حثّ الإسلام على الالتزام بخلق حسن العشرة باعتباره من أنبل وأجمل الأخلاق التي تنجذب إليها النفوس وتتلهّف الأرواح على الاقتراب من المتحلّي به؛ ولا يتّصف به إلا مَن اجتمعت له أنواع من الشّيم النبيلة من صبرٍ وحلمٍ وكرمٍ وسلامةِ صدرٍ، ورجاحةِ عقلٍ، وغيرها.
والقلوبُ مجبولةٌ على حُبِّ مَن أحسن إليها، وربّما تحوّل البغض العارم إلى مودةٍ صافيةٍ بسبب الإحسان، ولين الجانب، وحسن المعاشرة، سواء كان ذلك بين الأزواج أو الجيران أو الأقارب أو أي إنسان تربطنا به علاقة في العمل أو الدراسة أو أي مكان.
مفهوم حسن العشرة وفوائدها
ويمكن أن نعرف مفهوم حسن العشرة لغويا، من خلال تعريف معنى كلمة الحُسنُ وهي ضِدُّ القُبحِ، أو نَعتٌ لِما حَسُن، أو هي عبارةٌ عن كُلِّ مُستحسَنٍ مرغوبٍ، والعِشرةُ اسمٌ من المعاشَرةِ والتَّعاشُرِ، وهي المداخَلةُ والمخالطةُ والمصاحَبةُ والمعايَشةُ والمعامَلةُ، يقالُ: عاشَرْتُه معاشَرةً، واعتشَروا وتعاشَروا: تخالَطوا.
ولا تختلف العشرة في الاصطلاح عن معناها في اللّغة الّذي هو المخالطة والمداخلة في أمور الحياة، فإذا تعلّقت العشرة بالنّساء كان المراد بها ما يتعلّق بأمور المبيت والنّفقة والتّحدّث مع الزّوج وغير ذلك من أمور الحياة، وتدخل العشرة الحسنة بذلك ضمن التّكاليف المتعلّقة بأحوال النّساء خاصّة، لأنّ القوم قبل الإسلام كانوا يسيئون معاشرة نسائهم.
وهذا الخلق العظيم له فوائد عديدة، أبرزها: أنه سَبَبٌ لمحبَّةِ اللهِ تعالى؛ قال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195]، وسببٌ لمحبَّةِ النَّاسِ ووُدِّهم، وطريق الفَوزِ بالجنَّةِ والنَّجاةِ من النَّارِ؛ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: “فمن أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النَّارِ ويُدخَلَ الجنَّةَ فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، وليأتِ إلى النَّاسِ الذي يحِبُّ أن يؤتى إليه” (مسلم).
ومن فوائده أنه علامةٌ على كمالِ الإيمانِ وحُسنِ الإسلامِ، وسبب في تحصيلُ معيَّةِ اللهِ تعالى، ونيلُ رَحمتِه؛ قال تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69] ، وقال أيضًا: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56]، وسبب لشيوعُ الوُدِّ والألفةِ والمحبَّةِ، وتماسُكُ الأمَّةِ وترابُطُ أبنائِها، والسَّعادةُ وراحةُ البالِ؛ قال ابنُ القيِّمِ: “إنَّ الكريمَ المحسِنَ أشرحُ النَّاسِ صدرًا، وأطيبُهم نفسًا”.
حسن العشرة في القرآن والسنة
ووردت آيات في القرآن الكريم تشير إلى حسن العشرة بالمعروف، منها قول الله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة: 231] ، وهي آيةُ تضمَّنت الأمرَ بحُسنِ العِشرةِ مع الزَّوجةِ.
وقال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء: 86]، وفي هذا تعليمٌ لهم حُسنَ العِشرةِ وآدابَ الصُّحبةِ. وقال- عز وجل-: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة: 13]، وفيه بعثٌ على حُسنِ المعاشرة.
