تمرُّ السّنون تلو السنين، والأيام تلاحقها الأيام، وينجلي الليل، ويتنفس الصباح، وتُطوَى الذكريات، غير أن ذكرى الصالحين ومنهم جمال الدين عطية تظل نسيمًا للعليل، وبلسمًا للمريض، وعبرة للسائرين على طريق رب العالمين وموعظة للمتقين.
وقليل ما يجود الزمان برجال مثل هذا العالم المُتجدّد والفقيه القانوني، الذي تجتمع فيهم خصال أهلته لأن يكون ضمن المصلحين الذي عملوا على بناء مشروع إصلاحي، يبعث الأمة الإسلامية فكريًّا وعلميًّا، ويعالج قضايا الإنسانية ويحل مشكلاتها، فكريًا وسلوكيًا ونظريًا وتطبيقيًا، في ضوء معارف الوحي: قرآنًا وسنة.
نشأة جمال الدين عطية
وُلد جمال الدين عطية محمد في قرية كوم النور إحدى قرى مركز ميت غمر التابع لمحافظة الدقهلية بجمهورية مصر العربية في 22 ذو القعدة عام 1346هـ، الموافق 12 مايو 1928م، في بيئة إسلامية ريفية، ولأسرة من الطبقة المتوسطة في ذلك الوقت ولأبوين كريمين حرصا على تربية أولادهما تربية صالحة.
تنقّل جمال الدين مع والده في كثيرٍ من المحافظات لطبيعة عمل والده في وزارة الدفاع، فانتقل معه للقاهرة، ثم أسوان حيث التحق بمراحل التعليم المختلفة قبل أن يعود إلى القاهرة ويحصل على الثانوية العامة من مدرسة فؤاد الأول الثانوية (العباسية) عام 1944م، التي أهلته للالتحاق بكلية الحقوق جامعة فؤاد الأول- القاهرة حاليًّا-، والتي تخرج فيها عام 1367هـ/ 1948م.
ولم يقتصر على ذلك بل استكمل مسيرته العلمية فحصل على دبلوم الشريعة من كلية الحقوق عام 1369هـ/ 1950م وذلك أثناء اعتقاله في عهد إبراهيم عبد الهادي، ثم عمل في بداية حياته كاتبًا في نيابة الاستئناف بالقاهرة.
وسافر “عطية” عن طريق لبنان إلى الكويت للعمل في إدارة الشرطة كمحقق، بعدما تأزّمت العلاقات بين عبد الناصر والإخوان بداية عام 1954م، وقضى فيها فترة قبل أن ينتقل إلى سويسرا ليحصل على الدكتوراة من جامعة جنيف عام 1379هـ/ 1960م، ثم عاد إلى الكويت التي قضى فيها فترة قبل أن يعود إلى القاهرة.
وفي القاهرة، أشرف على المعهد العالمي للفكر الإسلامي لمدة 4 سنوات منذ 1408- 1412هـ/1988-1992م، وكان يقوم في المعهد بأنشطة ثقافية وعلمية مختلفة، ثم التحق بهيئة التدريس في كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وكان رئيس قسم القانون فيها؛ حيث أنشأوا تخصص القانون في حضن كلية الشريعة، وظل بجامعة قطر حتى عام 1419هـ/ 1998م، يقول عن هذه الفترة: “لما عملت في قطر شعرت أنني وجدت نفسي، وأنها هي الحياة التي يجب أن أبدأ بها، وكانت علاقتي طيبة بالزملاء والطلاب الذين لم تحدث بيني وبينهم أي مشكلة في هذه الجامعة”.
عاش جمال الدين عاملا لمشروعه في أسلمة المعرفة التي أتت ثمارها، فسطر بمداد من نور كثيرًا من معاني الفكر حتى توقف قلمه مع رحيله يوم 15 من ربيع الآخر 1438هـ، / 12 يناير 2017م عن عمر ناهز 88 عامًا.
تأثر جمال الدين عطية بالحركات الإسلامية
وتأثر الدكتور جمال الدين عطية أثناء دراسته في الحقوق بالشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمد أبو زهرة، وبعض القانونيين مثل حامد زكي، وسامي جنينة، كما تأثر بمنهج وفكر “الإخوان المسلمون”.
يقول: “تأثّرت بالشيخ حسن البنا بالدرجة الأولى؛ حيث كانت له تأثيراته وروحانياته وإشعاعاته فيمن حوله، وكنت دائما أحضر له درس الثلاثاء، ثم بالأستاذ محمد فريد عبد الخالق؛ الذي كان لنا معه درس خاص يوم الخميس، ثم بالدكتور عبد العزيز كامل”.
