أطلق الفقهاء عبارة تكبيرة الانتقال أو تكبيرة النقل على التكبير الذي يكون في التحول من ركن إلى ركن في الصلاة، عدا الانتقال من الركوع للقيام؛ فقد شُرِع فيه: (سمع الله لمن حَمِده)، ولعل حكمة ذلك أن هذا القيام القصير إنما هو إكمال لما بدأه المصلي من القيام قبل الركوع، والذي كان أساسه سورة الحمد: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (الفاتحة: 2)؛ فناسب في الإكمال بعد الركوع استجابة الحمد.
دلالات تربوية في تكبيرة الانتقال
- ملء الفراغ: حتى الوقت الذي يُعَدُّ بالثواني أو أقل في الانتقال بين الركن والركن (بين السجود والجلوس) و(بين القيام والركوع)… إلخ، حتى هذا الوقت الضئيل لا بد أن يُملأ بالطاعة والعبادة؛ وإن كنا في عبادة. قال بعض العلماء: إنه يُستحَب إطالة التكبير بالمد بمقدار وقت الانتقال لئلا يخلو جزء من الذكر. وهذا درس رباني للحفاظ على أوقاتنا المهدرة وأزمتنا المضاعة خارج الصلاة!
- الاقتران بين الحركة والكلام: وإن من عجيب تكبيرة الانتقال أنها تكون مصاحبة وموافقة للحركة حتى إن بعض الفقهاء رأى أنه: إن قالها وهو مستقر سواء قبل انتقاله أو بعد انتقاله، فإنها لا تجزئه.
- الاستعانة والاستقواء: والمقصود ههنا هو الاستعانة بذكر الله من (التكبير) على حركة الانتقال، وذلك أن السكوت وقت الانتقال قد يُضعِف الحركة، ولكن صوت (التكبير) يبعث حيوية وقوة في الحركة. كما أن من أسرار التكبير أن يشعر المصلي أنه يأوي إلى ركن شديد، ويستعين بـ (الكبير) الذي قهر كل شيء بكبريائه وعظمته؛ فلا يركن إلى سواه، ولا يستعين إلا به؛ وما الدين إلا عبادة واستعانة.
- الاستحضار والاستحياء: إن في النوايا خفايا وأسرارًا، و(تكبيرة الانتقال) تحيي استحضار الوقوف بين يدي الكبير الجبار، حين تأخذ المصلي الوساوسُ وتهيم به الأفكار؛ فيقوم بالقلب الحياء من غفلته عن ذكر القهار. ولذلك ذكر بعض الفقهاء أنه ينبغي للمصلي استحضار قَصْد الذكر حين (تكبيرة النقل) حتى لا يظن ظانٌّ أنها ليست من عبادة الأذكار، بل هي كالتشهد والتسبيح والاستغفار. ومن نوى أن (تكبيرة الانتقال) لإعلام المأمومين من خلفه فقط دون قَصْد الذكر، لم تجزئه عند جمهور علماء الأمصار.
- التعظيم: وأي شيء أعظم من لفظة: (الله أكبر) التي كان يرددها المصطفى- صلى الله عليه وسلم- إذا صعد مرتفَعًا أو جبلًا، في إشارة منه- صلى الله عليه وسلم- إلى استشعار عظمة الله عند رؤية عظيم في الدنيا، بل إن التكبير (مشروع في المواضع الكبار؛ لكثرة الجَمْع أو لعظمة الفعل أو لقوة الحال أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة) كما قال الإمام ابن تيمية. إنها تربية للنفس على معرفة قَدْر الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الأنعام: 91)؛ فكل الأفكار والمفاهيم الساذجة ينبغي أن تتصاغر أمام المصلي (المكبِّر) في الصلاة، وهو تعظيم لقَدْر الصلاة أيضًا؛ فالله أكبر وأعلى وأجلُّ من تضييع الصلاة بملهيات الدنيا.
