الصيام مدرسة تربوية كبرى، يتربى فيها المسلم على الإيمان الحقيقي، الذي تُزينه التقوى والمراقبة والمراجعة والمحاسبة، ويتربى فيها على الحمد والشكر والتحمل والصبر، فالصوم من أهم العوامل والمؤثرات التي تربط الإنسان بخالقه وتوقظه من غفلته.
والصوم عِبادةٌ من أَجَلّ العِبادات، وقربةٌ من أشرف القُربات، وطاعةٌ مباركة لها آثارُها العظيمة الكثيرة، العاجلة والآجلة، ومنها تزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وحفظ الجوارح والحواس من الفِتَن والشُّرور، وتهذيب الأخلاق، وفيها من الإعانة على تحصيل الأجور العظيمة، وتكفير السيئات المهلكة، والفوز بأعالي الدرجات، وهي تربية على الجود، وتجديد للنية والاحتساب، وتربية على قيام الليل، والإكثار من الأعمال الصالحة.
ثمرات الصيام
إن الصائم الذي يستطيع أن يمتنع عن الطعام والشراب، ويكبح جماح شهوته، فإنّ صيامه هذا سيترتب عليه أجر كبير، وآثار عظيمة تسهم في إصلاح جانبه الروحي، وتقويم صحته وتقويتها، ومن ثمرات الصيام التربوية على الفرد ما يلي:
- تربية الفرد على الجود: سواء بالمال والحث على الصدقة، وتفطير الصائمين، والإنفاق، وتعهد الأرامل والمحتاجين، أو بالوقت من خلال نفع المسلمين، والمشي في حاجاتهم، والقيام على شؤونهم، أو بالأعمال الصالحة وتنوع العبادة ما بين فرض ونفل وصلاة، وصدقة وقرآن وغيرها.
- تربية الفرد على عبادة قيام الليل: وهي تجمع عدة فضائل: قراءة القرآن، وكونها في الثلث الأخير من الليل، ونور في الوجه، وأقرب لاستجابة الدعاء.
- تجديد النية والاحتساب: فيربي الصيام المسلم على تجديد النية والاحتساب، ويُؤخذ هذا من قوله- صلى الله عليه وسلم- : “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا…” فجاء رمضان يؤكد قضية النية وتجديدها في الصيام وفي السحور وفي الإفطار.
- تدارس القرآن وتدبره: فالصيام يربي المسلم على تدارس القرآن وتدبر آياته وقصصه ووعده ووعيده، فتدمع العين تارة ويلين القلب تارة أخرى، ويرى الأمم الماضية حاضرة عنده، ويعيش مع الأنبياء صبرهم ونصحهم وابتلائهم، ويستنبط الأحكام ويستفيد الفوائد.
- تربية الفرد على الأعمال الصالحة: فالصيام يربي المسلم على الإكثار من الأعمال الصالحة، فما من عمل إلا وهو مضاعف في رمضان لأضعاف كثيرة، فإذا تذكر ذلك المسلم حرص على الإكثار من هذه الأعمال والتزود منها.
- تهذيب النفس والإخلاص: فمن الآثار التربوية للصوم أن الله سبحانه علم أن الصوم مشقة للعبد وجهاد لنفسه، فرَغَّبَه فيه وحَبَّبَه إليه عندما غَيَّبَ عنه جزاءه وجعله سرًّا بينه وبين عبده؛ حتى يُخلص المؤمن في صومه؛ ليحظى بطيب العيش والنعيم المقيم في الآخرة. وقد بين ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به، والصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ” (البخاري).
- التربية على التكيّف مع التغيير: فإذا جاء رمضان أحدث تغييرًا حتى في العالم الغيبي فمثلًا: الجنة تتغير فتفتح أبوابها، والنار تتغير فتغلق أبوابها، ومردة الشياطين تُصفد وتُسلسل، ومن هنا يجب على المسلم أن يتغير إيمانًا وسلوكًا وعبادةً وقلبًا إلى الأفضل.
