يحثّ الشرع على الصمت ويرغّب فيه، لأنّه يحفظ الإنسان من الوُقوع في آفات اللسان ومنكرات الأقوال، ويُسلم به من الاعتذار للآخرين، وهو سمة من سمات المؤمنين، وصفة من صفات العقلاء المُفكّرين، والمرء مخبوء تحت لسانه؛ والمُؤمن الصادق يعيش في حذر دائم من فلتات لسانه، فيجعل عمله كثيرا وكلامه قليلا، وذلك خير له، فكثير الكلام يندم على كثرة كلامه، ولن يندم صامتٌ على صمته في الغالب؛ فالعمل يكثر أو يقل بمقدار كثرة الكلام أو قلته؛ فكثير الكلام قليل العمل، وقليل الكلام كثير العمل، والمؤمن لا يتكلم إلا بما يعود بالفائدة عليه.
تعريف خلق الصمت
ويأتي معنى الصمت في اللغةً، من صَمَتَ يَصْمُتُ صَمْتًا وصُموتًا وصُماتًا: سَكَتَ. وأَصْمَتَ مثله، والتصْميتُ: التسكيتُ. ويُقال لغير الناطق: صامت ولا يقال ساكت. وأصمتُّه أنا إصماتًا إِذا أَسْكَتُّهُ. وَيُقَال: أَخذه الصُّمات. إِذا سكت فلم يتكلم.
وفي الاصطلاح، يعني “فقد الخاطر بوجد حاضر. وقيل: سقوط النطق بظهور الحق. وقيل: انقطاع اللسان عند ظهور العيان، وقال الكفوي: هو “إمساك عن قوله الباطل دون الحق”، أما السكوت فهو ترك التكلم مع القدرة عليه، وبهذا القيد الأخير يفارق الصمت؛ فإن القدرة على التكلم غير معتبرة فيه.
ويذكر الماوردي أنّ الكلام يكون لداع يدعو إليه، إمّا فى اجتلاب نفع، أو دفع ضرر، ولا بد من أن يأتي به في موضعه، ويتوخّى به إصابة فرصته، لأنّ الكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به، ويقتصر منه على قدر حاجته، فإنّ الكلام إن لم ينحصر بالحاجة، ولم يقدّر بالكفاية، لم يكن لحدّه غاية، ولا لقدره نهاية، ولا بد من اختيار اللّفظ الّذي يتكلّم به، لأنّ اللّسان عنوان الإنسان، يترجم عن مجهوله، ويبرهن عن محصوله.
خلق الصمت في الإسلام
وأوصى الإسلام بطول الصمت والسكوت عن الكلام الذي لا يفيد، يقول تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]. قال ابن كثير: “مَا يَلْفِظُ أي: ابن آدم مِنْ قَوْلٍ أي: ما يتكلم بكلمة “إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” أي: إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى: “وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ” [الانفطار: 10-12].
وقال الشوكاني فتح القدير عن تفسير الآية: أي ما يتكلم من كلام، فيلفظه ويرميه من فيه إلا لديه، أي: على ذلك اللافظ رقيب، أي: ملك يرقب قوله ويكتبه، والرقيب: الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر، فكاتب الخير هو ملك اليمين، وكاتب الشر ملك الشمال، والعتيد: الحاضر المهيأ.
ومن آفات اللسان: فضول الكلام، والخوض في الباطل، قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء:114]، وقال سبحانه: (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [النساء:140].
وأكدت السنة النبوية أهمية هذا الخُلُق، فعن عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت” (البخاري ومسلم). قال ابن عبد البر: “وفي هذا الحديث آداب وسنن، منها التأكيد في لزوم الصمت، وقول الخير أفضل من الصمت؛ لأن قول الخير غنيمة، والسكوت سلامة، والغنيمة أفضل من السلامة”.
وقال النووي: وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: “فليقل خيرًا أو ليصمت” فمعناه: أنه إذا أراد أن يتكلم؛ فإن كان ما يتكلم به خيرًا محققًا يثاب عليه واجبًا أو مندوبًا فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين؛ فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةً من انجراره إلى المحرم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا.
