من منّا لا يعرف ذلك الشخص الذي يشتري ما لا يُريده وبثمنٍ مرتفع، فقط استجابة لطلب البائع، يتحمل أعباءً فوق طاقته ليست واجبة عليه ولا يُريدها إذعانا لرغبات الآخرين، لا يظهر وجهة نظره ولا يبدأ المحادثات ولا يشكو إذا تعرض لاعتداءٍ، لا يظهر مشاعره ولا يُعبّر عنها، ويُقلل دائما من أهميتها، بل نادرًا ما يقول: (لا)، صورة توكيد الذات لديه ضعيفة، ويقبل انتهاك حقوقه من الآخرين.
هذا الشخص غالبا ما يكون محبوبا ممّن حوله، فهو مطيع وهادئ ولا يُسبب المشكلات، لكنه في الحقيقة يُعاني من مشكلة تربوية هي ضعف توكيد ذاته، ودائما سلوكه تبعا للوسط الذي يعيش فيه، ما يجعله عرضة للتأثر بأصدقاء السوء وتقليدهم في سلوكياتهم السلبية.
وتشير الدراسات العلمية إلى أن (55%) من الطلاب الذين جرّبوا الأدوية المؤثرة في الأعصاب، و(80%) ممّن جرّبوا تعاطي الكحوليات، و(90%) ممّن جربوا تعاطى المخدرات، فعلوا ذلك تحت تأثير الآخرين سواء كانوا أصدقاء، أو أقرباء، أو زملاء.
تعريف توكيد الذات
توكيد الذات أحد المهارات الاجتماعية الأساسية التي تُحقق للشخص قدرًا كبيرًا من التوافق الشخصي والاجتماعي وحسن تَفَهُّم الآخرين وكفاءة تفهمهم له.
ويتّفق باحثون على أن هذا المفهوم عبارة عن: “مجموعة من المهارات السلوكية اللفظية، وغير اللفظية (التقاء العيون – نبرة الصوت) التي تُمكّن الفرد من التعبير عن مشاعره الودية نحو الآخرين أو إظهار غضبه واحتجاجه على ما لا يرضاه من سلوكهم، والدفاع عن حقوقه والتصدي لمَن يحاول انتهاكها، ومقاومة الضغوط التي يمارسها الآخرون لإجباره على إتيان ما يعتقد أنه غير صائب أو إثنائه عن فعل ما يرغبه ويعتقد صوابه، فضلا عن المبادرة ببدء التفاعلات الاجتماعية، مثل المقابلات أو المحادثات والاستمرار فيها وإنهائها شريطة أن يجري ذلك بصورة ملائمة لا تنطوى على الاستهانة بالآخرين وانتهاك حقوقهم”.
ويميل معظم علماء النفس إلى أن أنواع الخبرات المبكرة التي يتعرض لها الفرد تقود إما إلى توكيد الذات أو عدم تأكيدها، وبناءً عليه فإن هذه المهارة لا تظهر فجأة في مرحلة المراهقة أو في سن الرشد، بل هي نمط سلوكي متعلم، يتكون من خلال تعلُّم الفرد كيفية التعامل مع المواقف الاجتماعية المختلفة.
وتَوكِيد الذّات حقٌ من حقوق الإنسان تترتب عليه مجموعة من الالتزامات، والمؤكد لذاته شخص يدافع عن حقه ويحترم حقوق الآخرين في الوقت نفسه، ويُحقق أهدافه دون الإضرار بهم، ويحظى التوكيد بقدر من التفضيل الاجتماعي الذي قد يكون مرتفعا أو منخفضا حسب ثقافة المجتمع.
ويمكن التعبير عن السلوك التوكيدي بشكل أكثر وضوحًا من خلال الممارسات الآتية:
1- الدفاع عن الحقوق الشخصية المشروعة وعدم السماح بتجاوزها أيا كان هذا الذي يحاول المساس بحقوقه.
2- التصرف وفق مقتضيات الموقف ومتطلبات التفاعل بشكل يحقق للفرد الرضا الداخلي ويعزز ثقته بنفسه، دون تجاوز حقوق الآخرين.
3- التعبير عن الانفعالات والمشاعر بحرية ودون ضغط.
