حذّر الإسلام من خطورة مخالفة مقصود القرآن الكريم وتأويله على حسب الأهواء والأمزجة، وأكد أنه كتاب أنزله الله تعالى لهداية النفوس، وتنظيم الحياة، والأخذ بأيدي البشر إلى أقوم السبل، وتحقيق السعادتين الدنيوية والأخروية، وهو ما حققه في حياة الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وأحدث أعظم حركة تغييرية شهدها التاريخ.
وقد نتساءل لماذا لا يحقق القرآن هذا الدور في حياة البشرية اليوم؟ أليس هو الذي أنزل على محمد- صلى الله عليه وسلم- بسوره وآياته وحروفه؟ بلى، إنه الكتاب الذي حفظه الله تعالى من التبديل والتغيير، وهو أصدق وثيقة عرفها الإنسان، لكن فهم القرآن هو الذي تعرض للخلل، فلم يعد كثيرٌ من المسلمين يفهمونه كما أنزل، ولم يعودوا يتعاملون مع الآية من خلال رصيدها الحقيقي من المعاني، وأصبح المسلم يستعمل الآية في غير ما أنزلت له.
الإسلام يحذر من مخالفة مقصود القرآن
وخطورة مخالفة مقصود القرآن الكريم أشد من الهجران، ومن بين الآيات التي يستشهد بها كثير من الناس في غير موضعها قول الله تعالى: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) [البقرة: 272]، وهذه آية لا تغيب عن المسلم، سواء كان متعلمًا أو أميًا لا يقرأ ولا يكتب، وأغلبهم يستشهد بهذه الآية إما لحسم الخلاف في موضوع ما، أو لمطالبة من يدعو إلى الله بدعوة مقنعة أن يقلع عن دعوته بحجة أن الآذان في صمم، والناس لا يستجيبون إلى الخير وقد ذهب الزمان الذي كان المرء يجد فيه أعوانًا على الهدى والمعروف.
وتستخدم- أيضًا- لإعطاء المعاند والمكابر مُبرر الإصرار على عناده وكبره، فيقول المراقب الخالي الطرف من أعباء الحق: “اترك يا شيخ، ليس عليك هداهم”، وهذا الأسلوب من الاستدلال بالآيات الكريمة يناقض مقاصدها وأهدافها، ويجعلها تعمل في غير ميدانها، وإذا تأملنا الآية وما حفَّها من القرائن وما سبقها ولحقها من الآيات فسيتبين لنا الدور العظيم الذي تؤديه في إيقاظ الهمم، وإحياء النشاط، وإثارة الجهد، جهادًا وثباتًا ودعوة إلى الله تعالى.
ومن الآيات- كذلك- قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56]، فقد جاءت هذه الآية في سياق سورة القصص، بعد الكلام عن قصة موسى- عليه السلام- وفرعون، وبيان ما في القصة من أعلى وجوه البلاغ وأقواها في مواجهة أشرس صور العناد والجحود والاستكبار، ورغم سوق الشواهد والدلائل والبراهين، كل ذلك مؤيدة بالمعجزة، رغم كل هذا فقد أصم فرعون أذنيه عن سماع الحق، فالهدي مبذول في أقوى صوره وأوضحها، ولكن فرعون وملأه أخذوا على أنفسهم إغلاق جميع المنافذ، وحجبوا بعنادهم قلوبهم عن الهدى.
وحذّر الله- عز وجل- المسلمين من القول في القرآن بغير علم، فإنّ المتكلم في معاني القرآن إنما يتكلم في بيان مراد الله تعالى بكلامه؛ فإن تكلّم في التفسير بما لا علم له به؛ فقد كذب على الله، وقال عليه ما لا يعلم، وهذه ذنوب عظيمة، وآثام كبيرة يجرّها على نفسه، ويضلّ بها الناس عن هدى الله؛ وقد اشتدّ الوعيد على من فعل ذلك، فقال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف].
وقال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام]، وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل: 116-117]، وقال جل شأنه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].
