لم يترك المنهج النبوي مشكلة تتعلق بالأسرة المسلمة إلا ووضع لها حلولا ناجعة، حتى وإن كانت مجرد تصحيح أخطاء الأطفال التي تحدث كل يوم بل في كل ساعة، فالخطأ والذنب لا ينفك عنه إنسان، ولا يُستثنى من الوقوع فيه أحد إلا المعصومون من الأنبياء صلوات الله عليهم، فهم معصومون من كبائر الذنوب.
ويرى الباحث التربوى الدكتور عامر الهوشان في دراسة له تهتم بمعالجة الأخطاء التي يقع فيها الصغار، أنّ الأخطاء التي يرتكبها الكبار إن كانت مهمة وخطيرة، فهي للصغار والغلمان أكثر أهمية وأشد خطرًا، لأنّ الصغير إن لم تُصحح أخطاؤه، وتُوجه هفواته وزلاته، قد يظن أنّ هذه الأفعال سليمة، لا شيء فيها، وعند ذلك يُكررها لتُصبح عادة متأصلة في نفسه وحياته.
أسباب أخطاء الأطفال
قبل البدء بمنهج النبي – صلى الله عليه وسلم- بتصحيح أخطاء الأطفال وتقويم هفواتهم وزلاتهم، لا بُد أولا من معرفة الأسباب التي تجعل الطفل يقع في الخطأ، فقد ذكر علماء التربية والسلوك عدة أسباب لذلك منها:
1- الجهل بالشيء وعدم العلم به ذهنيا: وهو ما يُسمى الخطأ الفكري؛ فالطفل لا يعرف أنّ هذا الفعل أو العمل خطأ، ولا يملك فكرة صحيحة عنه، فيتصرّف من نفسه، وعند ذلك يقع في الخطأ.
2- عدم الممارسة والتدريب: وهو ما يُسمى الخطأ العملي، وهنا لا يستطيع الصغير القيام بالفعل على وجه الصحة، لعدم ممارسته لهذا الفعل من قبل، ولعدم التدرب عليه، وعند ذلك يقع في الخطأ.
3- الخطأ المتعمد: وهذا أمر نادر وقليل جدًّا عند الصغار، وهو أن يتعمد الطفل في فعله الخطأ مع علمه بأنه على غير الصواب، ولا بُد في هذه الحالة من علاج خاص وسريع، حتى لا يشكل ذلك خطرًا على الطفل والمجتمع معًا.
المنهج النبوي في تصحيح أخطاء الأطفال
لقد كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- منهج فريد وعظيم في تصحيح أخطاء الأطفال والكبار؛ فكان يتّصف باللين والرفق والرحمة، وهو ما كان له أثر كبير في تقويم السلوك.
فعن معاوية بن الحكم السلمي قال: “بينما أنا أصلي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن” (سنن أبي داود).
وإذا كان توجيه الكبار وتقويم سلوكهم ليس بالأمر اليسير، فإنّ تقويم سلوك الصغار وتصحيح أخطائهم أخطر وأصعب، لأنّ الطفل يحتاج في التوجيه والتقويم إلى طريقة خاصة، وأسلوب تربوي يتناسب مع مداركه العقلية والنفسية، وهذا ما انفرد به رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، الذي ورّث العالم أعظم الوسائل التربوية والسلوكية، التي تصلح لكل زمان ومكان.
لقد اتبع الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم- عدة وسائل في تقويم وتصحيح أخطاء الغلمان، أهمها:
1- التعليم والتنبيه: أي تصحيح الخطأ بتعليم الطفل ما كان يجهله مما كان سببا في وقوعه بالخطأ، وهو ما يسمى التصحيح الفكري للخطأ، فكثيرًا ما يقع الصغير في الخطأ لجهله وعدم علمه، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: أخذ الحسن بن علي – رضي الله عنهما- تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: “كخ كخ” ليطرحها ثمّ قال: “أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة” (البخاري). فقد علّم الرسول الحسن بن علي، أنّ الأنبياء وآل بيت النبوة لا يجوز لهم أن يأكلوا من تمر الصدقة، فصحح له خطأه الذي وقع فيه بسبب عدم العلم.
2- التصحيح العملي لأخطاء الأطفال، فقد يكون خطأ الصغير ناجمًا عن قلة الخبرة العملية، وعدم التدريب الجيد المسبق على الفعل، فعندما يرى الفعل الصحيح عمليًّا، ويحاول بعد ذلك المحاكاة والتدريب، فإنه بذلك سيتدارك الخطأ ويُصححه، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه- قال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مرّ بغلام يسلخ شاة، فقال له: “تنح حتى أريك فإني لا أراك تحسن تسلخ” قال: فأدخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، ثم قال – صلى الله عليه وسلم-: “هكذا يا غلام فاسلخ” ثمّ انطلق فصلى ولم يتوضأ ولم يمس ماء (صحيح ابن حبان).
3- تصحيح خطأ الأطفال باستثمار الأوقات المناسبة، فالطفل عندما يكون في النزهة والطريق، أو عندما يجلس على مائدة الطعام، ينطلق على سجيته وطبعه دون تكلف أو تصنع، فإذا بدرت منه هفوة أو خطأ، فما على المربي والمعلم إلا أن يصحح ويقوم، فهذه الأوقات مناسبة لذلك.
