فوّض الله – عز وجل – تهذيب الأخلاق إلى اجتهاد العبد وتَشميره، واستحثه على ذلك بتخويفه وتحذيره، لأن الخلق الحسن صفة سيد المرسلين، وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شطر الدين، وثمرة مجاهدة المتقين، ورياضة المتعبدين.
والأخلاق السيئة هي السّموم القاتلة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة عن جِوار ربّ العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
وفي هذا الموضوع نشير إلى أن الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان، وجوار الرحمن، والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس.
فضيلة تهذيب الأخلاق
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – مثلنا الأعلى في تهذيب الأخلاق وترويض النفس على الخلق العظيم، قال الله تعالى لنبيه مثنيًا عليه ومظهرًا نعمته لديه: (وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ) [القلم: 4]،
وقالت عائشة – رضي الله عنها -: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خلقه القرآن” (أخرجه أحمد).
وقال – صلى الله عليه وسلم -: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (البخاري)، وعنه – صلى الله عليه وسلم – قال: “اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلقٍ حسنٍ” (الترمذي)، وقيل له: “يا رسول الله إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها “. قال: “لا خير فيها، هي من أهل النار” (رواه أحمد).
وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: كُنتُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ، فجاءَهُ رجلٌ منَ الأنصارِ، فَسلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، ثمَّ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ المؤمنينَ أفضلُ؟ قالَ: أَحسنُهُم خُلقًا” (ابن ماجة)
وروى أبو هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وَلْيَسَعُهُمْ منكم بَسْطُ الوجه وحسن الخلق” (رواه الحاكم). وقال – صلى الله عليه وسلم -: “يا أبا ذرٍّ لا عقلَ كالتَّدبيرِ ولا ورعَ كالكفِّ ولا حسَبَ كحُسنِ الخُلقِ” (ابن ماجة).
تهذيب الأخلاق والسّلف الصالح
اهتم السلف الصالح بفضيلة تهذيب الأخلاق وبشاشة الوجه وكف الأذى عن الناس في كل مواقف حياتهم، فها هو معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: “إنَّ المسلمَيْنِ إذا التقيا، فضحك كلُّ واحد منهما في وجه صاحبه، ثمّ أخذ بيده، تَحَاتَّتْ ذنوبهما كتحات ورق الشجر” (1).
وعن هشام بن عروة، عن أبيه قال: “مكتوب في الحكمة: ليكن وجهك بسطًا، وكلمتك طيبة، تكن أحبَّ إلى النَّاس من الذي يعطيهم العطاء” (2)، وقال عبد الله بن المبارك: “حسن الخلق: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى” (الترمذي).
وقال ابن القيِّم: “طلاقة الوجه والبِشْر المحمود وسط بين التَّعبيس والتَّقطيب، وتصعير الخدِّ، وطيِّ البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال مع كلِّ أحد بحيث يذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أنَّ الانحراف الأوَّل يوقع الوحشة، والبغضة، والنُّفرة في قلوب الخَلْق، وصاحب الخُلُق الوسط: مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبيِّنا: من رآه بديهة هابه، ومن خالطه عشرة أحبَّه” (3).
أمّا ابن حبان فقال: “البَشَاشَة إدام العلماء، وسجيَّة الحكماء؛ لأنَّ البِشْر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي” (4)، ولمّا قيل للأوزاعي – رحمه الله: ما كرامة الضَّيف؟ قال: طلاقة الوجه، وطيب الحديث (5).
إمكانية تغيير الأخلاق
إنّ بعض مَن غلبت عليه البطالة استثقل المجاهدة والرياضة، والاشتغال بتزكية النفس وكسب فضيلة تهذيب الأخلاق وتحسينها، فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه، وخبث دخلته، فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغييرها، فإن الطباع لا تتغير، فنقول:
– لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: (حسنوا أخلاقكم).
– وكيف ينكر هذا في حق الآدمي، وتغيير خلق البهيمة ممكن، إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغيير للأخلاق.
والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول، الموجودات منقسمة إلي:
– ما لا مدخل للآدمي واختياره في أصله وتفصيله، كالسماء والكواكب، بل أعضاء البدن داخلا وخارجا وسائر أجزاء الحيوانات، وبالجملة كل ما هو حاصل كامل وقع الفراغ من وجوده وكماله.
– وإلى ما وجد وجودا ناقصا وجعل فيه قوة لقبول الكمال بعد أن وجد شرطه، وشرطه قد يرتبط باختيار العبد، فإن النواة ليس بتفاحٍ ولا نخلٍ، إلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير نخلة إذا انضاف التربية إليها، ولا تصير تفاحا أصلا ولا بالتربية، فإذا صارت النواة متأثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الأحوال دون بعضٍ، فكذلك الغضب والشهوة لو أردنا قَمعهما وقَهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلا، ولو أردنا سلاستهُما وقودهمَا بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه، وقد أمرنا بذلك وصار ذلك سبب نجاتنا ووصُولنا إلى الله تعالى.
كيف نعرف عيوب النفس؟
اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبدٍ خيرا بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج. ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرقٍ:
الطريق الأول: أن يجلس بين يدي شيخٍ بصيرٍ بعيوب النفس، مطلعٍ على خفايا الآفات ويتبع إشارته في مجاهدته، وهذا شأن التلميذ مع أستاذه، فيعرفه أستاذه عيوب نفسه، ويعرفه طريق علاجه.
الطريق الثاني: أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا يلاحظ أحواله وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه ينبهه عليه، هكذا كان أسلوب الأكابر من أئمة الدين في رحلة تهذيب الأخلاق وتحسينها، فكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول: “رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي”.
الطريق الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تبدي المساويا، ولعل انتفاع الإنسان بعدوٍ مشاحنٍ يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديقٍ مداهنٍ يثني عليه ويمدحه، ويخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه، فإن مساويه لا بُد وأن تنتشر على ألسنتهم.
الطريق الرابع: أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذموما فيما بين الخلق فليُطالب نفسه به وينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه، ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى، فما يتصف به غيره فلا ينفك هو عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيءٍ منه.
المصادر
1- ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، (2/228).
2- البيهقي: شعب الإيمان، (6/254).
3- ابن القيم: مدارج السالكين، (2/311).
4- ابن حبان البستي: روضة العقلاء، صـ 75.
5- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، (2/18).
6- قابلية الأخلاق للتهذيب .