وشدد النبي- صلى الله عليه وسلم- على خطورة تأويل كلام الله بالأهواء والأمزجة، بل كان يُرى عليه الغضب إذا رأى شيئًا من الاختلاف في القرآن، والقول فيه بغير علم، وقد صح أن أبا عمران الجوني قال: كتب إليَّ عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: هَجَّرْت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومًا، قال: فسمع أصواتَ رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُعْرَفُ في وجهه الغضب، فقال: “إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب” (أحمد والنسائي).
وعن أبي أمامة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن؛ فغضب غضبًا شديدًا حتى كأنما صب على وجهه الخلّ، ثم قال- صلى الله عليه وسلم-:” لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؛ فإنَّه ما ضلَّ قوم قطّ [بعد هدى كانوا عليه] إلا أوتوا الجدل”، ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}، (أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي).
وعن عائشة- رضي الله عنها-، قالت: تلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم” (أحمد والبخاري ومسلم).
وعن بسر بن سعيد مولى ابن الحضرمي، قال: حدثني أبو جهيم الأنصاري- رضي الله عنه- أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ فسألا النبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال: “القرآنُ يُقرَأُ على سبعةِ أحرُفٍ ، فلا تُمارُوا في القُرآنِ ، فإنَّ مِراءً في القرآنِ كُفرٌ”، (رواه أحمد).
وعقلَ أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلك الوصايا النبوية الجليلة، فكانوا أشدّ الناس تعظيمًا لكلام الله- جلّ وعلا-؛ وأحسنهم اتّباعًا لهداه، وأشدّهم حذرًا من المراء في القرآن، والقول فيه بغير علم، وأبعدهم عن الاعتماد في فهمه وتفسيره على الرأي المجرّد والهوى، وكانوا يقولون ويوضّحون معانيه مهتدين بالنبي- صلى الله عليه وسلم- إذ كانوا أعرف بالقرآن من غيرهم ولم يروا بذلك بأسًا، وإنما المنهي عنه أن يلج في مجال التفسير من ليس من أهله.
أصناف من يقعون في مخالفة مقصود القرآن
وهناك أصناف عديدة تقع في مخالفة مقصود القرآن الكريم ومعرفة معاني آياته على الوجه الصحيح، ومنها:
- الذين لا يؤمنون بالقرآن أصلًا من كفرة أهل الكتاب والمشركين فهؤلاء إنما يقولون فيه ما يقولون ليصدّوا عنه، وليحاولوا مغالبته، وإيجاد شيء من الاختلاف فيه، والقدح في صحته ودلالته على الهدى، وقد أنزل الله- عز وجل- في هذا الصنف آيات بينات تدلّ على عظيم جرمهم، منها قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت: 26-28].
- والصنف الثاني، هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان بالقرآن، ويسعون في إثارة الشبهات، ولَبْس الحقّ بالباطل، والمجادلة بالمتشابه منه لإبطال دلالة المحكم، وصدّ الناس عن الهدى بعد إذ جاءهم، وقد ورد في التحذير من مجادلة المنافقين بالقرآن أحاديث، منها ما رواه النوّاس بن سمعان- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “لا تجادلُوا بالقُرْآن، ولا تكذِّبُوا كتابَ اللهِ بعضَه ببعْضٍ؛ فوالله! إنّ المؤمنَ لَيجادلُ بالقرآن فيُغلَبُ وإنّ المنافقَ لَيجادلُ بالقرآن فيَغلِبُ” رواه الطبراني وصححه الألباني.
- والصنف الثالث: أهل البدع الذين يتّبعون أهواءهم، ويعرضون عن السنة واتّباع سبيل المؤمنين من الصحابة والذين اتّبعوهم بإحسان، ويتبعون المتشابه، ويخوضون في آيات الله بغير علم ولا هدى، وجاء عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي- صلى الله عليه وسلم-، قال: “إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم” (متفق عليه)
- والصنف الرابع: المتكلّفون الذين يقفون ما ليس لهم به علم، ويقولون في تفسير كلام الله بما لا دليل عليه، ولا حاجة تستدعي الاجتهاد فيه، وإنما يتكلّفون تقحّم تلك المسائل من غير حاجة ولا حُجَّة، ولا يستفيدون بتكلفهم علماً صحيحاً، ولا عملا صالحًا، وقد قال الله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص: 86].