- طرد الشيطان: كم يحرص الشيطان وتتحرك ألويته لإضاعة روح الصلاة؛ حتى لا يُكتَب للمرء إلا جزء منها بقَدْر ما عقل، ويأتي (التكبير) أثناء الصلاة ليكون أحد أقوى الأسلحة لدحر الشيطان ووسوسته. ألم يعلِّمنا الأمين- صلى الله عليه وسلم- أن الشيطان ينفر حين سماع الأذان؛ فالتكبير هو مقدمة الأذان وهو أُسُّ ندائه. فإذا ما سمع الشيطان: (الله أكبر) هرب بعيدًا عن المصلي، بل يتصاغر ويتحاقر حتى تنطفئ وسوسته؛ فإن كبرياء الرب- عز وجل- يقمع الشيطان وفِعْله.
- التجدد والتغيير: إن (تكبيرة الانتقال) تنقلنا من حال إلى حال، ومن عبادة الله بالقيام في الصلاة، إلى عبادته بالركوع، ثم السجود والجلوس… إلخ. إن تكبيرة الانتقال تدفع المسلم في صلاته إلى تغيير حركة عبادته في الصلاة؛ ليعيش في روضة من الحركة الدائبة، وفي جو من التجدد الدائم. وهذا التنوع داخل الصلاة يعطينا انطباعًا مهمًا بأن هذا الدين يطلب منا أن نعبد الله بطرق مشروعة شتى، وألا نقتصر على نمط واحد.
- الفاصل الذهني: هذا (التكبير) أيضًا يضع فاصلًا ذهنيًا ومساحة زمنية للسباحة في ذِكْر آخر. ولو افترضنا أن هذه الانتقالات في الأذكار كانت بدون فاصل (التكبير) فإننا سنلاحظ تداخل الأذكار بعضها في بعض، وقد يختلط على المصلي، فيقول الذكر الخاص بالسجود في جلوسه، وهكذا.. فهذا التكبير الفاصل بينها يضع حدًّا لانتهاء الذكر القَبْلي؛ أي: قبل التكبير، وابتداء الذكر البعدي؛ أي: بعد التكبير.
- الاستعداد: تكون (تكبيرة النقل) كأداة للتنبيه لما يليها؛ فتُشعِر المصلي بأهمية الاستعداد لما هو آتٍ، وأنه باستطاعته أن يستمر في صلاته ويقوِّي صِلَته بربه، فــ (الله أكبر) تعطي اندفاعة نفسية للمواصلة والتهيؤ، كما يستخدمها المجاهد في سبيل الله في ساح الوغى.
- التفاؤل: كما أن المصلي حين يردد (تكبيرة الانتقال) يشعر بمعية الله الكبير؛ فمِمَّ يخاف؟ فالله- سبحانه- أكبر من كل شيء ذاتًا وقَدْرًا وعزة وجلالة.. هذا المعنى الذي يصبُّ في نفسه قضية التفاؤلالثقة بالله وحُسْن الظن به؛ فلا يرى لما هو صغير أن يكون عقبة في حياته، ولا يخاف من مستقبل قد أوهمه التفكير المادي بظلمته.
محل تكبيرة الانتقال وحكمها
ومحل تكبيرة الانتقال بين الانتقال إلى الركن والانتهاء منه، قال ابن قدامة في المغني: ويكون ابتداء تكبيره مع ابتداء رفعه، وانتهاؤه مع انتهائه.
ومن ترك التكبير للركوع أو الرفع منه حتى سجد فقد فات محله ولا يجزئه ولا يشرع له الإتيان به لفوات محله، جاء في مطالب أولي النهى للرحيباني الحنبلي: “وَمَحَلُّ تَكْبِيرِ الِانْتِقَالِ وَالتَّسْمِيعِ وَكَذَا التَّحْمِيدُ لِمَأْمُومٍ بَيْنَ ابْتِدَاءِ انْتِقَالٍ وَانْتِهَائِهِ، لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَهُ، فَاخْتَصَّ بِهِ، فَلَوْ كَمَّلَهُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَحَلِّهِ، وَإِنْ شَرَعَ فِيهِ، أَيْ: الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ أَيْ: قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الِانْتِقَالِ، بِأَنْ كَبَّرَ لِسُجُودٍ قَبْلَ هَوِيِّهِ إلَيْهِ، أَوْ سَمَّعَ قَبْلَ رَفْعِهِ مِنْ رُكُوعٍ، لَمْ يُجْزِئُهُ، أَوْ كَمَّلَهُ بَعْدَ انْتِهَائِهِ، كَأَنْ أَتَمَّ تَكْبِيرَ الرُّكُوعِ فِيهِ، لَمْ يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ”.