4- التصرف من منطلقات نقاط القوة في الشخصية وليس نقاط الضعف، بحيث لا يكون الفرد ضحية لأخطاء الآخرين أو الظروف.
5- التحلّي بالشجاعة وعدم الخوف من أن يُعبّر الفرد عن شعوره الحقيقي، والقدرة على رفض الطلبات غير المناسبة أو الضارة بالإنسان.
6- التحرر من مشاعر الذنب أو تأنيب النفس عند رفضنا لهذه المواقف غير المناسبة.
7- القدرة على اتخاذ قرارات مهمة وحاسمة وبسرعة مناسبة وبكفاءة عالية.
8- القدرة على تكوين علاقات دافئة والتعبير عن المشاعر الإيجابية بما فيها (المحبة، والود، والمدح، والإعجاب) خلال تعاملنا مع الآخرين وفي الأوقات المناسبة.
9- القدرة على الإيجابية والتعاون وتقديم العون.
10- القدرة على مقاومة الضغوط الاجتماعية وما تفرضه علينا من تصرفات لا تتلاءم مع قِيمنا.
11- المهارة في معالجة الصراعات الاجتماعية وما يتطلب ذلك من تقديم شكوى، أو الاستماع لشكوى، أو التفاوض، أو الإقناع، والاستجابة للإقناع والوصول إلى حل وسط.
أسباب ضعف توكيد الذات
ويُرجع البعض أسباب ضعف توكيد الذات إلى الخلط بين التصرفات بأدب والتوكيد السلبي، والاعتقاد أن التنازل عن الحقوق هو من العفو والإيثار الذي دعا إليه القرآن الكريم، ومعيار ذلك هو أن الإسلام جعل العفو المحمود هو العفو عند المقدرة.
يؤكد هذا المعنى الذي يعتقد به البعض، حديث رواه سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَن كظَمَ غيظًا، وهو يستطيعُ أنْ يُنْفِذَه؛ دعاه اللهُ يومَ القيامةِ على رؤوسِ الخلائقِ، حتّى يُخَيِّرَه في أيِّ الحُورِ شاءَ”، (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب).
وقد جعل الإسلام شرط العطاء أن يكون عن طيب نفس وليس تحت ضغط داخلي أو خارجي، فعن أم سلمة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ أَدّى زَكاةَ مالِهِ، طَيْبَةً بِها نفسُهُ، يُرِيدُ بِها وجْهَ اللهِ والدّارَ الآخِرَةَ؛ لمْ يُغيِّبْ شيئًا من مالِهِ، وأقامَ الصَّلاةَ، وأَدّى الزكاةَ، فَتَعَدّى عليهِ الحَقَّ، فأَخَذَ سِلاحَهُ فَقاتَلَ، فَقُتِلَ، فهوَ شَهيدٌ”، رواه ابن حبان في صحيحه، وقال الألباني: حديث صحيح.
ومن الأسباب التي تُؤدي إلى ضعف توكيد الذات، أن بعض الناس لم يتعلموا ممارسة وسائل توكيدية للتفاعل مع الآخرين، بسبب ظروف النشأة المغلقة وضعف التفاعل مع الآخرين، أو لعدم مراقبتهم كيف يتصرف الآخرون في مواقف مشابهة، ويتولد عن ذلك حالة من القلق مما يُمكن أن يحدث إذا تصرف الفرد بطريقة توكيدية، وتكون النتيجة الفورية للسلوك السلبي هو التجنب أو الهروب من الصراعات المنتجة للقلق والخوف.
نموذج عن مهارة توكيد الذات
يدعو الإسلام أتباعه إلى الدعوة إلى الله، والجهر بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجابهة الظالمين ومقاومة المعتدين، ولن يتيسر للمسلم القيام بهذه الواجبات ما لم يكن على قدر كبير من الاعتزاز بهويته وبما يحمل من حق وبذاته المكرمة المجتباة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ …} [الإسراء:70]، وقال جل وعلا: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ…}[الحج:78].
ونعرض هنا موقف من المواقف المشهودة في التاريخ الإسلامي، ثمّ نقوم بتحليل هذا الموقف لتوضيح المهارات الفرعية بشأن توكيد الذات:
ففي غزوة القادسية أرسل رستم قائد الفرس إلى سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا، فأرسل سعدُ ربعيَّ بن عامر إليهم.
