لا يفرقُ الكثيرون بين حبِّهم للأشخاص
وبين هوسِ ومرضِ التعلُّق بهم
لدرجةٍ يصعبُ فيها العيشُ من دونِهم
هذا التعلقُ المذمومُ يُؤثرُ سلبًا على العمليةِ التربوية
ويتسببُ في اختلالِ البَوْصَلة التربوية
ونشأةِ التعصبِ للبعض على حسابِ الانتماءِ للفكرةِ والمنهج
وهو ما يظهرُ جليًا بشكلٍ متكررٍ داخلَ الحركاتِ والدعوات
حيث أصبحَ هناك الكثيرُ من المتعلقين بالأشخاص بشكلٍ “أعمى”
دونَ التفكيرِ بالعقلِ والمنطقِ حول ما إذا كان الصادرُ عن هؤلاء الأشخاصِ حقٌ أم باطل
لتنتشرَ العداواتُ وتتزايدَ الأزماتُ ويكبرَ الصراعُ بين أبناء الدينِ الواحد والمذهبِ الواحد
ويُعرَف التعلق بأنه: الهيمنةُ وعدمُ الاستقلالِ إلا بوجودِ الشخصِ الذي تعلقت به…
أنواع التعلق
هناك نوعانِ من التعلقِ بالأشخاص
النوعُ الأولُ هو “التعلقُ المتزنُ والآمن”
وهو ما يظل في مضمونِ التوازنِ دون إفراطٍ أو مبالغةٍ
به يُحفظُ الحبُ ويصونُ المرءُ من يحبُه ويتعلقُ به
ويحفظُ فيه الإنسانُ قدرتَه على تقييمِ الأمورِ وفقًا للمبدأِ والفكرةِ والمنهجِ، لا وفقَ الإنجازات المسبقةِ للأشخاص
أما النوعُ الثاني فهو “التعلقُ المَرَضِيِّ”
وهو حالةٌ عاطفيةٌ تحدثُ لبعضِ الأشخاصِ وبه يصلُ المرءُ إلى درجةِ الافتتانِ ،والحزنِ والقعود إذا لم يجد من تعلقَ بهم حولَه، فالوسطيةُ خيرٌ، وفي ذلك يقولُ الإمامُ عليٌّ رضيَ اللهُ عنه: “أَحْبِبْ حَبيبَك هَوْناً ما، عسى أن يكونَ بَغِيضَكَ يوماً ما، وأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هوناً ما، عسى أن يكون حَبيبَك يوماً ما”. رواه الترمذي
وقال الإمامُ مالكٌ (كلٌّ يؤخَذُ من قولِه ويردُّ إلا صاحبُ هذا القبرِ)، يقصد النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
وقال ابنُ القيمِ في مدارجِ السالكين: التعلقُ بغيرِ الله تبارك تعالى، وهذا أعظمُ مُفسِداتِه على الإطلاق، فليسَ عليه أضرُّ من ذلك، ولا أقطعَ له عن مصالحِه، وسعادتِه منه، فإنه إذا تعلقَ بغيرِ الله، وكلَه اللهُ إلى ما تعلقَ به، وخذلَه من جهةِ ما تعلقَ به.
ويقول الشيخُ محمد المختار الشنقيطي: التعلقُ: بلاءٌ، وأيُ بلاءٍ! ذلك البلاءُ الذي تتألمُ، وتتأوهُ منه القلوبُ، فحقٌ عند اللهِ ثابتٌ لا مريةَ فيه، معلومٌ بسنّتِه أن من أحبَ لغيرِ اللهِ، عذبه اللهُ بحبِ شيءٍ سواه، كلٌ من أحبَ شيئًا لغير الله، عذبه الله بذلك الحبِ.
أسباب التعلق المرضي بالأفراد
التعلقُ بالأشخاصِ على حسابِ المبادئِ والأفكارِ أمرٌ مذموم
وهو من مصائدِ الشيطانِ التي يصيد بها قلوبَ بني آدمَ
وينتج هذا التعلقُ المرضي من عدةِ أسباب، أبرزِها:
١- خطأِ بعض المربين حينما يربِطون المتربين بأشخاصِهم أكثرَ من ربطِهم بالفكرةِ والرسالة.
