إنّ وجود المصلحين في الأرض دليل على الخير ورحمة الله بأهلها، فالمصلح قد ينقذ أمة، وبوفاته تفقد الأمة أحد أسباب إنقاذها، ومن هؤلاء حافظ النتشة الذي خلّف آثارًا ما زالت شاهدة على عطائه، فمنذ اليوم الأول لانطلاقة الحركة الإسلامية في فلسطين كان شعلة من النشاط والالتزام والمثابرة، وأسهم في إنشاء جيل يرفض المساومة على حقوقه في فلسطين، وكان خير مثال للثبات والعطاء على مدى 55 عامًا، إلى أن توفاه الله تعالى.
لقد وعى “النتشة” قول الحق تبارك وتعالى، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود: 117]، إذ إنّ أول مُقومّات بقاء الكون هو بقاء آثار الرُّسل وعدم انطماسها، وإنما تنطمس آثار الرسل وتنمحي بتعطيل الوسيلة الضامنة لبقائها وهم الأفراد المصلحون.
نشأة حافظ النتشة
وُلد حافظ عبد الغني عبد المغني عبد النبي النتشة بمدينة الخليل عام 1924م، في حارة السواكنة بمنطقة الزاهد، والتحق بمدرسة الإصلاح الإسلامية، ثم انتقل إلى مدرسة باب الزاوية الابتدائية ثم إلى المدرسة الرشيدية التي أتم فيها التعليم حتى الصف الثاني الثانوي، والتحق بكلية الطب في القاهرة عام 1945م وحصل على بكالوريوس الطب والجراحة في سبتمبر سنة 1951 بدرجة امتياز.
وبعدما تخرج في كلية الطب عمل طبيبًا، ثم أصبح رئيسًا لمستوصف الإخوان المسلمين في الخليل لمدة 26 عامًا، وشارك في تأسيس عددٍ من الاتحادات والمؤسسات في مدينة الخليل وتقلَّد عدَّة مناصب، منها أنه كان أحد المؤسسين لرابطة الجامعيين في الخليل منذ قيامها عام 1953م، وشغل منصب أمين الصندوق طيلة السنوات 1953- 1960م لثماني دورات باستثناء دورة عام 1957م، وكذلك نال عضوية منصب الهيئة الإدارية لدورة عام 1963م.
لقاء بالإخوان
أصبح الدكتور حافظ النتشة عضوًا في مجلس بلدية الخليل المكون من ثمانية أعضاء، وذلك بالتزكية لدورة (أكتوبر 1955م)، لكنه أعلن استقالته في 16 يناير 1956م، بسبب نجاحه كعضو في مجلس النواب الأردني، فقد كان من أوائل الشخصيات الإخوانية التي اقتحمت قبة البرلمان الأردني حينما أصبح نائبًا عن حركة الإخوان المسلمين بين الأعوام 1956م حتى 1961م، واختير في الدورة الثانية من عام 1967 إلى أن فك الارتباط عام 1988م.
يقول الأستاذ إبراهيم غرايبة: وفي عام 1956م بعد تغييرات قيادية كبيرة جرت داخل الجماعة، شارك الإخوان في الانتخابات النيابية، ونجح منهم أربعة نواب من بين أربعين نائبًا، وهم: محمد عبد الرحمن خليفة، وعبد الباقي جمو، وعبد القادر العمري، وحَافِظ النّتشة.
وعمل “النتشة”- أيضا- عضوًا في الوفد الفلسطيني بهيئة الأمم المتحدة برئاسة أحمد الشقيري سنة 1963م، وكان من المؤسسين لجمعية أصدقاء المريض في الخليل، ورئيسًا للمستشفى الأهلي في الخليل حتى وفاته.
والتقى الدكتور حافظ النتشة والإمام الشهيد حسن البنا ضمن وفد من الطلبة الفلسطينيين إبان مجزرة دير ياسين عام 1948م، وقد التقوا به للاسترشاد، وعندما علم أنه من الخليل، فوجئ الوفد بأنه يعرف عن تاريخ الخليل أمورًا كثيرة، كان أبناء الخليل يجهلونها، وقد التقى به وقتها في المركز العام للإخوان المسلمين، كما التقى “النتشة” العديد من القياديين والسياسيين ومسؤولي الأنظمة العربية.
وسمع “النتشة” عن دعوة الإخوان أثناء دراسته في مصر، وحينما عاد إلى فلسطين وجد الدعوة قد وصلت إليها وانتشرت فالتحق بها عام 1953م، وكان له نشاطٌ ملحوظٌ ومؤثرٌ وسط أهالي الخليل.
وفي بداية الخمسينيات أسس مركزًا تابعًا للإخوان المسلمين مع مجموعة صغيرة من الرعيل الأول وأطلق عليه اسم الحركة (مركز الإخوان المسلمين) وكان ولا يزال موجودًا في شارع الإخوان المسلمين، وهو عبارة عن مبنى مكوّن من طابقين وست غرف وكانت تنفذ من خلاله جميع الفعاليات والأنشطة الخاصة بالحركة، وفي عام 1958 أدى الدكتور حافظ دور المراقب العام للإخوان على مستوى فلسطين.
