إنّ التواضع من الأخلاق الحميدة التي حثّ عليها الإسلام، وهو من صفات النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، لذا فهو خُلُقٌ يحرص عليه العلماء والمربون لأنه يعكس مدى معرفتهم وفهمهم للعلم الذي لا يستقيم مع الكبر، ولا يؤتى مع المعصية، إنما يزداد بالتقوى.
ولا شك أن هذا الخُلُق خصلةٌ كريمةٌ ينال بها العبد بعد رضا الله رضا الناس عنه، فالمتواضع يُحبّه الناس ويألفونه ويطمئنون إليه، وحقيقته ترك التعالي والتكبر على عباد الله، والمسلم حقًا يُحب إخوانه المسلمين، وينظر إليهم نظرة الاحترام والتقدير، وإن تفاوتت المنازل بين الغنى والفقر، والضعف، والعلم أو غير ذلك.
مفهوم التواضع لغة واصطلاحا
ومفهوم التَّوَاضُع عند العلماء يُعرف من خلال التّعرف إلى معنى التواضع في اللغة وهو وَضَع فلانٌ نفسَه وَضعًا، ووُضوعًا بالضَّمِّ، وضَعةً، بالفَتحِ: أي: أذلَّها. وتواضَع الرَّجُلُ: إذا تذلَّل، وقيل: ذلَّ وتخاشَعَ.
وفي الاصطلاح يعني: “تَركُ التَّرؤُّسِ، وإظهارُ الخُمولِ، وكراهيةُ التَّعظيمِ والزَّيادةُ في الإكرامِ، وأن يتجنَّبَ الإنسانُ المباهاةَ بما فيه من الفضائلِ، والمفاخرةَ بالجاهِ والمالِ، وأن يتحرَّزَ من الإعجابِ والكِبرِ”، والخمول يأتي بمعنى الخفاء.
وقيل هو: “رِضا الإنسانِ بمنزلةٍ دونِ ما يستحقُّه فضلُه ومنزلتُه”، وهو: “إظهارُ التَّنزُّلِ عن المرتبةِ لمن يرادُ تعظيمُه، وقيل: هو تعظيمُ مَن فوقَه لفضلِه”.
التواضع في القرآن والسنة
وقد أثنى القرآن الكريم على خلق التواضع عند العلماء والمربين وغيرهم ممّن التزم هذا الخُلُق العظيم، قال الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) [الفرقان: 63] قال ابن القيِّم: “أي: سكينة ووقارًا، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبِّرين، وقال الحسن: علماء حلماء. وقال محمَّد بن الحنفيَّة: أصحاب وقار وعفَّة، لا يسفِّهون، وإن سُفِه عليهم حلموا. والهَوْن- بالفتح- في اللُّغة: الرِّفق واللِّين، والهُون- بالضَّم-: الهَوَان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم صفة أهل الكُفْران، وجزاؤهم مِن الله النِّيران”.
وأمر الله- سبحانه وتعالى- نبيه الكريم أن يلين جانبه للمؤمنين، وأن يتواضع لهم، فقال: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 88]. قال القرطبيُّ في تفسير الآية: “أي: أَلِن جانبك لمن آمن بك، وتواضعْ لهم”.
وقال تعالى مخاطبًا رسولَه، ممتَنًّا عليه وعلى المُؤمِنين فيما ألان به قلبَه على أمَّتِه المتَّبعين لأمرِه، التَّاركين لزجرِه، وأطاب لهم لفظَه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
ووصف اللَّهُ- سُبحانَه وتعالى- أصحابَ النَّبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بأنَّهم “يُظهِرون العطفَ والحُنُوَّ والتَّواضُعَ للمُؤمِنين، ويُظهِرون الشِّدَّةَ والغِلظةَ والتَّرفُّعَ على الكافرين”، حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة: 54] .