وفي الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين: يجب أن يكون التَّكبيرُ فيما بين الانتقالِ والانتهاءِ، حتى قال الفقهاءُ رحمهم الله: لو بدأ بالتَّكبير قبل أن يهويَ، أو أتمَّهُ بعد أن يَصِلَ إلى الرُّكوع، فإنه لا يجزئه، لأنهم يقولون: إنَّ هذا تكبيرٌ في الانتقال فمحلُّه ما بين الرُّكنين، فإنْ أدخلَه في الرُّكن الأول لم يصحَّ، وإن أدخله في الرُّكن الثاني لم يصحَّ، لأنه مكان لا يُشرع فيه هذا الذِّكرُ، فالقيامُ لا يُشرع فيه التَّكبيرُ، والرُّكوع لا يُشرع فيه التكبيرُ، إنما التكبيرُ بين القيام وبين الرُّكوعِ، ولا شَكَّ أن هذا القولَ له وجهة مِن النَّظر، لأن التَّكبيرَ علامةٌ على الانتقالِ، فينبغي أن يكون في حالِ الانتقال.
وتكبيرات الانتقال من واجبات الصلاة عند الحنابلة ومن تركها ناسيًا فعليه سجود السهو، ومن عطس أثناء الانتقال من ركن إلى آخر فالواجب في حقه أن ينتظر فراغه من العطاس ثم يكبر تكبيرة الانتقال، فإذا تركها عامدًا فقد بطلت صلاته، وإن تركها جاهلًا فصلاته صحيحة، لكن يلزمه سجود السهو.
جاء في المبدع في شرح المقنع على الفقه الحنبلي متحدثًا عن واجبات الصلاة: من ترك شيئًا منها عمدًا بطلت صلاته؛ لأنها واجبة أشبهت الأركان، ومن تركه سهوًا أو جهلًا، نص عليه سجد للسهو، لأنه عليه السلام لما ترك التشهد الأول سجد له قبل أن يسلم، متفق عليه من حديث عبد الله بن بحينة، ولولا أنه واجب لما سجد لجبره، لأنه لا يزيد في الصلاة زيادة محرمة لجبر ما ليس بواجب، وغير التشهد من الواجبات مقيس عليه.
إن المسلم يردد تكبيرة الانتقال في صلواته الخمس المكتوبة تسعًا وثمانين مرة يوميًا عدا تكبيرة الإحرام، وقد سميت بذلك للتفريق بينها وبين تكبيرة الإحرام التي تكون في ابتداء الصلاة؛ فتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة وتَرْكها مبطل للصلاة- ولو ناسيًا-، بينما تكبيرة النّقل واجبة على أرجح الأقوال، كما هو عند الحنابلة، وإن كان الجمهور يرون استحبابها.
المصادر والمراجع:
- الباحث حسين بن علي الزومي: دراسة عن تكبيرة الانتقال ودلالاتها التربوية.
- البيان: تكبيرة ” الانتقال ” ودلالاتها التربوية.
- إسلام ويب: تكبير الانتقال.. محله.. وما يجب على من أتى به في غير محله.
- الإسلام سؤال وجواب: متى تكون تكبيرات الانتقال في الصلاة ؟.
- موقع الإمام ابن باز: صفة تكبيرات الانتقال في الصلاة.
- إسلام أون لاين: تكبيرات الانتقال في الصلاة.