دخل رِبعي عليهم وقد زيّن رستم مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي المبثوثة، وأظهر اليواقيت والوسائد المنسوجة بالذهب والزينة العظيمة وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وعليه تاج من الذهب ويجلس على سرير من الذهب.
فدخل عليه ربعي بثياب صفيقة ومعه سلاحه وسيفه الذي وضعه في خرقة وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبًا الفرس حتى داس بها على البساط، ثمّ نزل وربط حبل فرسه بوسادتين شقهما، فلما اقترب من رستم قال له الجنود: ضع سلاحك.
فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم ولكني أتيتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل ربعي وهو يمشي ويمزق الوسائد والنمارق التي في طريقه فلم يدع لهم وسادة ولا نمرقًا إلا أفسدها وهتكها.
فلما أقبل عند رستم قال له: ما جاء بكم؟ فقال ربعي: “الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء مِن عباده مِن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومِن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومِن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومَن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله”.
فقال رستم: وما موعود الله؟
قال: الجنة لمَن مات على قتال مَن أبى الدخول في الإسلام والنصر لمَن بقي.
فقال رستم: قد سمعنا مقالتكم فهل لكم أن تُؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟
فقال: نعم، ولكن كم أحب إليكم؟ يومًا أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا ونتشاور في أمرنا.
فقال له ربعي: ما سنّ لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نُؤخر القتال أكثر من ثلاث ليال، فانظر في أمرك وأمر قومك، ثمّ اختر واحدة من ثلاث بعد ثلاث ليال: إما الإسلام، وإما القتال، وإما الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وأنا كفيل بذلك عن أصحابي.
فتعجب رستم وقال له: أسيدهم أنت حتى تقرر؟
فقال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم.
فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أرجح وأعظم عزًا من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب – أي تدخل في الإسلام – أما ترى إلى ثيابه؟ فقال رستم: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب.
تحليل الموقف: حين ننظر نظرة تفصيلية إلى التعريف العام لتوكيد الذّات نلاحظ أنه يتكون من عدة عناصر، تتمثل في عدد من المهارات الفرعية التي من المفترض أن يمارسها المؤكد لذاته وهي:
- الإقدام الاجتماعي: وتتجلى هذه المهارة في الموقف السابق عندما قبل الجندي المغمور ربعي بن عامر هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر وذهب لمواجهة قائد الفرس.
- الدفاع عن الحقوق الخاصة: وتتجلى هذه المهارة في الموقف السابق عندما طلب منه جنود الفرس أن يضع سلاحه، فقال لهم: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم ولكني أتيتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له.
- الدفاع عن الحقوق العامة: ويتجلى ذلك في إجابته على رستم عندما سأله ما جاء بكم؟ فقال ربعي: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله”.
- مواجهة الآخرين: وتتجلى هذه المهارة في الموقف السابق عندما عندما واجه جيش الفرس قائدهم وجندهم وحده وبهذه العزة.
- المساومة: وتتجلى هذه المهارة في الموقف السابق عندما طلب منه رستم أن ينظره حتى يشاور قومه، فقال: نعم، ولكن كم أحب إليكم؟ يومًا أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا ونتشاور في أمرنا. فقال له ربعي: ما سن لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نؤخر القتال أكثر من ثلاث ليال فانظر في أمرك وأمر قومك ثم اختر واحدة من ثلاث بعد ثلاث ليال.
- الاستقلال بالرأي: وتتجلى هذه المهارة في الموقف السابق في قوله – رضي الله عنه -: “وأنا كفيل بذلك عن أصحابي “.
- التعبير عن الاحتجاج: وتتجلى هذه المهارة عندما كان يُمزق الوسائد والنمارق التي في طريقه إلى سرير رستم فلم يدع لهم وسادة ولا نمرقًا إلا أفسدها وهتكها.
- المصارحة: وتتجلى هذه المهارة عندما صارح رستم بغايته ورسالته: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله”.
- طلب تفسيرات: وتتجلى هذه المهارة عندما طلب من رستم تحديد مدة المهلة التي طلبها وعدم تركها مدة مفتوحة.