إسهامات دعوية وخيرية
وأسهم الدكتور حافظ النتشة في غرس الفكر التربوي في الشباب الفلسطيني المتحمس، وكان ذلك عبر نظام الأسر المعتمد في الحركة، حيث كان يُشكّل مجموعات تتلقى الدّروس الدينية، وكل مجموعة مُؤلّفة من ستة أشخاص، بالإضافة إلى المسؤول عن المجموعة، وكانوا يقدمون برنامجًا تربويًا علميًا وبيئيًا مميزًا يعتمد على المواعظ ودورات تحفيظ القرآن وأحكام التجويد والدروس من خلال المساجد.
وكان الدكتور النتشة يقوم هو ومَن معه بتقديم الخدمات والمساعدات العينية للأعضاء المنتسبين والأسر المحتاجة على حد سواء، فكانوا يجمعون رسوم اشتراك غير محددة على الأفراد، كلٌ حسب استطاعته، وكانت هذه الرسوم تُسخَّر في خدمة العامة.
وكانوا يقدمون- أيضًا- خدمات إنسانية أخرى، مثل العلاج والتطبيب؛ حيث افتتحوا مستوصفًا في بناية الدبويا (المعروف حاليًّا بمغتصبة بيت هداسا)، وكانوا يأخذون من المواطنين مبالغ رمزية، ويقدمون لهم العلاج برسوم بسيطة جدًّا.
وأسهم- أيضًا- بتأسيس جمعية أصدقاء المريض في الخليل سنة 1976م تلك التي كانت تُقدّم الخدمات الكثيرة من خلالها، ثم أسهم بشكل فاعل في تأسيس المستشفى الأهلي، وبفعل دعمه ونشاطه كان لجمعية أصدقاء المريض سبعة فروع عاملة في محافظة الخليل.
وترك الدكتور حافظ، بصمات واضحة في مسيرة العمل الإسلامي والمؤسساتي، وعمل تحت جناح دعوة الإخوان جنديًا مجهولًا، وشكل شعلة من النشاط والمثابرة، فكان الطبيب البارع والعالم العامل، والمثابر الذي لم تلن له قناة، والبناء الماهر الذي دعم أسس حركته.
يقول نجله مهدي النتشة، في برنامج بعنوان “رجال حول القدس”: كان والدي- رحمه الله- متباسطًا جدًّا في العمل الطبي، والعمل الخدماتي، وكان همه الأول والأخير خدمة الناس”، ويضيف: “وكان شعاره حديث النبي- عليه الصلاة والسلام- “خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ” (ابن حبان).
وأكد مهدي النتشة أن هَمَّ والده كان رضا الله تعالى، وكان زاهدًا في الدنيا لأبعد الحدود، ولا يهتم بها على الإطلاق، فكانت شخصيته مميزة، وقليلًا ما نجد من أمثاله في هذا البلد.
ويقول عنه عادل الجنيدي، رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية سابقًا: “ليس كبقية الرجال، فقد كان رجل علم، ورجل فقه، ورجل دعوة، ورجل سياسة، ورجلًا قياديًا وإنسانيًا”.
أما صهره تحسين النتشة، فقال عنه: “كان يقوم بالأعمال الخيرية ويشجع على القيام بهذه الأعمال، باعتباره مؤسسًا لبعض الجمعيات الخيرية في الخليل”.
وقد كان الدكتور النتشة مسؤولاً بشكل مباشر عن مستوصف الإخوان المسلمين منذ عام 1954م وحتى عام 1982م وهي السنة التي قام فيها بعض من نساء المغتصبين باقتحام المبنى، والاستيلاء عليه فيما بعد، وكان يدعم المستوصف عددٌ من رجال ووجوه الخليل والمتبرعون وأصحاب الخير.
وفي أيامه الأخيرة؛ وجه الدكتور حافظ رسالة إلى جماعة الإخوان المسلمين في كل مكان دعاهم فيها للتمسك بالثوابت التي أنشئت الحركة لأجلها، وذكرهم بقول الله سبحانه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، و(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].
وتُوفّي “النتشة” مساء الأربعاء 7 نوفمبر 2007م، الموافق 26 شوال 1428هـ، بعد مرض ألمّ به لمدة أربعة أشهر، وذلك في المستشفى الأهلي بمدينة الخليل عن عمر ناهز 83 عامًا.
المصادر والمراجع:
- عبد الرحمن فهمي: حافظ النتشة.. فقه العطاء، 8 نوفمبر 2019.
- أعلام آل النتشة: الدكتور حافظ عبد النبي النتشة، ديوان النتشة.
- الدكتور حافظ عبد النبي النتشة المراقب الأسبق لجماعة الإخوان في فلسطين: 11 فبراير 2014.
- الموت يغيب رئيس جمعية أصدقاء المريض في الخليل د. حافظ النتشة: 8 نوفمبر 2007.
1 comments
رحم الله قادة العمل الإسلامي نسأل الله أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته