لا شك أنّ التربية الأخلاقية من أهم جوانب الدين الإسلامي؛ فبها يكتمل دين المسلم وتصلح دنياه وآخرته بمشيئة الله، وهي أساس سلامة المجتمع وقوة بنيانه، وسمو مكانته، وعزة أبنائه، وعلى النقيض فإنّ شيوع الانحلال والانحراف والفساد في المجتمعات مرتبط بتركها للأخلاق الحميدة والابتعاد عنها.
ويُبيّن لنا التاريخ أنّ كل أمة نهضت، وكل حضارة ازدهرت وتطورت کان بفضل أبنائها الذين ملكوا نفوسًا قوية وعزائم صادقة وهِمَمًا عالية، وأخلاقًا حميدة، وسيرة فاضلة، فهؤلاء ابتعدت نفوسهم عن سفاسف الأمور ولم يقعوا فريسة للأغلال والفساد أو أسرى للملذات والشهوات أو مطية للجهل والتخلف، بل انطلقوا بقيمهم ومبادئهم حتى بنوا الحضارات.
التربية الأخلاقية في الإسلام
حدّد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الغاية الأولى من بعثته المباركة بقوله: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق”، حديث صحيح، أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد عن أبي هريرة رضي الله عنه، ويتحدث القرآن الكريم واصفًا خلقه فيقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ويُروى أنّ سعد بن هشام سأل عائشة – رضي الله عنها- عن خُلق رسول الله فقالت: “كان خلقه القرآن”، حديث صحيح أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
وقد تجسدت التربية الأخلاقية فيما قاله أنس بن مالك – رضي الله عنه-: كان رسول الله أحسن الناس خلقا. وقال: ما مسست دیباجا ولا حريرا ألين من کف رسول الله، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله ولقد خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟” (متفق عليه).
ومن حكمة الله في تکالیف الإسلام تعويد المسلم أن يحيا بأخلاق فاضلة وأن يظل مستمسكا بها مهما تغيّرت الظروف، ملتمسًا في المداومة عليها سلامة دينه ودنياه، والقرآن والسنة يؤكدان على ذلك، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، فالصلاة إلى جانب كونها عماد الدين وشعيرة من أهم شعائر الإسلام يخبرنا القرآن الكريم أنّ من حكمة الله فيها – أيضا- أنها تطهير للنفس من سوء القول وسوء العمل.
والزكاة المفروضة ليست ضريبة تُؤخذ من الأغنياء، بل هي غرس لمشاعر الحب والحنان والرأفة للغير وتوطيد العلاقات للتعارف والألفة بين شتى الطبقات، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103].
من أجل ذلك وَسّع النبي – صلى الله عليه وسلم- في دلالة كلمة الصدقة التي ينبغي أن يبذلها المسلم فقال: “تبسُّمُك في وجهِ أخيك صدقةٌ لك وأمرُك بالمعروفِ ونهيُك عن المنكَرِ صدقةٌ وإرشادُك الرَّجلَ في أرضِ الضَّلالةِ لك صدقةٌ وبصرُك للرَّجلِ الرَّديءِ البصرِ لك صدقةٌ وإماطتُك الحَجَرَ والشَّوكةَ والعَظْمَ عن الطَّريقِ لك صدقةٌ وإفراغُك مِن دَلوِك في دَلْوِ أخيك لك صدقةٌ” أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر – رضي الله عنه- وكذلك الصيام والحج وسائر العبادات.
التربية الأخلاقية في حياة النبي
ووضع القرآن الكريم والسنة المطهرة المنهج المستقيم، وأخذا يرسمان الطريق القويم للمسلم؛ ماله من حقوق وما عليه من واجبات وما يجب أن يتحلى به أو ينتهي عنه من خصال وصفات، وتحري الصحابة الكرام كل ما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم سواء أكان واجبًا أو مباحًا أو مندوبا، مصداقا لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21].
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قدوة لأصحابه في التربية الأخلاقية والبعد عن كل سيئ، فهو الملقب بالصادق الأمين حتى قبل بعثته، وكان – صلى الله عليه وسلم- دائم البشر، سهل الطبع، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب، ولا عتاب، ولا مداح، لم يسأله أحد ورده خائبًا.
بل كان – صلى الله عليه وسلم- يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين ويجالس الفقراء ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم حيثما انتهى به المجلس جلس، وكان ضحكه تبسما وكلامه فصلا، لا فضول فيه ولا تقصير، وكان يحب الرائحة الطيبة وقد سيقت إليه الدنيا بحذافيرها وترادفت عليه فتوحها، فأعرض عن زهرتها ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله.