كما تأثر الدكتور جمال بزملاء وأقران من جيله، منهم: الشيخ عبد البديع صقر، وسعيد رمضان، ومصطفى مؤمن، وعبد الحليم أبو شقة، وعز الدين إبراهيم، ويوسف عبد المعطي، إذ يقول عن هذه الفترة إنها “غنية بالتأثيرات؛ حيث تشكلت فيها نفسي وعقليتي”.
وكان هو والشيخ أبو شقة يخططان معًا للاهتمام بالجانب العلمي على المستوى الشخصي وعلى مستوى الجماعة كذلك، وكان يُسميه بـ”المشروع”، وبلغ اهتمامه بهذا المشروع أن رفض تسلم عمله بالضرائب حتى لا ينشغل عنه.
وانضم الدكتور عطية لجماعة الإخوان المسلمين مبكرًا، حيث كان يقيم بالسكاكيني أحد أحياء القاهرة، ونشط في قسم الطلاب بالشعبة حتى اختير مسؤولًا عن الطلاب في الشعبة، وكان يحضر كتيبة الطلبة يوم الخميس في المركز العام.
واعتقل الدكتور جمال عطية ضمن اعتقالات الإخوان الأولى لمدة سنتين ونصف بين عامي 1368 – 1371هـ/1949-1952م في سجن مصر، حيث اتُّهم في قضية الأوكار، يقول أحمد عادل كمال- من أعلام الإخوان ومؤرخ إسلامي-: “سبق ذلك أن التحق الأخ جَمَال الدّين عَطِيّة بوظيفة كاتب تحقيق بنيابة الاستئناف وشهد بعض تحقيقات قضايا الإخوان قبل أن يقبض عليه هو نفسه متهمًا في قضية الأوكار.
خرج من السجن في حكومة الوفد قبل أن تنجح ثورة 1952م وتسقط جميع التُّهم السابقة عنه، وبعد عودة الجماعة واختيار مرشدٍ جديدٍ لها وهو المستشار حسن الهضيبي اختير “عطية” سكرتيرًا خاصًا لمكتب المرشد العام قبل أن يُختار سكرتيرًا خاص للمرشد نفسه، وكان يتجوّل معه في الأقاليم، ويحضر إلى بيته يوميًّا حيث كان يسكن بجواره في المنيل.
وحينما سُجّل في نقابة المحامين عمل فترة في مكتب عبد القادر عودة ومع الشهيد إبراهيم الطيب قبل أن يتركه ويسافر إلى الكويت”.
رؤية تربوية
ورغم الخلفية القانونية للدكتور جمال الدين عطية فقد كان له رؤية تربوية خاصة تتلخص في دعوته إلى ضرورة إيلاء قضية التربية أهميتها الكبيرة في إعادة بناء مجتمعاتنا المعاصرة، فدعا إلى تطوير مناهج التربية بما يناسب الظروف المتجددة، وكذلك إنشاء سلسلة من المدارس الإسلامية تسير وفق مناهج معدة على أعلى مستويات العلم والخبرة.
ورأى الدكتور جمال في حوار مع مجلة المسلم المعاصر، أن أهم التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي في مطلع القرن الحادي والعشرين، هي:
- أنه لا يوجد تراكم معرفي عند الأجيال الجديدة، التي لا تعرف جهود السابقين.
- غياب الدقة في وضع الإمكانات المتاحة في مكانها المناسب.
- عدم وجود مشروع ضخم على الصعيد العام للأمة يمثل قيم الفكر الإسلامي ومقوماته على المستوى النظري والتطبيقي.
لذا كان يقول: “ما أكثر المشروعات التي يمكن أن يترجم بها تعاليم الإسلام وقيمه وآدابه إلى مؤسسات واقعية منتجة عاملة تغير حال المسلمين وتجعلهم صورة حية للإسلام”.
ويقول: “ليس مقياس قرب أو بعد دولة ما عن الإسلام، هو في مدى وجود رجال الدين، أو ممثل الحركة الإسلامية في الحكم، ولا حتى في تسمية رئيس الدولة بالخليفة، وإنما المقياس هو في مدى وجود الإسلام في حياة الأفراد والمجتمعات وأجهزة الحكم”.