- التحكم في العواطف: ويكون ذلك وفق ما يُريده الشرع لا كما تريد النفس؛ فالله منع الصائم من الأكل والشرب والشهوة لا تعذيبًا له، بل ليتعلم كيف يترك الشيء لله رغم منازعة الهوى له.
- التربية على حفظ اللسان: ويكون ذلك عن فاحش الكلام، ومن حفظ لسانه سلمت له أعماله.
- التربية على الصبر بنوعيه: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية.
- يربي في المسلم مراقبة الذات: بأن يكون عليه رقيب من نفسه؛ فينشأ بعد ذلك بينه وبين حدود الله وقاية، وهذا يجعله يترقى في منازل الإيمان، إلى أن يصل للإحسان بأن يعبد الله كأنه يراه.
- تربية الجوارح على الصيام عن المنكرات: فيتدرّب المسلم شهرًا كاملًا على ترك المنكرات، وأنها تناقض مقصود الصيام، فيعود ذلك عليه بالنفع؛ لأن الغالب من المعاصي أنها تتحول إلى عادات مع الاستمرار.
- تربية النفس على الانتصار: فمن الآثار التربوية للصوم أنه يربي في نفس المسلم الانتصار بمعناه العظيم، فيتعلم الانتصار على شهوة الأكل، والبطن والفرج ووسائلها من نظر وتفكير، وهذا أول خطوة في طريق الانتصار والمجاهدة.
- تربية المسلم على التعاون ونفع الغير: ففي الصيام تكثر مشاريع الإفطار والصدقات والهدايا والهبات، ويتسابق الناس في البذل والعطاء، وهذا درس عملي ميداني للنفع، مما هو مقصود للشرع.
- إصلاح الروح: ويتمثل ذلك من خلال السعادة التي يجدها المؤمن الصائم، لأن الصيام بآدابه وأركانه يؤدِّي إلى التقوى؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، والتقوى هي عمادُ إصلاح النفس، فإذا تحقَّقت فإن الله تعالى يقول: ﴿فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف: من الآية 35].
- إصلاح العقل: فالصيام يجعل عقل الإنسان أكثر نشاطًا وإدراكًا؛ لأن من أكل كثيرًا نام كثيرًا، وحرِم من خير كثير، فمن أراد أن يحصِّل من أسباب العلم ما يوسِّع به مداركه فلا يشبع؛ لأن من ملأ بطنه بالطعام سرعان ما ترتخي أعضاؤه، ويميل إلى الكسل.
- إصلاح الجسد: ويظهر أثر الصيام في إصلاح الجسد، لأن الإسلام يحرص على بناء جسد المسلم بناء قويًّا صلبًا متماسكًا ينهض بالتكاليف، ويخطو إلى الإنتاج، ويصلح للجهاد في سبيل الله.
- إصلاح النفس: فالصوم يُنمي الثبات النفسي للإنسان ويدربه على الصبر الذي هو قوة معنوية من أقوى الأسلحة التي تتسامح بها الأمم، كما أن الصوم يعد عاملًا مهدئًا فعالًا للإنسان وهو بمجمل تأثيراته ينفع في الوقاية من علاج حالات التوتر النفسي والجسدي وحالات الأرق واضطرابات النوم المختلفة وحالات التعب والإرهاق وحالات القلق والاكتئاب، ويساعد على التحكم في السلوك وتقوية الإرادة والعزيمة.
ثمرات الصيام على المجتمع
وتتعدى ثمرات الصيام من الفرد إلى المجتمع الذي يستقيم على شريعة الصوم، فيكون مجتمعًا قويًّا في عقيدته، قويًّا في استجابته لأمر ربه، قويًّا بتماسكه وتضامنه وتراحمه، قويًّا بأخلاقه الكريمة وشمائله النبيلة، ومن أهم هذه الثمرات:
- انخفاض نسبة الجريمة، فالصيام يجمل أخلاقنا وسلوكياتنا ويربي شخصياتنا، فيقل العنف الجسدي واللفظي وتزيد قدرتنا على ضبط النفس.
