لا شكّ أنّ الحياة لا تقوم دون مهنة الزراعة التي مارسها الأنبياء واعتمدوا عليها في عملية الرّعي، وهي ليست عيبًا كما هي الصورة النّمطية السائدة عنها اليوم، بل إن الإنسان لا يُمكنه العيش بغير نتاجها، سيما أنّ الأمن الغذائي والاقتصادي في العالم يعتمدان عليها.
إنه من الجميل الخروج مع ابنك أو ابنتك من أجل زراعة نبتة في حديقة البيت أو حديقة عامة، أو أرض قاحلة، والاهتمام معه بما زرعت ومتابعتها بالرعاية والسقاية والتقليم، وبخاصة في زمن عمّ به الاهتمام بالأجهزة التكنولوجية والإلكترونية بشكل لافت.
مفهوم الزراعة
تُعرف الزراعة أو الفلاحة على أنها: عملية إنتاج الغذاء والألياف والعلف وسلع أخرى، عن طريق التربية النظامية للنبات والحيوان، وكلمة زراعة تأتي من الفعل “زَرَعَ” الحبً زرْعًا أي بَذَرهُ.
ومنها حرث الأرض للزّراعة، أي تهيئتها لبَذَر الحب، وعُرفت قديمًا أنها تعني: “علم فلاحة الأراضي”، أمّا الآن مع تغير الأوضاع ودخول تقنيات جديدة وحديثة مطلوبة للزّراعة، فأصبحت تعني كل الأنشطة الأساسية لإنتاج الغذاء والعلف والألياف من تربية ومعالجة الماشية والدواجن.
أهمية الزراعة في الإسلام
وتتمثل أهمية الزراعة في الإسلام، كونها تُعد المصدر الأول والأساسي للمنتجات الغذائية المستهلكة “غير المعمرة” التي نستخدمها يوميًّا، وقد ورد في القرآن الكريم بعضُ الآيات التي تلفت انتباه الناس إلى ذلك؛ منها قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس: 33- 34].
وقال الله- عز وجل-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10- 11].
وقال- تبارك وتعالى-: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام: 99].
وجاءت أحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم- لتَحث المسلمين على زِرَاعة الأرض والاستفادة منها، حتى إذا كان في أحلك الظروف، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها؛ فله بذلك أجر” (رواه البخاري، والإمام أحمد). والفسيلة: النخلة الصغيرة، وكأنه- صلى الله عليه وسلم- يقصد: ليس عليكم ثمرة الجهد، ولكن عليكم الجهد وحده، ابذلوه ولا تتطلعوا إلى نتائجه.
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لا يزرع مسلم زرعا ولا يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”، وفي حديث آخر: “ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس”.
ونهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عن ترك الأرض بورًا من غير زرع، فقال: “من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإنْ أَبَى فليمسك أرضه” (البخاري، ومسلم).
ولما كانت زراعة الأرض عرضة للإصابة بالآفات، مِمَّا يجعل الناس يحجمون عنها إلى غيرها، كما يحدث في بعض المجتمعات الإسلاميَّة الآن، وجدنا رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- يُواسي من يصاب بذلك، ويَحثُّه على البقاء في عمله، حتَّى لا تختل أوضاع المجتمع، فقال: “مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ زَرْعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الْعَوَافِي إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهِ أَجْرًا” المعجم الكبير للطبراني.
وفهم الصحابة والمسلمون الأوائل أهمية زراعة الأرض، فانطلقوا مطبقين لتعاليم الإسلام في هذا الجانب، رَغْم مشاغل بعضهم الجسيمة واستغنائهم، فهذا عثمان بن عفَّان- رضي الله عنه- يقول وقد سُئل: “أتغرس بعد الكبر؟ فقال: لأنْ توافيني السَّاعة وأنا من المصلحين خير من أن توافيني وأنا من المفسدين”، وقيل لأبي الدرداء وهو يغرس جوزة: أتغرس وأنت شيخ، ولا تُطعم إلا بعد عشرين سنة؟، فقال: لا عليَّ بعد أن يكون الأجر لي”.
لماذا اهتم الإسلام بتعليم الزراعة للأبناء؟
لقد أكد الإسلام على أهمية الزراعة، وتعليمها لأبنائنا وتوريثها طرقها لهم؛ لأسباب عديدة نذكر منها ما يلي:
أولًا: لأنها من طُرق عمارة الأرض التي حثّ عليها الدين الإسلامي، وهي هدف أساس بعد عبادة الله وحده.