لقد وَرَدَ في صحيح البخاري ومسلم عن أنس – رضي الله عنه-: أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان في بعض أسفاره، وله غلام حبشي مملوك يقال له أنجشة، يحدو لهم ويسوق بهم (أي بالنساء وفيهن أم سليم)، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم- (ويحك يا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير) فقد استثمر الرسول – صلى الله عليه وسلم- الطريق والسفر لتصحيح الخطأ والتوجيه، لأنه أدعى للقبول في نفس الغلام.
4- تصحيح الخطأ بشد الأذن، وهو أسلوب نبوي رائع في تصحيح أخطاء الصغار، وذلك بمداعبة جسدية تتمثل بشد الأذن بشكل لطيف وخفيف، تحمل في طياتها المداعبة والمعاتبة والتأديب، للفت انتباه الغلام بأنّ ما قام به خطأ يستوجب الإقلاع عنه وعدم تكراره.
فعن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: “بت عند خالتي ميمونة، فلما كان بعض الليل قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يصلي، فأتى شنا معلقا فتوضأ وضوءا خفيفا ثم قام فصلى، فقمت فتوضأت وصنعت مثل الذي صنع، ثم قمت عن يساره فحولني عن يمينه، فصلى ما شاء الله ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المؤذن يؤذنه بالصلاة فخرج فصلى وفيه تصحيح لخطأ الغلام الذي التحق بالنبي – صلى الله عليه وسلم-، وصلى خلفه واقفا عن يساره، فصحح له ذلك وجعله يقف عن يمينه لا عن يساره (البخاري).
5- تصحيح الخطأ بالتلميح بالثناء والمدح، فقد كان من عادة الرسول الله – صلى الله عليه وسلم- في تصحيح الأخطاء، أن يبدأ أولا بمدح الغلام والثناء عليه، ليظهر محاسنه وفضائله، وأن الخطأ الذي وقع فيه، لا ينقص من فضله ومكانته، ثمّ يبادر بعد ذلك لتصحيح الخطأ وتقويمه، وبخاصة عندما يكون الموضوع متعلقًا بالنوافل والسنن، لا بالفرائض والواجبات.
أخرج البخاري في صحيحه عن الزهري عن سالم عن أبيه – رضي الله عنه- قال: “كان الرجل في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم-، إذا رأى رؤيا يقصّها على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وكنت غلامًا شابًّا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فرأيت في النوم كأن ملكين أخَذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار قال: فلقينا ملك آخر قال لي: لم ترع. فقصَصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)، فكان بعد (أي عبد الله) لا ينام من الليل إلا قليلا.
6- تصحيح أخطاء الأطفال أو الخطأ بشكل عام وذلك بغض الطرف عنه، فالصغار عادة يحبون اللعب مع أقرانهم، وربما يكون ذلك على حساب عملهم أو خدمتهم لأهاليهم، أو غير ذلك من الواجبات المترتبة عليهم، فالأفضل في مثل هذه الحالات التغاضي والتغافل، فعن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: “خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا أَمَرَنِي بِأَمْرٍ فَتَوَانَيْتُ عَنْهُ أَوْ ضَيَّعْتُهُ فَلَامَنِي، فَإِنْ لَامَنِي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا قَالَ: دَعُوهُ فَلَوْ قُدِّرَ أَوْ قَالَ لَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ كَانَ” (البخاري)، فكثرة اللوم والعتاب على أخطاء الغلام في مثل هذا السن غير مفيدة ولا مثمرة، بل ربما تكون لها نتائج سلبية.
7- تصحيح خطأ بالمداعبة، كان الرسول – صلى الله عليه وسلم- يستخدم أسلوب المداعبة مع الصحابة الكرام، ولعل مداعبته الغلمان كانت الأكثر، بسبب ميلهم لهذا الأسلوب وحبهم له، ورغبة منه – صلى الله عليه وسلم- في التودّد إليهم وتعليمهم وإرشادهم وتصحيح أخطائهم من خلال ذلك. قال أنَس بن مالك – رضي الله عنه-: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي قَالَ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ…” (صحيح مسلم).
8- تصحيح الخطأ بالحوار، فقد يرتكب الغلام والشاب الصغير الخطأ عمدًا تحت ضغط شهواته وأهوائه، ولا سبيل لتصحيح هذا الخطأ إلا بأسلوب الحوار والنقاش الهادئ، كما فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم-، في الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده، مع ذلك الفتى الشاب الذي جاءه يقول: يا رسول الله ائذن لي بالزنا؟!، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا مه مه، فقال: أدنه فدنا منه قريبا، قال فجلس، قال أتحبه لأمك؟! قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم… إلى آخر الحديث”.
الخاتمة
إن تصحيح أخطاء الأطفال وتوجيههم، ليس عملا انتقاميًّا ولا عدائيًّا، وإنما هو عمل تربوي وتعليمي، هدفه الأول والأخير الارتقاء بالأجيال الجديدة إلى المستوى الأخلاقي الإسلامي الرفيع، الذي يجعل من الصغار نواة تقدّم الأمة وازدهارها، وإعادة عزّها ومجدها، في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.
المصادر:
- الهدي النبوي في تصحيح الأخطاء 2-3
- ابن السبكي: تخريج إحياء علوم الدين، 2/411.