- والصنف الخامس: المتعالمون المتشبّعون بما لم يُعطوا، وخطرهم على الأمّة عظيم، وضررهم كبير، لأنّهم يُظهرون أنفسهم في مظهر العلماء، ويتكلمون بلسانهم، ويستعملون شيئًا من أدواتهم، ويتكلّمون بالغرائب وما يدهش الناس ويبهرهم لفتًا لأنظارهم وجذباً لاهتمامهم، حتى يصدّروا أنفسهم ويصدّرهم من يغترّ بهم؛ فيظنّهم العامّة علماء؛ فتروج أقاويلهم وأكاذيبهم.
- وهناك صنف الجُهَّال الذين لا يتورّعون عن القول في القرآن وتفسيره بغير علم تخرّصا منهم وتعجلاً وجهلًا، وهذا أمر ملاحظ على بعض العامّة هداهم الله؛ يُسأل أحدهم عن معنى الآية؛ فيستنكف أن يقول: لا أدري، ويقول في الآية بما يتفق له، ومنهم من يجرّه الحديث إلى آية فيتكلّم في تفسيرها بظنّه وتخرصه، وقد يكون رجلاً له قدره عند أهل ذلك المجلس فيعتقدون صحّة قوله.
ضوابط تفسير القرآن وتأويله
وحتى لا يقع أي مسلم في مخالفة مقصود القرآن الكريم، فإنّ عليه الالتزام بالتفسير المبني على القواعد والضوابط التي وضعها العلماء، وأبرزها:
- النقل عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع التحرز عن الضعيف والموضوع.
- الأخذ بقول الصحابة، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقًا، وخصّه بعضهم بأسباب النزول ونحوها، مما لا مجال للرأي فيه.
- الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.
- والأخذ بما يقتضيه الكلام، ويدل عليه قانون الشرع، وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس في قوله: “اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل” (البخاري ومسلم).
فمن فسر القرآن الكريم برأيه أي باجتهاده ملتزما الوقوف عند هذه المآخذ معتمدًا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله، كان تفسيره سائغًا جائزًا خليقاً بأن يسمى تفسيرًا، ويكون تفسيرًا جائزًا ومحمودًا، ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها كان تفسيره ساقطًا مرذولًا خليقًا بأن يسمى التفسير غير الجائز.
ويقول صاحب مناهل العرفان: فالتفسير بالرأي الجائز يجب أن يلاحظ فيه الاعتماد على ما نقل عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ما ينير السبيل للمفسر برأيه، وأن يكون صاحبه عارفاً بقوانين اللغة، خبيراً بأساليبها، وأن يكون بصيراً بقانون الشريعة، حتى ينزل كلام الله على المعروف من تشريعه، أما الأمور التي يجب البعد عنها في التفسير بالرأي، فمن أهمها:
- التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة أو الشريعة.
- حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة.
- الخوض فيما استأثر الله بعلمه.
- القطع بأن مراد الله كذا من غير دليل.
- السير مع الهوى والاستحسان.
إنّ مخالفة مقصود القرآن الكريم من الأمور الخطيرة التي حذر منها الإسلام، حتى لا يقع الناس في شرٍّ جراء القول في القرآن بغير علم، فالمتكلم في معاني القرآن إنما يتكلم في بيان مراد الله تعالى بكلامه؛ فإن تكلّم في التفسير بما لا علم له به؛ فقد كذب على الله، وقال عليه ما لا يعلم، وهذه آثام كبيرة يجرّها على نفسه، ويضلّ بها الناس عن هدى الله؛ فيحمل من أوزار الذين يضلّهم بغير علم إلى وزره.
المصادر والمراجع:
- الدكتور همام سعيد: قواعد الدعوة، ص 79-81.
- ناصر العمر: بين القول في القرآن بالرأي والتدبر!
- معهد آفاق التيسير: التحذير من القول في القرآن بغير علم.
- إسلام أون لاين: ما هي شروط العلماء لتفسير القرآن تفسيرا علميا يتناسب مع روح العصر؟
- إسلام عبد الهادي: يحرفون الكلم.
- الزرقاني: كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن، 2/50.