- ترك العادات السيئة، والابتعاد عما يُعكّر الصيام من محرمات سلوكية مثل: السباب، والمشاحنات، وقول الزور والعمل به، فيحافظ على السلوك الجيد ما ينعكس إيجابًا على المجتمع كله.
- تحفيز الترابط الأسري: لأن الصوم يجمع الأسرة يوميًّا على مائدة الإفطار، ليتناولوا الطعام جميعًا في الوقت نفسه على عكس المعتاد في الأيام العادية.
- تنتشر في رمضان صلة الرحم والعزائم التي تُوطّد صلات القربى والعلاقات العائلية، ما يُصفّي القلوب ويحل الخصامات.
- رمضان يُوحّد المجتمع، فصلاة الجماعة في رمضان وقيام الليل وقراءة القرآن وصلة الرحم وأعمال الخير وأجواء المحبة والتسامح التي تنتشر في شهر الصوم تخلق طاقة روحانية عالية تنعكس إيجابيًّا على المجتمع.
- أعمال الخير والصدقات في رمضان ترفع المستوى المعيشي للفقراء والمحتاجين وترسم البسمة على وجوه الأيتام والأطفال والمسنين.
- صلاة التراويح في رمضان تكون عادة صلاة جماعية، تُعزّز الألفة بين الناس والمساواة والمحبة وتقرب بينهم، وتمحو من نفوسهم الحقد والكراهية، وتفتح الأبواب لإقامة علاقات تعارف جديدة.
- تربية المجتمع على علو الهمة والتنافس في الخيرات: ويظهر هذا جليًا في بداية رمضان، إذ نجد كثير من الناس لديها الاستعداد للجد في العبادة، فيخطط بعضهم بأن يختم القرآن أكثر من مرة، والآخر بأن يقوم الليل، وغيرهما.
- تعظيم أوامر الله: وهي من أهم الآثار التربوية للصوم، فالمجتمع المسلم يؤدي هذه العبادة الشريفة؛ تعظيمًا لأمر الله القائم على المحبة.
- تعليم الناس التوازن في الحياة: لأنه من التناقض أن يصوم الناس عن المفطرات الحسية ويقعوا في المفطرات المعنوية، ومن التناقض طاعة الله في جانب وعصيانه في جانب آخر؛ فرمضان مدرسة للتوازن في حياة المسلمين.
- توحيد المسلمين على الكلمة والهم والهدف والغاية: فهم جميعًا قد صاموا حينما رأوا الهلال، وأفطروا لمّا غربت الشمس، رغم المسافات بينهم.
- تربية الأمة على عبادة الدعاء: فالصيام مدرسة لتربية الأمة على عبادة الدعاء؛ سواء عند لحظات الإفطار أو في صلاة الوتر، وكذلك عند ختم القرآن؛ فهذا له أثر في بث رسالة الدعاء في الأمة، وتعلم فنونه وأوقاته وآدابه.
ومن هنا، فإنّ ثمرات الصيام عديدة على الفرد والمجتمع، فشجرة الصيام طيبة، ثابت أصلها في الأرض، ضارب فرعها في السماء، منافعها عظيمة، وثمارها كثيرة، وتبدو عظمة الإسلام في الأثر الاجتماعي للعبادات في دعم الروابط بين الناس وبناء العلاقات بينهم على أسس راسخة من العدل والإخاء والأهداف المشتركة، والإحسان، والإيثار، والبر، والرحمة، والتعاون على طلب الخير، ودفع الضرر.
المصادر والمراجع:
- محمود فتوح: الآثار التربوية للصوم على المسلم.
- جيهان عادل: فوائد الصيام التربوية.
- نهضة الشريفي: الآثار التربوية للصيام.
- د. محمد كاظم الفتلاوي: الآثار التربوية لفريضة الصوم.
- د. محمد فتوح محمد سعدات: دور الصيام في تكوين شخصية الإنسان المسلم، ص 34، 35.
- عماد عبد الحميد: آثار الصوم روحية واجتماعية وصحية.
- موقع إسلام أون لاين: لماذا الصيام؟.