والأمثلة في حياة الرسول الكريم كثيرة، والمعاملة الحسنة لم تكن مقتصرة على المسلمين مع بعضهم فقط، لكن شملت – كذلك- أهل الملل الأخرى، فقد وَرَدَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو – رضِي اللهُ عنهما- ذُبِحت له شاةٌ في أهلِه فلمَّا جاء قال: “أهدَيْتم لجارِنا اليهوديَّ؟ أهديتم لجارِنا اليهوديَّ؟ وكان رسولَ اللهِ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقولُ: ما زال جبريلُ يُوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنَّه سيُورِّثُه” (الترمذي).
وأمرنا الإسلام بصلة الرحم حتى وإن كان ذوى الرّحم على غير الإسلام، فقال الله تعالى: {… وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15].
ثمار الأخلاق وفوائدها
إن التربية الأخلاقية سياج يحمي منجزات المجتمع الإسلامي من الانهيار والتسيب والانحلال، فهي ضابط لكل جهد مبذول، تضبط إيقاعه وتحوله إلى فعالية حقيقية، يلحظ أثرها في حياة الناس، ومن ثمار التمسك بأمهات الأخلاق والقيم الفاضلة ما يلي:
1 – الأخلاق لها فائدة عظيمة في ترشيد السلوك الإنساني وتوجيهه نحو القيم الأخلاقية والمثل العليا على أساس من الفهم والوعي والإدراك.
2- تقوية إرادة الإنسان على الخير وسلوك الطريق القويم، وتنشيط العزيمة على المضي في سبيل الفضيلة، والاهتداء بها.
3 – الأخلاق تكسب صاحبها الدقة في تقدير الأعمال الأخلاقية ونقدها من غير أن يخضع في حكمه للعرف أو العادة أو يتأثر بحكم الزمان والمكان.
4 – إن دراسة الأخلاق لا تجعل جميع الناس فضلاء فهذا أمر يعتمد بدرجة كبيرة على الاستعداد الشخصي لكل فرد ولكنها تشد عزم الإنسان على: الثبات في الخير، وتجعل القلب الشريف بالفطرة صديقا للفضيلة وفيا بعهدها.
5 – الأخلاق الإسلامية ارتقاء بالإنسان إلى كمالاته كلها، لأنها أوجبت عليه حقوقًا نحو الله، ونحو الآخرين.
6- توجيه طاقات الإنسان كلها إلى طريقها الصحيح؛ طاقاته: العلمية والعقلية، والروحية، والنفسية والجسدية، فلا تبقى طاقة معطلة.
7- بالأخلاق الإسلامية وحدها يحقق الإنسان حكمة وجوده، ويعثر بها على محله الصحيح في الوجود وهو أنه عبد الله وخليفته في أرضه الذي سخر له كل ما في الكون.
8 – دراسة الأخلاق تعرف الإنسان الخير والشر وتعرفه كذلك بميدان كل منهما وحدوده حسب قوة وإرادة وعزيمة المسلم.
9- یکفي المسلم شرفا ودافعا للتمسك بتلك الأخلاق أنها ربانية شاملة جاءت من القرآن والسنة مصدري التشريع الإسلامي.
10 – غاية الأخلاق كما قال الإمام الغزالي أن ينقطع عن النفس حب الدنيا ويرسخ فيها حب الله تعالى فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله – عز وجل- فيكون عمله موزونًا بمقتضى الشرع والعقل.
الخاتمة
يعتبر الإسلام أن التربية الأخلاقية هي الدعامة الأولى لصلاح الإنسان في هذه الحياة، لذلك يقول الله تعالى: {… إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ …} [الرعد:11]، فالنفس المختلة تثير الفوضى في أحكم النظم، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة، والنفس الكريمة تحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير.
ويعتمد الإسلام في هذا الإصلاح العام على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء، فهو يكرس جهودا ضخمة للتغلغل في أعماقها وغرس تعاليمه في جوهرها حتى تصبح جزءا منها.
المصادر والمراجع:
- إيمان عبد المؤمن: الأخلاق في الإسلام.. النظرية والتطبيق، مكتبة الرشد، الرياض 1424 هـ.
- ابن تيمية: مکارم الأخلاق، دار الخير، بيروت 1974 م.
- محمد الغزالي: خلق المسلم، دار الريان للتراث، القاهرة 1987 م.
- محمد ربيع محمد جوهري: أخلاقنا، دار الفجر الإسلامية، المدينة المنورة 2006 م.