وحث النبي- صلى الله عليه وسلم- صحابته الكرام على التزام خلق التّوَاضُع مع الناس جميعًا، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ما نقصت صدقةٌ من مالٍ ، وما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ للَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ” (مسلم). ومعنى: تواضع لله؛ أي أَنزَلَ نْفسَه عن مَرتبةٍ يَستحقُّها؛ لِرجاءِ التَّقرُّبِ إلى اللهِ دُونَ غَرَضٍ غَيرِه، بلْ تَواضَعَ للهِ رِقًّا وعُبوديَّةً في ائتمارِ أمرِه، والانتهاءِ عن نَهيِه، ومُشاهدتِه لِحقارةِ النَّفْسِ، ونَفْيِ العُجبِ عنها.
قال القاضي عِياضٌ في قولِه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- “وما تواضَع أحدٌ للهِ إلَّا رفعه اللَّهُ”: “فيه وجهانِ: أحدُهما: أنَّ اللَّهَ تعالى يمنحُه ذلك في الدُّنيا جزاءً على تواضُعِه له، وأنَّ تواضُعَه يُثبِتُ له في القلوبِ محبَّةً ومكانةً وعِزَّةً، والثَّاني: أن يكونَ ذلك ثوابَه في الآخِرةِ على تواضُعِه”.
وعن عياض بن حمار- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ” (مسلم). يعني: أن يتواضع كلُّ واحد للآخر، ولا يترفَّع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان مِن عادة السَّلف رحمهم الله: أنَّ الإنسان منهم يجعل مَن هو أصغر منه مثل ابنه، ومَن هو أكبر مثل أبيه، ومَن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى ما هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى مَن هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى مَن هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحدٌ على أحد.
وتشرّب الصحابة الكرام هذا الخلق، فها هو أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بُويعَ له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا أغنامنا، فسمِعها أبو بكر، فقال: بلى لأحلبنَّها لكم، وإني لأرجو ألَّا يُغيِّرني ما دخلت فيه عن خلق كنتُ عليه، فكان يحلب لهم”.
وقال أبو صالح الغفاري: كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنها- يتعهَّد امرأةً عمياء في المدينة بالليل، فيقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، ففعل ما أرادت، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر، كان يأتيها ويقضي أشغالها سرًّا وهو خليفة”، وقال سعد بن الحسن التميمي: كان عبدالرحمن بن عوف- رضي الله عنه- لا يعرف من بين عبيده، يعني من التواضع في الزي”.
نماذج تربوية من التواضع عند العلماء
وحفظت لنا كتب التراث نماذج تربوية عديدة عن التواضع عند العلماء، حيث ضرب الإمام مالك بن أنس- رحمه الله- أروع الأمثلة في تجسيد خلق التواضع؛ فقد روى ابن عبد البر عنه أنه قال: لما حجَّ أبو جعفر المنصور دعاني فدخلتُ عليه فحدثته، وسألني فأجبته فقال: “إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها -يعني الموطأ- فينسخ نسخًا ثم أبعث إلى كل مصر (قطر أو بلد) من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدون إلى غيره، ويدعون ما سوى ذلك من هذا العلم المحدَث؛ فإني رأيتُ أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم.
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به ودانوا به، من اختلاف الناس: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل أهل بلد لأنفسهم”. فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به. قال الراوي بعد نهاية القصة: “وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم!”، ورُويَ أيضًا عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال لمالك: “ما أعلم أحدًا أعلمَ بالبيوع من أهل مصر. فقال له مالك: وبم ذلك؟ قال: بك. فقال: أنا لا أعرف البيوع فكيف يعرفونها بي!”.
قال رجاء بن حيوة: سمرت عند عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فعشي (ضعف) السراج، فقلت: ألا أنبه هذا الغلام يصلحه؟ فقال: لا، دعه ينام، فقلت: أفلا أقوم أصلحه؟ فقال: لا، ليس من مروءة الرجل استخدام ضيفه، ثم قام بنفسه فأصلحه وصبَّ فيه زيتًا، ثم جاء، وقال: قمتُ وأنا عمر بن عبدالعزيز، وجئتُ وأنا عمر بن عبدالعزيز”.