مظاهر السلوك التوكيدي
ومهارة توكيد الذات لها علامات تظهر على الشخص في أثناء تحدثه إلى الآخرين وتفاعله في المواقف المختلفة، ومن هذه المظاهر:
- الاعتدال في الوقوف أو الجلوس في أثناء الحديث مع الآخرين.
- الطريقة التي ينظر بها الشخص لمَن يتحدث معهم تكون مناسبة.
- الانسجام بين تعبيرات الوجه وإيماءات الجسم مع المواقف المختلفة والرسالة التي يُريد الشخص إيصالها إلى الآخرين.
- نغمة الصوت تكون مناسبة للموقف فلا يكون الصوت مرتفعًا أو منخفضًا عمّا تقتضيه الحاجة.
- الاهتمام بالمظهر العام.
- استخدام ضمير المتكلم بتلقائية واعتدال.
وعلى مستوى مضمون الرسالة يكون لدى المؤكد ذاته القدرات الآتية:
- القدرة على الطلب وعرض المساعدة.
- القدرة على التعبير عن الرغبات والمشاعر والانفعالات الموجبة والسالبة.
- القدرة على بدء واستمرار وإنهاء المحادثات.
- القدرة على التعبير عن النفس والتحدث عن المشاعر والآراء.
- القدرة على رفض الآراء التي تتعارض مع قيمه الشخصية للفرد.
- وأخيرًا القدرة على رفض طلب شخص تحبه أو الإطراء والمديح لشخص تكرهه.
توكيد الذات في التربية الإسلامية
وتحرص التربية الإسلامية على بناء إنسان مسلم معتز بهويته وبما يحمل من حق، مستقل في تفكيره، يتمسك بالحق ولو كان وحده على هذا الطريق، وفي الحديث الشريف: “لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النّاسُ أحسنّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا”. أخرجه الترمذي عن حذيفة بن اليمان وقال حديث حسن غريب.
وحين ننظر إلى جوهر الدين الإسلامي لنقف على توجهه نحو توكيد الذات، نجد أنه يتبنى اتجاها إيجابيا نحوه بوصفه وسيلة لدعم الغايات الإسلامية، وتفيض تعليماته بالأوامر التي تحض الفرد على أن يكون مؤكدا لذاته في مجالات عديدة تتمثل فيما يلي:
1- الجهر بالكف وإظهار الاختلاف في عدم الإذعان للمطالب غير المعقولة، ومما يدل على ذلك قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: “أفضلُ الجهادِ كلِمةُ حقٍّ عِندَ سُلطانٍ جائِرٍ” حديث صحيح أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه.
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يَحْقِرَنَّ أحدُكُمْ نفسَهُ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وكَيْفَ يَحقِرُ أحدُنا نفسَهُ؟ قال: يرى أمرًا للهِ عليهِ فيهِ مقالٌ ثُمَّ لا يقولُ فيهِ ! فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ [لهُ] يومَ القيامةِ: ما منعَكَ أنْ تقولَ في كذا وكذا فيقولُ: خَشِيتُ الناسَ ! قال: فأنا كُنْتُ أحقُّ أنْ تَخْشى”. أخرجه الشوكاني في الفتح الرباني عن أبي سعيد الخدري وقال: رجال إسناده ثقات.
وهناك نماذج عدة مثل الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الانقياد للضغوط الشديدة التي مُورست بحقه من الخليفة المأمون للنزول على رأيه في مسألة خلق القرآن، أو تلك الضغوط الأدبية التي مارسها معاوية بن أبي سفيان على الأحنف بن قيس حين شاوره في استخلاف ابنه يزيد، فسكت عنه. فقال معاوية: ما لك لا تقول؟ فقال الأحنف: إن صدقناك أسخطناك، وإن كذبناك أسخطنا الله، فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله، فقال معاوية: صدقت.
2- مراجعة الذات والاعتذار العلني: وقوامه المبدأ الذي أعلنه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مخاطبا أبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء، قال: “إن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل”، أو كما قال أحمد بن يوسف: “قد يسع العذر من ضاقت عليه الحجة” .