وهو الذي قال: “أول ما ينبغي عمله، حين نفكر في المستقبل، هو أن ننظر إلى الماضي، لنأخذ العبرة من أخطائنا فلا نكررها، ولنقيم وسائلنا فنصلح المعوج ونستبدل غير الصالح ونطور الصالح المفيد. والأمر الثاني، هو أن نراعي الواقعية في تفكيرنا وحكمنا على الأمور، والأمر الثالث، هو مراعاة المتغيرات عند وضع خطط المستقبل وتنفيذها”.
الاهتمام بالأسرة والمرأة
وحظيت المرأة والأسرة بقسط وافر من عناية الدكتور جمال الدين عطية في مقالاته وكتاباته المتعلقة بالمقاصد، فقد دعا في مجلة المسلم المعاصر إلى:
- أن تتربى أسرنا على إتاحة قدر من الشورى والاختلاف في الرأي والتعددية في إطارها، لأنه في داخل هذا الإطار يتربى الأطفال على معنى الحرية والتعددية الذي يمارسونه بعد ذلك خارج الأسرة.
- توجيه القائمين على الدعوة الإسلامية اهتمامٍ خاصٍ لتكوين المرأة المسلمة وإعدادها، إذ لم تعد قضية المرأة قضية فكرية، بقدر ما هي قضية ممارسة عملية للمبادئ الإسلامية المتعلقة بالمرأة.
- تحرير الرجال والنساء معًا من التقاليد التي تعوق ممارسة الإسلام بحرية في هذا المجال، من خلال إنشاء جمعيات نسائية ترعى المرأة المسلمة، وتبشر بين النساء بمفهوم الإسلام عن المرأة وتطالب باسم الإسلام بما حباها من حقوق.
- تطوير فقة المرأة بعد أن اختلف وضعها من حيث الاستطاعة والطاقة.
- أنه حان الوقت لقيادة حركة إسلامية مستقلة، تنهض بأعبائها رائدات متخصصات في الدراسات الإسلامية والعلوم الاجتماعية الحديثة، وتنتقل بقضية المرأة من مرحلة الدفاع السلبي عن الإسلام في هذا المجال إلى مرحلة الدعوة الإيجابية والبناء العملي للمجتمع الإسلامي.
إسهامات علمية ومناصب
للدكتور جمال عطية إسهامات علمية تمثلت في عدد من المؤلفات والبحوث المتنوعة والمهمة، تنبئ عن روح علمية تجديدية، ونظرة شاملة عَميقة، وتناول فكري رصين، من أبرزها:
- تراث الفقه الإسلامي ومنهج الإفادة منه على الصعيدين الإسلامي والعالمي.
- التنظير الفقهي.
- النظرية العامة للشريعة الإسلامية.
- نحو تفعيل مقاصد الشريعة.
- علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية.
- الاستفادة من مناهج العلوم الشرعية في العلوم الإنسانية.
- القيم الحضارية في الإسلام.
- دور الموسوعات في تقريب التراث الإسلامي من الدارسين.
- الإطار العام للنظام الاجتماعي في الإسلام، وغيرها.
وله بعض المؤلفات والبحوث التصنيفية التي تصنف العلوم وتساعد على استيعابها وتعمل على سهولة البحث فيها مثل:
- تصنيف العلوم الإسلامية.
- دليل الباحث في الشريعة الإسلامية باللغات الأجنبية.
- مصطلحات أصول الفقه.
- دليل لتكشيف القرآن الكريم وعمل مكانز لأغراض التكشيف (بالاشتراك).
- نحو مكنز إسلامي للمرأة.
- أصول العلوم الإنسانية من القرآن الكريم: كشاف موضوعي (بالاشتراك).
وله إلى جانب هذه الكتب مقالات عديدة ومتنوعة غطت مجالات علمية كثيرة منها: الفكر الإسلامي، والشريعة الإسلامية، والقانون الدولي العام، والسياسة الدولية، والقانون الدستوري، والأعمال المصرفية، والبنوك الإسلامية، والتأمين، وعلم المكتبات والمعلومات.
وتقلد الدكتور جمال عطية مناصب عديدة، منها:
- ممارسة المحاماة في مصر والكويت.
- أمين عام للموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف بالكويت
- رئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر.
- رئيس تنفيذي للمصرف الإسلامي الدولي في لوكسمبورج (بيت التمويل الإسلامي العالمي حاليًا)، ومستشار قانوني وشرعي للمعاملات المالية والمصرفية (مكتب خاص في لوكسمبورج).
- مستشار أكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي (واشنطن) ومدير مكتبه بالقاهرة.