والإحسان يكون مع الوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين والجيران، قال- سبحانه وتعالى-: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) [النساء: 36]، فينبغي للجارِ أن يتعاهَدَ جارَه بالهَديَّةِ والصَّدَقةِ والدَّعوةِ، واللَّطافةِ بالأقوالِ والأفعالِ، وعَدَمِ أذيَّتِه بقولٍ أو فعلٍ.
وقال- جل وعلا-: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) [النساء: 19]، قال الأزهريُّ: “العَضْلُ في هذه الآيةِ من الزَّوجِ لامرأتِه، وهو أن يُضارَّها ولا يحسِنَ مُعاشرتَها؛ ليضطرَّها بذلك إلى الافتداءِ منه بمهرِها، سمَّاه اللهُ عَضْلًا؛ لأنَّه يمنعُها حقَّها من النَّفقةِ، وحُسنِ العِشرةِ، والإنصافِ في الفِراشِ”.
وأمّا ما جاء في حَضِّ النَّبيِّ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- على حُسنِ العِشرةِ والجِوارِ، فعن ابنِ عُمَرَ وعائشةَ- رَضِيَ اللهُ عنهما- قالا: قال رسولُ اللَّهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: “ما زال جِبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظنَنْتُ أنَّه سيُوَرِّثُه” (صحيح الترمذي).قولُه: (سيُوَرِّثُه) أي: سيجعَلُه قريبًا وارِثًا، وقيل: معناه، أي: يأمُرُني عن اللهِ بتوريثِ الجارِ من جارِه، وهذا خرجَ مخرَجَ المبالغةِ في شِدَّةِ حِفظِ حَقِّ الجارِ.
وعن أبي هريرة- رَضِيَ اللهُ عنه-: أنَّ النَّبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ” (البخاري). وعن أبي هُرَيرةَ- رضي الله عنه- عن رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: “… من كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ جارَه” (البخاري ومسلم)، فجعَل إكرامَ الجارِ من مقتضى الإيمانِ.
وروى أبو هُرَيرةَ عن رسولُ اللَّهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنه قال: “يا نساءَ المُسلِماتِ لا تَحقِرَنَّ جارةٌ لجارتِها ولو فِرْسِنَ شاةٍ”. قال ابنُ حَجَرٍ: “الفِرْسِنُ: عَظمٌ قليلُ اللَّحمِ، وهو للبعيرِ مَوضِعُ الحافِرِ للفَرَسِ، ويُطلَقُ على الشَّاةِ مجازًا، وأشيرَ بذلك إلى المبالغةِ في إهداءِ الشَّيءِ اليسيرِ، وقبولِه لا إلى حقيقةِ الفِرسِنِ؛ لأنَّه لم تجْرِ العادةُ بإهدائِه، أي: لا تمنَعْ جارةٌ من الهديَّةِ لجارتِها الموجودَ عِندَها لاستقلالِه، بل ينبغي أن تجودَ لها بما تيسَّر وإن كان قليلًا، فهو خيرٌ من العَدَمِ، وذِكرُ الفِرْسِنِ على سبيلِ المبالغةِ، ويحتَمِلُ أن يكونَ النَّهيُ إنَّما وقع للمُهدى إليها وأنَّها لا تحتَقِرُ ما يُهدى إليها ولو كان قليلًا، وحَمْلُه على الأعَمِّ من ذلك أَولى”.
وقال سَلمانُ لأبي الدَّرداءِ: “إنَّ لرَبِّك عليك حقًّا، ولنفسِك عليك حقًّا، ولأهلِك عليك حقًّا؛ فأعطْ كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه. فأتى أبو الدَّرداءِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذكر ذلك له، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صَدَق سَلمانُ” (البخاري)، وهذا فيه ثبوتُ حَقِّ المرأةِ على الزَّوجِ في حُسنِ العِشرةِ.
