تحرص الشريعة الإسلامية على سبر أغوار النفس البشرية وتربيتها، ونفي ما يحول بينها وبين صفائها وإشراقِها، بغرس الأخلاق الحميدة، ومنها كظم الغيظ والغضب الذي له ثمرات عديدة في الدنيا والآخرة، سيما أنّ معظم الناس يُواجهون ألوانًا من الاستفزاز كل يوم أثناء التعامل مع بعضهم في أماكن العمل والأسواق وكل مكان على البسيطة، لذا فإنّ المسلم لا بد من أن يدرب نفسه ويربيها على الانضباط، وعدم مجاراة الآخر في ميدانه.
مفهوم كظم الغيظ
ويُمكن توضيح مفهوم كظم الغيظ من خلال معرفة معنى كل كلمة لغة واصطلاحًا، فالكظم لغةً: الإمساك، وهي من حَبْسُ الشَّيء عن امتلائه، وقال المناوي إنه الإمْسَاك على ما في النَّفس من صَفْحٍ أو غَيْظٍ، أما الغَيْظ في اللغة، فهو الغَضَب، وقيل إنه أشدُّ من الغَضَب، أو سَوْرَته وأوَّله، وقال الأصفهاني: إنه أشدُّ الغَضَب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فَوَرَان دم قلبه.
وفي الاصطلاح، فإن المقصود من كظم الغيظ أو الغَضب، أي تجرُّعه، واحتمال سببه، والصَّبر عليه، وعدم إظهاره بقولٍ أو فعلٍ، مع القدرة على الإيقاع بالعدو، وقال ابن عطيَّة إن المقصود به في الاصطلاح ردُّه في الجَوْف إذا كاد أن يخرج مِن كَثْرَته، فضبطه ومَنَعَه.
كظم الغيظ في الإسلام
ولمّا كانت النّفس البشريّة أشبهَ بقلعةٍ حصينةٍ ودُرّةٍ مصونةٍ، وبحرٍ زاخرٍ وموجٍ متلاطِمٍ، ووادٍ سحيقٍ وفجٍّ عميق، فقد جاءت نصوصُ القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لتحافظ على هذه النفس عن طرق كظم الغيظ والغضب والتعامل بالمودة والكلمة الطيبة مع الناس جميعًا، وبخاصة أن الشيطان يحرص دائمًا عند المنازعات على أن يثير غيظ بني آدم وغضبه؛ ويدفعه إلى شرورٍ غير متوقعة.
ولقد وصف الله- تبارك وتعالى- المتقين الذين يستحقون الجنة في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133-134]؛ فجعل من صفاتهم أنهم يكظمون الغَيظ، ويعفون عمّن ظلمهم، وهو ما أشار إليه العلامة الشنقيطي، حينما قال: “دلت هذه الآية على أن كَظْمَ الغَيْط، والعفو عن الناس؛ من صفات أهل الجنة، وكفى بذلك حثًّا على ذلك”.
وجاءت آيات أخرى تبين أهمية الامتناع عن الغضب، وضرورة العفو عن الناس، يقول الله- عز وجل-: وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام كقوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]، وقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43]، وقال- جل وعلا-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وكقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63].
وتتبعت السنة النبويّة مسالك العاطفة والانفعال وغاصت في مساربِ النّفسِ البشريّة، مقتفيةً طريقةَ القرآن الكريم في التربية العامّة للاعتقاد والانفعال، والأقوال والأفعال، والسِّر والإعلان، فعن معاذ بن أنس الجهنيِّ- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “مَنْ كَظَمَ غَيْظا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ” (رواه أبو داود والترمذي).
وروى أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ” (البخاري).
بل ضرب النبي- صلى الله عليه وسل- نماذج عملية عديدة لفضيلة السيطرة على النفس والبعد عن الغضب، فعن عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-، قال: “كنت أمشي مع النَّبي- صلى الله عليه وسلم- وعليه بُردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجذبه جذبةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النَّبي- صلى الله عليه وسلم- قد أثَّرت به حاشية الرِّداء من شدَّة جذبته، ثمَّ قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه، فضحك، ثمَّ أمر له بعطاء” (البخاري ومسلم).
