاتح في يوم 23 مايو من تاريخ فتح القسطنطينية، رسولًا من قبله إلى البيزنطيين ليعلمهم بما يأتي: “إن المدينة ستسقط بعد أول هجوم عام، وإن على الإمبراطور أن يعلم ذلك وأنهم إن استسلموا وسلموا المدينة صلحًا فستسلم أموالهم وأرواحهم وأولادهم ولن يتعرض لهم أحد حسب قوانين الشريعة الإسلامية، وأما إن فتحت المدينة عنوة فإن الدماء ستسيل ولن يتحمل السلطان مسؤولية ما سيجرى، ومع ذلك فلم يستجب الإمبراطور لهذا، وفتحت المدينة عنوة، ومع ذلك تمت معاملتهم كما أسلفنا على أنها فتحت صلحًا.
ويتبين من هذا أن ما وعد السلطان محمد الفاتح للصربيين بأنه سيسمح بإنشاء كنيسة بجوار كل مسجد قد طبق هذا الوعد في إسطنبول أيضًا، لا شك أن هذا دليل على تسامح الدولة العثمانية في التسامح والحرية الدينية وحرية الضمير، فوجود البطريركية الرومية وكنيستها بجانب المسجد في الفاتح بإسطنبول، وأيضًا الإذن ببناء كنيسة أمام جامع مهرماه سلطان في أدرنه قابي دليل على هذا التسامح والحرية الدينية.
حقوق الأقليات الدينية في الدولة العثمانية
ومسألة حقوق الأقليات الدينية التي تترتب على الفتوحات العثمانية عليها شبهات كثيرة، وتصنف الشريعة الإسلامية الناس إلى فئات بناء على أديانهم واعتقاداتهم، فيتصدر مفهوم الأمة، وهم اتباع الدين وتختلف مفاهيم الانتماء إلى الوطن أو الرسالة، وكانت الرعية في الدولة السلجوقية- بدايات الدولة العثمانية- تصنف إلى فئتين مسلمين وغير مسلمين، فالروم والأرمن جميعًا نصارى والترك جميعًا مسلمين في الدولة العثمانية، ولذلك صنف النظام القانوني العثماني المقيمين في الممالك الإسلامية إلى أصناف ثلاث حسب دينهم وتبعاتهم الوطنية، وهم: المسلمون، الذميون، وغير ذلك.
وكانت لهم حقوق معينة، من بينها:
- الحقوق السياسية والإدارية، ونعنى بها حقوقًا خاصةً بالذميين حصرًا، ونبين بشأنها أمرين هما:
أولًا: عمل الذميين في الوظائف العامة؛ وظائف الدولة حق مبني على المواطنة في دار الإسلام فلهم حق التعيين في الوظائف العامة بعيدًا عن الخاصة بشئون الدين الإسلامي والخاصة بالحكامية مثل رئاسة الدولة وقيادة الجيش والولاية والإمارة العظمى والقضاء الشرعي.
ثانيًا: لما كان الخليفة مسلمًا بالضرورة فلزم الإسلام فيمن ينتخبه ويختاره، ولذلك أيضًا العضوية في مجلس الشورى وهو مجلس تنفيذي عام وحق اختيار أعضائه من المسلمين وحدهم، ولكن قانون انتخاب أعضاء البرلمان لسنة 1293م، منحت الذميين حق عضوية البرلمان.
- حق الحريات الأساسية: ونجمعها في مجموعتين؛ تمتع الذميون بالحقوق والحريات الشخصية كالمسلمين سواء بسوء، فهم متساوون في حق التنقل والسكنى والحقوق الشخصية، ما عدا استثناءات يسيرة.
وتمتع الذميون بحرية الدين والمعتقد في الدولة العثمانية، كما أمرت الشريعة الإسلامية، فالأصل في الإسلام ترك الذميون وشأنهم في دينهم، ولكن لا ننكر القيود التى وضعتها الشريعة لمعادلة حرية الدين مع حاكمية الإسلام.
- التكاليف والواجبات المطلوبة من الأقليات: وتشمل ثلاث واجبات أساسية، وهي: الجزية المفروضة على أهل الذمة، ودفع الخراج على الأراضي، وتقرير الضرائب الجمركية على أهل الذمة.
دروس تربوية من فتح غلاطة بإسطنبول
وخلفت الفتوحات العثمانية دروسًا تربوية عديدة، تتلخص في الفرمان الذي أرسله السلطان محمد الفاتح إلى أهل غلاطة، وهي منطقة في الجهة الآسيوية من إسطنبول، إذ تضمن:
- السماح لغير المسلمين بإقامة عباداتهم وطقوسهم على الوجه الجاري حسب الأسلوب القديم القائم في عاداتهم وأركانهم.
- أن يقر في أيديهم أموالهم وأرزاقهم وأملاكهم ومخازنهم وسفنهم وعموم أمتعتهم ونساؤهم وعبيدهم، ولا يتعرض لهم بشيء منه ولا يتم إكراههم على شيء في ذلك.
- لهم أن يسافروا برًّا وبحرًّا في أنحاء المملكة.
- عليهم الخراج يؤدونه عامًا بعد عام كغيرهم.
- تكون كنائسهم ملك أيديهم ولكن لا يدقوا جرسًا أو ناقوسًا ولا يبنون كنيسة جديدة.
- أن يذهب ويروح تجارهم بحرًا وبرًّا ويدفعون ضرائبهم على العادة الجارية دون أن يعتدي عليهم أحد.
- لا يؤخذ ولدهم للجيش الجديد، وهو الجيش الإنكشاري.
- ألا يشتغل ولدهم في الجيش أو موظفًا على مصلحة في الدولة.
إن الفتوحات العثمانية قد التزمت بأوامر الشريعة الإسلامية، وكفلت الحريات والحقوق للأهالي في البلاد المفتوحة، وكذلك بالنسبة للجنود والحكام، وفي الوقت نفسه فرضت واجبات لا يتعداها أصحاب البلاد والحكام، وقد خلفت هذه الفتوحات دروسًا تربوية مستمدة أصولها من المنهج الإسلامي الذي طبقه المسلمون الأوائل فقادوا به العالم.
المصادر والمراجع:
- الخلافة العثمانية ودورها في نشر الإسلام .
- مراحل الفتوحات العثمانية .
- فتوحات العثمانيين في أوروبا .