- أستاذ زائر بعدد من الجامعات (الجامعة الليبية سنة 1973م، وكلية الشريعة جامعة قطر من 1986-1988).
- عضو في جمعيات ونقابات ومراكز عالمية مثل: الجمعيات العلمية والمهنية، ونقابة المحامين القاهرة، والجمعية الدولية للقانونيين الديمقراطيين بروكسل، ونقابة المحامين الدولية لندن، والجمعية الدولية للمحامين الشبان ببروكسل، ومركز السلام العالمي من خلال القانون بواشنطن، وعضوية مجلس أمناء معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية بفرانكفورت، وعضوية مجلس إدارة المجلس العالمي للبحوث الإسلامية بفادوتس- لختنشتاين، وعضوية المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
المشروع الفكري
عمل الدكتور جمال الدين عطية طيلة حياته حاملًا بين جوانحه قضايا فكرية شكلت مشروعه الفكري والعلمي والعملي، وكان من أبرز معالم مشروعه الاهتمام بالقضايا الآتية تنظيرًا وإسهامًا:
أولًا: مجلة المسلم المعاصر، التي انطلق أول إصدار لها سنة 1974 واستمرت إلى 2016 (العدد 160)، وقد وصفها الدكتور جمال في أول افتتاحية لأول عدد بأنها: “مجلة الاجتهاد”، وأنها: “تنطلق من ضرورة الاجتهاد، وتتخذه طريقًا فكريًّا، ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه، بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه”.
ثانيًا: تجديد الفقه، يعد الدكتور جمال من أبرز الدعاة لتجديد الفقه الإسلامي، ويمثل كتابه: “تجديد الفقه الإسلامي” بالاشتراك مع الدكتور وهبة الزحيلي أقصى ما وصل إليه فكره في هذا المجال.
ثالثًا: تجديد أصول الفقه، فلم يكن الدكتور عطية يدعو إلى تجديد الفقه فحسب، بل دعا كثيرًا إلى تجديد علم أصول الفقه وكانت مجلة المسلم المعاصر فضاءً نشر فيه كثيرًا من آرائه وآراء كثير من المفكرين المسلمين المعاصرين في هذا المجال.
رابعًا: القواعد الفقهية، حيث ظهر لديه هذا الاهتمام مبكرًا خاصة كتابه “التنظير الفقهي” حيث كان هذا الكتاب سببًا لاستدعائه لمشروع “معلمة القواعد الفقهية” التابع لمجمع الفقه الإسلامي في جدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي.
خامسًا: مقاصد الشريعة، حيث تجلى اهتمامه بهذا المجال تأليفًا ودعوة إلى تجديد المقاصد وتفعيلها ويمثل كتابه “نحو تفعيل مقاصد الشريعة” خير مثال في هذا المجال.
سادسًا: البنوك الإسلامية، وبرز اهتمامه بهذا المجال مبكرًا قبل ظهور البنوك الإسلامية، وكان إسهامه بالدعوة والمشاركة في لجان تأسيسية وبالتأليف وتقديم مشاريع وتصورات، حيث شارك في اللجنة التحضيرية لأول بنك إسلامي عام 1394هـ/1974م، وهو بيت التمويل الكويتي.
المصادر والمراجع:
- شهادات ورؤى جمال عطية: يوتيوب، الجزء الأول.
- وصفي عاشور أبو زيد: جمال الدين عطية.. رحلة العطاء والتجديد، إسلام أون لاين، نقلا عن موقع الوسطية 2008م.
- وصفي عاشور أبو زيد: المرجع السابق.
- شهادات ورؤى جمال عطية: مرجع سابق.
- أحمد عادل كمال: النقط فوق الحروف، طـ1، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1987م.
- محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، دار الدعوة للنشر والتوزيع، الإسكندرية، صـ 270.
- شهادات ورؤى جمال عطية: مرجع سابق.
- أعلام: ، المحجة، العدد 471، 18 يناير 2017م.
- حصريًا على إخوان ويكي (من الرعيل الأول للإخوان المسلمين).
- بعد مسيرة العطاء والتجديد الدكتور جمال الدين عطية في ذمّة الله: 12 يناير 2017م، بصائر.
- جمال الدين عطية: “المسلم المعاصر في عشر سنوات”، مجلة المسلم المعاصر، العدد (40)، السنة العاشرة، أكتوبر 1984، ص7.
- حسان عبد الله: جمال الدين عطية (1928-2017) .. ماذا قدم لأمته؟، إسلام أون لاين، 29 يناير 2018م.