٢- ضعفِ محبةِ الله وتعظيمِه في قلبِ الفرد، وامتلاءِ القلبِ بحبِ العبادِ أكثرَ من المولى عزَّ وجلَّ.
٣- الجهلِ العامِ وقلةِ العلمِ بحقيقةِ ومقتضياتِ الحبِ الحقيقيِّ في الله.
مظاهر وعلامات التعلق المرضي
لهذا المرضِ مظاهرُ وعلاماتٌ يعرفُ بها، أهمُّها:
١- انشغالُ القلبِ دائمًا بالشخصِ المحبوب.
٢-القعودُ عن النشاطِ والعملِ في غياب الشخصِ المتعلقِ به.
٣- غيابُ التجردِ في المواقفِ.
كيف يمكننا أن نتعافى من التعلق المرضي
إذا أردت أن تعيشَ علاقاتِك الاجتماعيةِ والدعويةِ بشكلٍ سليم
فعليك أن تكونَ متوازنًا في علاقاتِك بمن حولَك دونَ إفراطٍ أو تفريطٍ
فكيف يمكننا أن نفعلَ ذلك؟
١- استعنْ باللهِ وأقبلْ على الطاعات، وعليك أن تشغلَ وقتَك بما يفيدُ من مصالحِ الدينِ والدنيا.
٢- تذكرْ دومًا الآخرةَ، وحقيقةَ أنك ستُسأل فردًا أمامَ المولى عزَّ وجلَّ (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)
وأن الكلَّ في ذلك اليومِ سيكونُ مشغولًا بنفسِه وبعملِه فقط (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)
2- النظرُ في مفاسدِ مثلِ هذه العلاقات التي تصيبُ بالتعلق المَرَضِي، وما تجلِبُه من شغلِ القلبِ واضطرابِه وحبسِه وإذلالِه.
٣- ضعْ حدودًا لنفسِك، لا تسمحْ لأحدٍ أن يتخطاها أو أن يُلغي شخصيتَك
٤- تكلم مع نفسِك عن مشاعركِ بكل صراحةٍ، وما مميزاتُ وعيوبُ العلاقةِ مع الطرفِ الآخر.
ثبات الحق وزوال الأشخاص
إن أهلَ الحقِّ في كل زمانٍ ومكان
هم أعظمُ الناسِ صبرًا على أقوالِهم ومعتقداتهم
وإن أصابَهم في سبيلِ ذلك ما أصابَهم
وهذا هو الثباتُ على الحقٍّ
ولا شك أن الفتنَ التي يتعرضُ لها المؤمنون في هذه الأزمنةِ المتأخرةِ كثيرةٌ متنوعة
فلذلك لا بد أن يوطِّن المرءُ نفسَه على تحرِّي الحقِّ دائمًا ومتابعتِه
وربطِ مصيرِه به فيكونُ معه حيث يكون، ويدورُ معه حيث يدور
وفي الوقتِ نفسِه يتحرزُ من الارتباطِ بالأشخاص
فالأشخاصُ يزولون ويتقلبون وتُنازِعُهم الأهواءُ والشهوات
وتعتريهِم الشبهاتُ، ويُغويهم الشيطانُ وتغلبُهم النفسُ
ويكون الارتباطُ بهم كالمشيِ على أرضٍ تميدُ أو تمور
أو كركوب سفينةٍ تتقاذفُها الأمواجُ ويهددُها الغرقُ والهلاك
فلا تتعلقْ كثيرًا واجعلْ لعقلك وقلبِك حدودًا مع الجميع
ونلفِتُ إلى ميزةٍ واحدةٍ في الارتباطِ بالأشخاص
حسنةٍ وحيدةٍ يجنيها الفرد من صلته بغيره وثقتِهم به واتباعِهم له
وهى اصطحابُهم معه إلى ساحةِ الحق الذي آمن به
وطريقِ الهداية الذي سار فيه
كما فعل الصحابيُ الجليل “ضمام بن ثعلبة”
حين جاء إلى رسول الله ﷺ يسأله عن أركانِ الإسلام ثم عاهدَه على الالتزامِ بها من غيرِ زيادةٍ ولا نقصان ثمنًا للجنة .