ثانيًا: تعليم الأبناء الاهتمام بالزّراعة والنباتات معناه الاهتمام بالطبيعة وبجمالها وبمخلوقات الله تعالى الكثيرة والمتعددة، ما يزيد من إيمان الإنسان وتفكره في الكون، وحمد الله تعالى على نعمه الكثيرة.
ثالثًا: يعد ذلك تطبيقا لسنة النبي- صلى الله عليه وسلم-.
رابعًا: ينمي لديهم الحس الوطني والقومي للاهتمام بالجمال في بيوتهم وبلادهم، وبزراعتها والحفاظ عليها خضراء منعشة جميلة.
خامسًا: مصدر دخل قومي مهم وأساس للكثير من البلاد- سابقا واليوم ومستقبلا- وقد يعمل الطفل الذي تعوّد زراعة الأرض وأحبّها مشروعا اقتصاديا في المستقبل، فيسهم في تقدّم بلاده وإعالة نفسه وأهله.
سادسًا: تسهم في حل الكثير من المشكلات اليوم كالاحتباس الحراري، لأنّ الأشجار تنتج الأكسجين وتمتص ثاني أكسيد الكربون، وحل مشكلة المجاعات والفقر والبطالة والتزايد في عدد البشر مع نقص الغذاء، وحل مشكلات اقتصادية قومية كثيرة.
سابعًا: تعلم الأبناء الصبر، فالمزروعات لا تكبر بين يوم وليلة، بل إنها من النشاطات التي تتطلب الصبر والمتابعة والاهتمام بالآخر.
ثامنًا: تعلمهم أن نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع، لا أن نعتمد على الآخر وعلى استيراد كل شيء، فانظر اليوم إلى التحكم الغربي والأجنبي في البلدان العربية نتيجة إهمالها في الصناعات والاختراعات والمشروعات الزراعية، فأصبحت أمة مستهلكة لا منتجة، تقع تحت رحمة الأمم الأخرى بل وتحت أطماع الدول ذات الطموحات التوسعية والاستعمارية.
تاسعًا: تُورث السعادة والمتعة لقيام الأبناء بنشاط مشترك مفيد وممتع، ويجعل بينهم وبين الآباء اهتمامات مشتركة، وهذا الاهتمام يبدأ منذ الصغر، فلا ينتظر الأب ابنه كي يكبر ليشاركه في أعمل الغرس والزرع، فجميع الأبناء قادرون عليه، صغارا وكبارا، ذكورا وإناثا.
عاشرًا: تعليم الأطفال زٍرَاعة المحاصيل في البيت يضمن لنا أن نأكل منتجات نباتية صحية من الفواكه والخضار، وبخاصة مع انتشار الهرمونات في المزروعات التجارية اليوم.
الحادي عشر: تعليم الأبناء الاهتمام بالثروة الحيوانية، لأن جميع الحيوانات تعتمد على النباتات في استمرار حياتها، والثروة الحيوانية مهمة لبقاء الإنسان على قيد الحياة، فهي سلسلة مستمرة.
الثاني عشر: تشجيع الأطفال على العطاء وعلى محبة الآخرين، ومساعدتهم والبعد عن الأنانية، لأنه ليس من الضرورة أنّ ما نزرعه اليوم سوف نأكل منه غدا، فقد نأكل منه نحن أو غيرنا.
من الضروري أن يشرك الآباء أطفالهم في أعمال الزراعة والغرس، لِمَا في ذلك من فوائد تربوية ونفسية وصحية، ومن الممكن أن تُخصص الدولة أيامًا مُعينة من العام تنظمها وتشجع بها المواطنين على الخروج إلى الأماكن العامة الجرداء لزراعتها بالأشجار والنباتات لتصبح بعد سنوات حدائق وبساتين وغابات، وهذا ليس خيالا، بل حقيقة كما يحدث في الدول المتقدمة ذات الطبيعة الخلابة.
ومن الجميل أن تُسهم الأسر والمدارس في الزراعة، وتخصص أيامًا من العام الدراسي لزراعة المدرسة وما حولها، أو زراعة أراضٍ عامة يُسمح بزراعتها، مع تعاهدها بالسّقاية، لتثمر وتنبت بالزرع وتعم الفائدة.