وقد كان هذا الخلق من هدي النبي- صلى الله عليه وسلم-، فعَنْ سِمَاكٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: “نَعَمْ، وَكَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ، قَلِيلَ الضَّحِكِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ، وَأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَيَضْحَكُونَ، وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ” (رواه أحمد).
وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: “أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ” (البخاري)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ مِرَارٍ: “رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا تَكَلَّمَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ” (رواه البيهقي).
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ” (البخاري ومسلم).
وفطن الصحابة الكرام والتابعون لأهمية الصّمت، فها هو أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- أخذ بطرف لسانه وقال: “هذا الذي أوردني الموارد” (رواه مالك، والنسائي في السنن الكبرى)، وعن علي- رضي الله عنه- قال: “بكثرة الصمت تكون الهيبة”.
وَوَرَد عن أبي الدرداء- رضي الله عنه- أنه قال: تعلموا الصّمت كما تعلمون الكلام، فإنَّ الصّمت حلم عظيم، وكن إلى أن تسمع أحرص منك إلى أن تتكلم، ولا تتكلم في شيء لا يعنيك، ولا تكن مضحاكًا من غير عجب، ولا مشَّاءً إلى غير أرب”.
وعن أنس بن مالكٍ- رضي الله عنه- قال: “أربعٌ لا يصبن إلا بعجب: الصّمت وهو أول العبادة، والتواضع، وذكر الله، وقلة الشيء”.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ: سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ عَنِ الْعِبَادَةِ، فَقَالَ: “رَأْسُ الْعِبَادَةِ التَّفَكُّرُ وَالصَّمْتُ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي حَرْفٌ عَنْ لُقْمَانَ قَالَ: قِيلَ لَهُ: يَا لُقْمَانُ مَا بَلَغَ مِنْ حِكْمَتِكَ؟ قَالَ: لَا أَسْأَلُ عَمَّا قَدْ كُفِيتُ، وَلَا أَتَكَلَّفُ مَا لَا يَعْنِينِي، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ بَشَّارٍ، إِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَصْمُتَ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ مَوْعِظَةٍ أَوْ تَنْبِيهٍ أَوْ تَخْوِيفٍ أَوْ تَحْذِيرٍ” (البيهقي).
فوائد صمت اللسان
ومن خلال الاطلاع على تعاليم الإسلام نجد أن الصمت في موضعه له فوائد عديدة، منها ما يلي:
- دليل كمال الإيمان، وحسن الإسلام.
- السلامة من العطب في المال، والنفس، والعرض.
- يمنح طاقة قوية للتفكير بعمق في كل ما يحصل حولنا.
- الحل الأفضل أمام المشكلات الزوجية الصغيرة.
- يولد الاحترام في المواقف الصعبة، بعكس الصراع والجدل الذي يولد التنافر والحقد.
- يعلم حسن الاستماع الذي يفتقده كثيرون.
- دليل حسن الخلق، وطهارة النفس.
- سبب محبة الله، ومحبة الناس.
- سبب للفوز بالجنة، والنجاة من النار.
- من أقوى أسباب التوقير.
- دليل على الحكمة .
- سبب للسلامة من اللغط.
- يجمع للإنسان لبَّه.
- يفرغ الإنسان للفكر والذكر والعبادة.
إنّ اللسان السائب حبلٌ مرخيٌّ في يد الشيطان، فإذا صَمت ولم يتكلم فيما لا يعنيه كان خيرا لصاحبه، ولم يُوجِّهَهُ الشيطان كيف يشاء ومتى أراد، وإذا لم يملك الإنسان أمره، كان فمه مدخلا للنفايات، وقلبه محطاً للملوثات، لذا فإنّ العاقل يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاما تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالإمساك عنه أفضل؛ لأنه قد يجر الكلام المُباح إلى حرام أو مكروه.
مصادر ومراجع:
- الجوهري: الصحاح تاج اللغة 1/256.
- ابن دريد الأزدي: جمهرة اللغة 1/400.
- الكفوي: الكليات، ص 806.
- المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف، ص 219.
- أبو الحسن الندوي: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 7/3038.
- الشوكاني: فتح القدير 5/89.
- ابن عبد البر: التمهيد 21/35.
- النووي: شرح النووي على مسلم 2/18.
- فيصل الحميزي: فوائد الصمت.