٣- القدرة على طلب تفسيرات من الآخر حول سلوكه: مما سجل للإسلام أنه يحث أتباعه على أن يستفسروا من الطرف الآخر، بغض النظر عن موقعه في سلم السلطة، حول مبررات بعض سلوكياته غير المفهومة تدينه، وليس أدل على ذلك من أن صحابة الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانوا يطلبون منه ويسألونه توضيح أو تفسير أشياء عديدة.
4- الاعتداد بالذات: إن شعور الفرد بقيمته يعد محركا رئيسيا لتوكيده لذاته، ومقاومة محاولات الانتقاص من قدره، ولا عجب في ذلك فالفرد الذليل لن يبني أبدا أمة عزيزة؛ ويزخر التاريخ الإسلامي بمواقف عديدة تؤكد أن أبناء هذه الأمة تمثّلوا هذه المبادئ في سلوكهم اليومي نسوق إليكم بعضا منها:
دخل إياس بن معاوية (القاضي إياس) – الذي تضرب به العرب المثل في الفطنة والذكاء – وكان في ذلك الوقت غلاما وخصم له، وكان خصمه شيخا كبيرا، دخلا إلى بعض قضاة عبد الملك بن مروان، فدار بينهما الحوار التالي:
القاضى: أتقدم شيخا كبيرا.
إياس: الحق أكبر منه.
القاضي: اسكت.
إياس: فمن ينطق عنى؟
5- عدم الحياء من الحق: قد يستغل البعض نقص الشجاعة الأدبية للفرد للحصول على المزيد من المزايا منه، أو على حسابه، كأن يتعمد التقدم إليه بطلب على الملأ، يعلم أنه قد يرفضه إذا طلبه منه على انفراد. وقد حرص الإسلام على تنمية روح عدم الحرج من الحق حتى لا يؤتى الفرد من هذا الباب فيوافق حرجا على ما لا يقبله، أو يستسلم لأوضاع لا يرتضيها. ومن الوقائع الدالة على ذلك: ما وقع من یحیی بن خالد وأحد المداحين الذي مدحه قائلا: “والله لأنت أحلم من الأحنف بن قيس، وأحكم من معاوية وأحزم من عبد الملك بن مروان، وأعدل من عمر بن عبد العزيز”.
فقال له يحيى: “والله لعمير غلام الأحنف أفهم منّي، ولسرجون غلام معاوية أحكم منّي، ولأبو الزعيزعة صاحب شرطة عبد الملك أحزم منّي، ولمزاحم قهرمان عمر أعدل منّي، وما يتقرب منّي من أعطاني فوق حقي”، أي أنه لم يستجب لتلك المحاولات لإغوائه وتخديره بالمدح الكاذب، ولكنه كان مؤكدا حين رفضها بصراحة، وبطريقة غير جارحة.
ومما يشير إلى أن تلك الروح التوكيدية والمؤكدة للآخرين كانت متأصلة في عقول أبناء الأمة كاستجابة للتعاليم الإسلامية، ما حدث من عبدالله بن الزبير لما كان غلاما حين مر عليه الخليفة عمر بن الخطاب وهو يلعب مع مجموعة من الصبيان، ففروا، وثبت هو، فقال له عمر: كيف لم تفر مع أصحابك، قال: لم أجرم فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقا فأوسع لك” .
ودخل رجل على بعض العلماء فأومأ إليه إلى مكان يجلس فيه، فعدل عنه إلى جهة أخرى، وكانت العين هناك تقع على ما يجب ستره، فقال له: اجلس حيث أجلستك فإني أعلم بعوار منزلي.