هذه الأخلاق هي التي تربى عليها الصحابة والتابعين ممن التزموا المنهج الإسلامي، فها هو عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول: “من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون”.
وعند عبد الله بن عباس أن رجلًا قال لعمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: يا ابْنَ الخَطَّابِ! وَاللَّهِ ما تُعْطِينَا الجَزْلَ ولَا تَحْكُمُ بيْنَنَا بالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ به، فَقالَ له الحُرُّ بن قيس: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ لِنَبِيِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإنَّ هذا مِنَ الجَاهِلِينَ، واللَّهِ ما جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عليه، وكانَ وقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ”.
ولمّا دخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمرَّ برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا. فهمَّ به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا.
ثمرات السيطرة على الغضب
لا شك أن المسلمين اليوم في حاجة ماسة إلى التّدرب على كظم الغيظ والسيطرة على الغضب، نظرًا لِمَا لهذا الخُلق من ثمرات إيمانية وتربوية وأخلاقية ونفسية واجتماعية، وحل جذري للتنازع والتشرذم الذي جعل الدُّعاة والمربون وطُلابَ العلم مُشفِقين على الأمة من الفشل وذهاب الرِّيح، ومن أبرز ثمرات هذا الخلق العظيم:
- التربية على الإخلاص: فقد عبَّر النبيّ- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك في حديث ابنِ عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله: “ما من جُرعةٍ أعظمُ عند الله من جُرعةِ غيظٍ؛ كظمها عبدٌ ابتغاءَ وجهِ الله” (أحمد والطبراني).
- تقوية الأخوّةِ الصادقة: وقد بيَّن الحافظ ابن كثير هذا الأمر في تفسير قول الله- عز وجل-: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة:54)، فقال: هذه صفاتُ المؤمنين الكُمَّل: أن يكون أحدُهم متواضِعًا لأخيه ووليِّهِ، متعزِّزًا على خصمِهِ وعدوِّهِ.
- الرقي بالأخلاق: بالعفو عن الناس وملك النفس عند الغضب، وتدريب النفس على الصبر، وهو ما يؤدي إلى الوصول لقمة السعادة والراحة النفسية لأن الإنسان يطبق كلام الله في العفو عن الناس.
- إصلاح المجتمع: لأن السيطرة على الغضب سبيلٌ إلى الإصلاح بين الناس، وتربيةٌ للتواضع، ولأنّ الرجل الغضوب أقربُ إلى العقوقِ منه إلى رعايةِ الحقوقِ، وأبعدهم عن النجاح في ربطِ العلاقات.
- التغلب على الشيطان: وتكون النتيجة الفوز بالجنَّة بإذن الله تعالى.
- الشعور بعلوّ الهمة: حيث إنّ الإنسان يسمو بنفسه ويترفع عن السّباب، فيُقابل الشتيمة بابتسامة، فتعتاد نفسه على كيفيّة السيطرة على الغضب، فلا يحمل في نفسه الحقد على مَن أساء إليه.
- تحقيق تقوى الله عزّ وجلّ: الذي قال في وصف المتقين: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
إنّ كظم الغيظ له ثمرات عديدة في الدنيا والآخرة، لذا يجب على كل مسلم أن يستعين بما ورد في القرآن والسنة من نماذج عملية للتدرب على السيطرة على الغضب، وأن يدعو- الله عز وجل-، ويحتسب الأجر والثواب عنده تعالى، ويستعين بالصبر والصلاة، ويتّبع اللين والرفق بدلًا من الجفاء والعداوة مع الناس، وأن يهتم بتربية نفسه وأهله على الرضا والصبر، وحُسن الظن بالآخرين وتجنّب السّرعة في الحكم عليهم، وأن يلتزم سعة الصدر، والسمو بالنفس وعدم جدال الجاهلين.
مصادر ومراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللُّغة، 5/184.
- ابن منظور: لسان العرب: 12/519.
- ابن الأثير: النِّهاية في غريب الحديث والأثر، 3/402.
- الشنقيطي: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 27/235.
- الجصاص: أحكام القرآن، 2/48.
- ابن سعد: الطبقات الكبرى، 5/397.