وعن أبي ذرٍّ- رَضِيَ اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: “يا أبا ذرٍّ إذا طبَخْتَ مَرَقةً فأكثِرْ ماءَها، وتعاهَدْ جيرانَك” (مسلم)، وهذا الأمرُ على جهةِ النَّدبِ، والحَثِّ على مكارِمِ الأخلاقِ، وإرشادٌ إلى محاسِنِها؛ لما يترَتَّبُ عليه من المحبَّةِ والأُلفةِ، ولما يحصُلُ به من المنفعةِ، ودفعِ الحاجةِ والمفسدةِ عن الجارِ.
وقال جعفَرُ بنُ أبي طالبٍ- رَضِيَ اللهُ عنه-: “أمَرَنا أي النَّبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بصِدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وصِلةِ الرَّحِمِ، وحُسنِ الجِوارِ، والكَفِّ عن المحارِمِ والدِّماءِ، ونهانا عن الفواحِشِ، وقَولِ الزُّورِ، وأكلِ مالِ اليتيمِ، وقَذفِ المُحصَنةِ” (أخرجه أحمد).
تطبيق تربوي
والمواقف التي تكشف عن حسن العشرة والألفة كثيرة، منها ما روته السيدة صفية بنت حيي- رضي الله عنها-، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حج بنسائه، فبرك بصفية جملها فبكت، وجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما أخبروه، فجعل يمسح دموعها بيده، وهي تبكي وهو ينهاها.
وذات مرة استأذن أبو بكر على النبي فسمع صوت عائشة- رضي الله عنها- عاليا، فلمَّا دخل تناولها ليلطمها، وقال: لا أراكِ ترفعين صوتك على رسول الله. فجعل النبي يحجزه، وخرج أبو بكر مُغضباً، فقال النبي حين خرج أبو بكر: “كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟!”. فمكث أبو بكر أياماً، ثم استأذن على رسول الله، فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما. فقال النبي: “قَدْ فَعَلْنَا، قَدْ فَعَلْنَا” (أحمد وأبو داود).
وكان لأبي أيوب الأنصاري-رضي الله عنه- أدب جمٌّ مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- عندما نزل في ضيافته، فقد نقل أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري قصة نزول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند مولاه حيث يقول: “فنزل النبي- صلى الله عليه وسلم- في السفل وأبو أيوب في العلو، قال: فانتبه أبو أيوب ليلةً، فقال: نمشي فوق رأس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟! فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: السفل أرفق، فقال أبو أيوب: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول النبي- صلى الله عليه وسلم- في العلو، وأبو أيوب في السفل” (مسلم).
وورد عن الحسن: “ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى”، وفي هذا الباب قصة له، في امرأة محتاجة جاءته، فقالت: أنا جارتك، قال: كم بيني وبينك؟ قالت: سبعة أدؤر، (جمع دار)؛ فنظر الحسن فإذا تحت فراشه سبعة دراهم، فأعطاها، وقال: كدنا نهلك”.
وعنِ العِرباضِ بن سارية- رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: “إنَّ الرجلَ إذا سقَى امرأته مِن الماء أُجِر”، قال: فأتيتُ امرأتي فسقيتُها، وحدثتُها بما سمعتُ مِن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم” (أحمد وصححه الألباني).
وعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- أنه ذُبحت له شاة، فجعل يقول لغلامه: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيُورِّثه” (أحمد وصححه الألباني).
إن حسن العشرة بالمعروف خلق رفيع ومن دلائل صدق الإيمان العملية، وهو من الصفات الإيجابية التي حث عليها الإسلام، فهو يساعد الإنسان على بناء علاقات إنسانية ناجحة، وتحقيق السعادة والرضا في الحياة.
مصادر ومراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة 2/57.
- الزبيدي: تاج العروس 34/418.
- الفيومي: المصباح المنير 2/411.
- أحمد مختار عمر: معجم اللغة العربية المعاصرة 2/1502.
- ابن القيم: زاد المعاد 2/24.
- الفخر الرازي: تفسير فخر الرازي 10/12.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء 2 /233، 234.
- الزمخشري: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، ص 393.