وعن الأوزاعي قال: كان عمر بن عبد العزيز يجعل كل يوم درهمًا من خاصة ماله في طعام المسلمين، ثم يأكل معهم”. وقد بلغ عمر بن عبدالعزيز أن ابنًا له اشترى خاتمًا بألف درهم، فكتب إليه عمر: إذا أتاك كتابي، فبِعِ الخاتمَ، وأشْبِعْ ألفَ بطنٍ، واتخذ خاتمًا من درهمين، واجعل فصه حديدًا صينيًّا، واكتب عليه: (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه).
وقال عطاء بن أبي رباح: إن الرجل ليُحدِّثني بالحديث، فأنصت له كأني لم أسمعه، وقد سمِعتُه قبل أن يولد”. وقال أبو عيسى الحواري: لما قدم سفيان الثوري الرملة- أو بيت المقدس- أرسل إليه إبراهيم بن أدهم: تعال حدثنا، فقيل له: يا أبا إسحاق، تبعث إليه بمثل هذا، قال: إنما أردت كيف تواضعه، قال: فجاء فحدثهم”.
وروى عبد الرزاق بن همام قال: رأيت سفيان الثوري بصنعاء اليمن يُملي على صبي ويستملي له”. وقال أبو بكر الخلال: رأيت أبا عبد الله، أحمد بن حنبل، يشتري الخبز من السوق، ويحمله في الزنبيل، ورأيته يشتري الباقلاء غير مرة، ويجعله في خرقة، فيحمله آخذًا بيد عبد الله ابنه.
وذكر إسماعيل بن إسحاق السراج: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل أول ما رأيته: يا أبا عبد الله، ائذن لي أن أُقبِّلَ رأسك، قال: لم أبلغ أنا ذاك”.
وقال عمر بن علي البزار عن شيخه الإمام أحمد بن تيمية كان إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة يحمل هو بنفسه النسخة (الكتاب) ولا يدع أحدًا منا يحملها عنه، وكنت أعتذر إليه من ذلك خوفًا من سوء الأدب، فيقول: لو حملته على رأسي لكان ينبغي، ألا أحمل ما فيه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!”.
إن التواضع عند العلماء والمربين خصلة حميدة تأسر القلوب وتحبب الناس فيهم وتجعلهم يتقبلون منهم ما يلقونه عليهم من تعاليم إسلامية، وهو خُلق يُدرَك بالعلم والتقوى واحترام آراء الآخرين، ويرفع صاحبه قدرًا ويُعْظِم له خطرًا ويزيده نبلًا، ويؤدِّي إلى الخضوع للحقِّ والانقياد له، وهو عين العزِّ؛ لأنَّه طاعة لله ورجوع إلى الصَّواب وفيه مصلحة الدِّين والدُّنْيا، ويزيل الشَّحناء بين النَّاس، ويريح مِن تعب المباهاة والمفاخرة.
مصادر ومراجع:
- الفراهيدي: العين 2/196.
- الزبيدي: تاج العروس 22/343.
- الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 299.
- الجاحظ: تهذيب الأخلاق، ص 25.
- ابن حجر: فتح الباري 11/341.
- ابن القيم: مدارج السالكين 3/108.
- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 10/56.
- الشوكاني: فتح القدير 2/75.
- القاضي عياض: إكمال المعلم شرح صحيح مسلم 8/59.
- ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/ 138:139.
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/ 265.
- ابن أبي الدنيا: التواضع والخمول، ص 185.
- أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء 1/60.
- ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/20.
- مالك بن أنس: الموطأ 1/33.
- ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/533.
- ابن كثير: البداية والنهاية 9/2011.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/86.
- محمد بن مفلح الحنبلي: الآداب الشرعية 2/258.
- البزار: الأعلام العلية، ص 52.