إنّ حب الشهوات من رغبات الإنسان الفطرية، وقد تكون نافعة فتدفع الإنسان إلى تحقيق ما فيه مصلحته في الدنيا والآخرة، مثل الشهوة في الطعام والشراب والنكاح والعلم والعمل الصالح، أما الضارة فهي التي تدفع الإنسان إلى تحقيق ما فيه ضرره في الدنيا والآخرة، مثل الشهوة في الأكل والشرب المحرمين، والنكاح المحرم، والكذب والغش، وغيرها.
والحماية من الشهوات ضرورة، حتى لا يصبح الإنسان بعيدًا عن الله تعالى وعن طاعته، وحتى لا يقع في المعاصي والذنوب، أو يضيع وقته وجهده في تحقيقها، بل قد يتعرض للأذى المادي، مثل الإصابة بالأمراض الجسدية، أو الأذى المعنوي، مثل الندم والحسرة.
حب الشهوات في القرآن والسنة
وبيّن الله- عز وجل أنّ حب الشهوات رغبةُ شديدةُ للنفسِ في تحصيلِ ما تشتهيه من ملذاتها ومطالبها التي تلائمها وتحبها ولا تتمالك عنها، فقال- سبحانه تعالى- : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” [آل عمران: 14-15].
وفي هذه الآية مقارنة بين متاع زائل وبين نعيم دائم، بين دنيا فانية وأخرى باقية، وهذا امتحان مكشوف الأوراق ومحدد النتائج، فأمام الإنسان اختيارين الأول: متاع الحياة الدنيا والثاني: التقوى (للذين اتقوا).
والأمر لا يحتاج إلى كثير تفكير، فأي عاقل لا بد من أن يختار الخيار الثاني، لأنّ النتيجة هي: جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله.
يقول ابن كثير- رحمه الله-: يُخبر تعالى عمّا زُيّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأنّ الفتنة بهنّ أشد، روى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء”.
وأمّا إذا كان القصد بهن العفاف، وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب، حيث وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة”.
وحُب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة، فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- ممّن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود، فقد روى الإمام أبوداود في سننه من حديث معقل بن يسار- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم” (أبو داود وصححه الألباني).
وحُب المال كذلك، تارة يكون للفخر والخيلاء، والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة للنفقة في القربات وصلة الأرحام، والقرابات ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح شرعًا. يقول تعالى: ( وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ). قال ابن جرير الطبري- رحمه الله- بعدما نقل اختلاف المفسرين في المراد به: والصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير كما قال الربيع بن أنس، وقوله تعالى: (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) قال هي: “المعلمة بالشيات الحسان الرائعة حسنًا لمن رآها”.
وتربية الخَيل أنواع، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما التي هي له أجر؛ فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له، فلا تغيب شيئًا في بطونها إلا كتب الله له أجرًا، ولو رعاها في مرج ما أكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجرًا، ولو سقاها من نهر جار كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر- حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها- ولو استنت شرفًا أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر، وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملًا، ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها، وأما الذي عليه وزر فالذي يتخذها أشرًا وبطرًا وبذخًا ورياء للناس، فذاك الذي هي عليه وزر” (البخاري ومسلم).
وقوله تعالى: (وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ)، الأنعام: الإبل والبقر والغنم، والحرث الأرض المتخذة للغراس والزراعة، ثم قال تعالى: (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الزائلة، (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)، أي حسن المرجع.
ثمّ قال- سبحانه تعالى-: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ)، أي قل يا محمد للناس الذين زين لهم حسب الشهوات من النساء والبنين، وسائر ما ذكرنا: أأخبركم وأعلمكم بخير وأفضل لكم منذ لك كله؟! (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (خَالِدِينَ فِيهَا)، أي ماكثين فيها أبد الآباد.
وقال تعالى: (وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ)، أي من الدنس والخبث والأذى، والحيض والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)أي: أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم، (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، أي: يعطي كلًا ما يستحقه من العطاء.
كيف نحمي أنفسنا من الشهوة الحرام؟
ولقد وضعت الشريعة الإسلامية العديد من الوسائل التربوية لحماية النفس من الاستغراق في حب الشهوات الحلال، وإحجام النفس عن الحرام منها، ومن هذه الوسائل:
- الدعاء: فمن الضروري أن يكسر المسلم من دعاء الله- سبحانه وتعالى- بأن يُبعده عن السوء والفحشاء، ويُجنِّبه ذلك، كما فعل نبيّ الله يوسف- عليه السلام- عندما عُرِضَت عليه الفاحشة، حيث دعا الله- تعالى-: (وَإِلّا تَصرِف عَنّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِنَ الجاهِلينَ* فَاستَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنهُ كَيدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ) [يوسف: 33-34].
- غرس العفّة في نفوس الأبناء: حتى ينشأ منهم جيلٌ صالحٌ متمسّكٌ بأحكام وتعاليم الإسلام.