٦- التعبير عن المودة والمساندة والثناء على الفعل الجيد: لا يتمثل التوكيد فقط في دفاع الفرد عن حقوقه، وحماية خصوصياته، وحصد المزايا له، بل إنه يساعد – أيضا – على توطيد علاقته بالآخرين من خلال تعبيره عن مشاعره الودية نحوه. ومن المأثورات الإسلامية الداعية إلى ذلك قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه: “إذا أحَبَّ أحدُكم أخاه فلْيُعْلِمْه” رواه ابن حبان في صحيحه عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لمْ يَشْكُرْ القَلِيلَ لمْ يَشْكُرْ الكثيرَ، ومَنْ لمْ يَشْكُرْ الناسَ لمْ يَشْكُرْ اللهَ، والتَّحَدُّثُ بنعمةِ اللهِ شُكْرٌ، ومَنْ تركَها كفرَ، والجماعةُ رحمةٌ، والفُرْقَةُ عذابٌ” أخرجه البزار وابن أبي الدنيا عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – وإسناده لا بأس به، فالشكر غرس إذا أودع سمع الكريم أثمر الزيادة، وأن يعبر للآخرين عن مكانتهم لديه مثلما كشف الخليفة المأمون عما يكنه من حب ومودة لصديقه عبد الله بن طاهر حين قال له عند قدومه من مصر: “ما سرني الله منذ وليت الخلافة بشيء عظم موقعه عندى بعد جميل عافيه الله، هو أكثر من سروري بقدومك”.
أخيرًا
يجب على المسلم أن يحرص على تعزيز مهارة توكيد الذات وألا يخجل من الإفصاح عن مشاعره بالمحبة بشكل مادي ولو بالنزر اليسير، مثلما فعل النضر بن الحارث حين بعث إلى صديق له بنعلین مخصوفتين، وكتب إليه: “بعثت إليك بهما وأنا أعلم أن بك عنهما غنى، ولكنني أحببت أن تعلم أنك مني على ذكر”.
فهو لم يخجل من ضآلة هديته نظرا لارتفاع توكيده، وهي سمة ضرورية الآن، حيث إننا قد نهجر صداقات عزيزة علينا، ونمتنع عن القيام بواجبات إنسانية أساسية خجلا من الذهاب بدون هدية، أو بهدية ضئيلة القيمة.
ويجب ألا ننسى أن الإسلام وقف موقفا مستهجنا من بعض مظاهر عدم التوكيد، مثلما في قوله تعالى: {… وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[البقرة:283]، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يمنعنَّ رجلًا هيبةُ الناسِ أن يقولَ بحقٍّ إذا رآه أو شهِدَه فإنه لا يقرِّبُ من أجلٍ ولا يباعِدُ من رزقٍ أو يقولَ بحقٍّ أو يُذكِّرَ بعظيمٍ”. حديث صحيح، رواه الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري.
المصادر
- 1- مصطفى سويف: المخدرات والشباب في مصر. القاهرة: المركز القومي للبحوث الاجتماعية 1987.
- 2- طريف شوقي: توكيد الذات: مدخل لتنمية الكفاءة الشخصية ، القاهرة : دار غريب ۱۹۹۸.
- عباس محمود العقاد: عبقرية خالد، القاهرة: مطابع وزارة التربية والتعليم۱۹۷۱.
- مصطفى سويف: المخدرات والشباب في مصر. القاهرة: المركز القومي للبحوث الاجتماعية 1987 .
- أرسطاطالیس: سر الأسرار: السياسة والفراسة في تدبير الرئاسة، بیروت: دار الكتاب اللبناني. ۱۹۸۰
- ابن كثير: البداية والنهاية، بيروت: مطبعة المعارف 1990 .
- محمد الخضر حسین: العزة والتواضع، مجلة “نور الإِسلام” – العدد السابع من المجلد الثاني، الصادر في شهر رجب 1350 هـ – القاهرة. ۱۹۳۱.
- أبو إسحاق إبراهيم القيرواني: زهر الآداب وثمر الألباب، تحقيق: زكي مبارك و محمد محيي الدين (ط2)، بیروت: دار الجيل ۱۹۷۲.
- أبو عمر أحمد بن محمد ابن عبد ربه: العقد الفريد، القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1940.
- محمد زكي صفوت: مهرة رسائل العرب في العصور العربية الزاهرة (ط1)، القاهرة : مطبعة مصطفى البابي الحلبي۱۹۳۷ .
- نجاتي، محمد عثمان (۱۹۸۹) .الحديث النبوي وعلم النفس، بیروت: دار الشروق .
- أبو عثمان عمرو الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق: محمد عبد السلام هارون، القاهرة : الخانجي ۱۹۸۰.
- أبو حيان التوحيدي: البصائر والذخائر، تحقيق: وداد القاضي، بیروت: دار صادر 1985.
- أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة: عيون الأخبار، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب۱۹۷۳.