- سدّ الذرائع المؤدية إلى الفساد: بحيث يحرص المسلم على مجانبة كل ما يُسهم في الوقوع في الرذيلة والفساد، ومن ذلك مجانبة الخلوة بالمرأة الاجنبية، لقول النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: “لا يخلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ؛ فإنَّ الشيطانَ ثالثُهُما” (مسلم).
- استحضار الثواب المُعدّ لمَن ضبط نفسه عن الشهوات: فالمسلم لا بد من أن يستحضر ويتذكّر الثواب والأجر الذي أعدّه الله- تعالى- لِمَن اتّبع أمره، وضَبَط نفسه عن الشهوات، حيث قال الله- تعالى-: (إِنّا لا نُضيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلًا) [الكهف: 30].
- الصبر والصلاة: فالصبر هو القدرة على ضبط النفس والتّحكم بها؛ بسيطرة العقل على الهوى والشهوة فتستقيم النَّفس وتتهذّب، وأمّا الصَّلاة فتُبعد المسلم عن السوء والرذيلة، يقول الله- تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت: 45].
- مجانبة التبرّج: ويدلَّ على ذلك قول الله- تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).[الأحزاب: 33].
- الغضّ من البصر: فإطلاقه أدعى لإطلاق الشهوة في القلب والاندفاع وراءها، سيما أنَّ العين مرآةٌ للقلب فيكون حفظ بصرها سببا في حفظ القلب وشهوته، قال الله- تعالى-: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)[النور:30]. وقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: “إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أدْرَكَ ذلكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ” (البخاري).
- تجنب الدخول قبل الاستئذان: ودلَّ على ذلك قول الله- تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) [النور:27]، ويقول النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: “إنَّما جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِن أجْلِ البَصَرِ” (البخاري).
- تجنب ترك الحدود بل إقامتها: فالحرص على إقامة الحدود وأوامر الله- تعالى- واجتناب نواهيه كفيلٌ بردْع النفوس عن مخالفة أوامر الله -تعالى- وأحكامه.
- التفرقة في المضاجع: بحيث يحرص المسلم على كلِّ ما كان من شأنه أن يبثّ العفّة والاحتشام في نفوس أبنائه، ومن ذلك التفريق بينهم في المضاجع عند بلوغ عامهم العاشر، ودلَّ على ذلك قول رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-: “مُرُوا أبناءَكم بالصَّلاةِ وهم أبناءُ سَبعِ سِنينَ، واضرِبوهم عليها لعَشرٍ، وفَرِّقوا بينهم في المضاجِعِ” (صحيح أبي داود).
- تقوى الله- تعالى- ومخافته: بأن يُلزِم المسلم نفسه بطاعة الله- سبحانه تعالى- واتّباع أوامره واجتناب نواهيه في السرّ والعلن على حدٍّ سواء، لقول الله- عز وجل-: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19]، وأشار عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- في تفسير لفظ (خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) إلى الرَّجل الذي يغضّ طرفه عن النساء إذا نظر إليه أصحابه.
- الإيمان بالله تعالى والخوف من عقابه: فالإنسان الذي يؤمن بالله تعالى ويخشى عقابه، لا يقدم على فعل المعاصي التي ترضي شهواته.
- التقوى وفعل الطاعات: فالإنسان المتقي الذي يفعل الطاعات، يكون بعيدًا عن الشهوات، لأنّ الطاعات تُطهر القلب وتجعله زاهدًا في الشهوات.
- الصحبة الصالحة: فالإنسان الذي يصاحب الصالحين، يكون أكثر ميلًا إلى فعل الخير والابتعاد عن الشر.
- تجنب الفتن: فهي ما يدعو الإنسان إلى فعل المعصية، والإنسان الذي يحرص على تجنب الفتن، يكون بعيدًا عن الشهوات.
- الحرص على الصوم: فالصوم يُضعف الشهوات ويساعد على الابتعاد عنها.
- تلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه: فهو يُرشد الإنسان إلى طريق الخير ويُبعده عن طريق الشر.
- الزواج: بحيث يُرغِّب المسلم نفسه بالإقبال على الزواج والحلال ومجانبة الحرام، فلم ينهَ الله- تعالى- النَّفس عن شيءٍ إلّا وأغناها عنه بمباحٍ وحلالٍ، قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: “مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ” (البخاري).
ومع ذلك فلولا الشهوات التي تُنازع الإنسان في اتجاهه إلى ربه لم يكن للاختبار في الدين فائدة، وحب هذه الشهوات يكون محمودًا إذا استخدمها الإنسان في طاعة الله والتقرب إليه، وهو ما أكدته الشريعة الإسلامية وبيّنته للناس جميعًا.
مصادر ومراجع:
- عبد العزيز الحويطان: حب الشهوات في القرآن والسنة.
- محمد علي يوسف: حب الشهوات.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/26-27.
- الطبري: تفسير الطبري 3/1711-1713.
- إسلام ويب: معالجات نبوية لغريزة الشهوة.