شغلت قضية تزكية النفس الكثير من العلماء والعارفين بالله، وهذا لأنّ النّفس دائمًا متقلّبة وبحاجة إلى مَن يُزكّيها ويطهّرها، ويحميها من دنس السّقوط في مراتبٍ لا تليق بالمسلم، ولا تؤهّله للنجاة يوم لقاء الله تعالى.
لذا كانت مهمّة العناية النّفس وتزكيتها محطّ اهتمام النبي- صلّى الله عليه وسلّم-، فكان رغم قدره وقربه من الله- تبارك وتعالى- يدعوه بتطهير نفسه؛ فيقول: “اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها”،(مسلم)، ولمّا كان المُسلم مطالبًا بتحرّي وسائل تطهير النّفس، ومعنيًّا بتحصيل تّزكيتها؛ فقد أسهب العلماء ببيان تلك الوسائل ليستعين بها المسلم.
مفهوم تزكية النفس
التزكية في اللغة مصدر للفعل زكَّى ويقصد به التطهير أو الزيادة والنماء، يُقال زكيت هذا الثوب أي طهرته، ومنه الزكاء أي الطهارة.
وفي الشرع، فإن مفهوم تزكية النفس يعني تطهيرها وتحسينها وإصلاحها، ويكون هذا التطهير والإصلاح بالعمل الصالح، وبالتزام أوامر الله تعالى والابتعاد عن كلِّ ما نهى عنه.
ويشتمل معناها على تطهير النفس من الأدران والأوساخ، حيث يقول صاحب الظلال: التزكي التطهر من كل رجس ودنس، وتنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة.
وشدد الشيخ محمد الغزالي على الربط بين تزكية النفس ووحدة المجتمع فقال: التزكية هي التربية، وكل أمة لا تربى لا خير فيها(1).
تزكية النفس في الإسلام
ولقد جاء الإسلام من أجل مساعدة الناس على بناء أنفسهم، وذلك بتعليمهم مكارم الأخلاق وفضائلها، وتربيتهم عليها، وإرشادهم إلى طُرق كبح الميول والرغبات النفسية المخالفة للعقل والشرع.
لذلك نجد أن الآيات ذات المضمون الأخلاقي في القرآن الكريم أكثر من آيات الأحكام والتشريع، بل القصص القرآنية ذات أهداف أخلاقية.
فقد أقسم الله- عز وجل- إحدى عشرة مرة في سورة لم يتكرر القسم مثلها في القرآن، فقال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا …}، من أجل أن يأتي جواب القسم بعدها في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس:9-10].
فأن يقسم الله تعالى بالنفس بعد هذه الأقسام كلها، إنما دليل على أهميتها وخطرها، بل لفت الانتباه إليها، بدليل أن الله تعالى قد حكم بفلاح مَن يُزكيها، وبفساد مَن يدسيها.
وتطهير النفس من أهم الغايات التي جاء بها النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَللَالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:2]، بل إنه بصلاح القلب يصلح الجسد كله لأنه بصلاحه مصدر نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة (2).
وقد بين الله- جل وعلا- محل أهل التزكية في الآخرة ومآلهم، فقال: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِـحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى} [طه: 75، 76].
أقسام التزكية
وترتكز أقسام تزكية النفس على عنصرين مُهميّن هما التخلية والتحلية؛ تخلية للنفس عن كل الذنوب والسيئات والمعاصي والبليات والقبائح، وتحلية لها بالمكرمات وتنمية المستحسن من الأخلاق والعادات حتى تبلغ بها النفس المطمئنة.
وقد أشار أبو حامد الغزالي- رحمه الله- إلى ذلك بقوله: “جوهر عملية التزكية: الارتقاء بالنفس درجة درجة، من السيئ إلى الحسن ثم ترقيها في مراتب الحسن والصفاء حتى تبلغ أعلى المستويات الإنسانية وأسماها، فتتحول من نفس أمارة بالسوء أو لوامة إلى نفس مطمئنة راضية عن ذاتها مرضية عند مولاها وربها”(3).
وها هو ابن القيم الجوزية يربي نفسه بقانون التخلية والتحلية، فيقول: “وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني تارة، فخلوت يومًا بنفسي فقلت لها: ويحك اسمعي أحدثك إن جمعت شيئًا من وجه فيه شبهة، أفأنت على يقين من إنفاقه؟ قالت: لا.. قلت لها: فالمحنة عند الموت أن يحظى به غيرك ولا تنالين إلا الكدر العاجل والوزر، ويحك اتركي هذا الذي يمنع الورع لأجل الله، أَوَمَا سمعت أن من ترك شيئا لله عوضه الله خير منه”.
وقال: وجدت رأي نفسي في العلم حسنا إلا أني وجدتها واقفةً مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها: فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف؟ أين الحذر؟ أَوَمَا سمعت بأخبار الصالحين في تعبدهم واجتهادهم.. أَوَمَا كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- سيد المرسلين ثم قام حتى تورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر- رضي الله عنه- شجي النشيج كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر- رضي الله عنه- خطان من آثار الدموع؟ (4).
ويهتم ابن القيم بالتربية الروحية للإنسان، فيرى أنها تجعله يقظا بشكل شبه دائم، فتتحول بذلك عاداته إلى عبادات ثم إلى حسنات في ميزان الله- عز وجل-، بخلاف الغافل الذي ربما تتحول عباداته لعادات فلا ينال منها شيء، حيث ذكر بعض أهل العلم “أن عبادات أهل الغفلة عادات وعادات أهل اليقظة عبادات”.
ولقد اعتنى ابن القيم بالإنسان عناية خاصة في العمل على تربيته على حياة قلبه وتزكيته فقال: “فمن صحب الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله فهو الصادق المصيب”(5).
وتعد الصدقة من الأعمال الصالحات المزكيات للنفس، يقول تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ} (الليل: 17-18)، وكذلك الإيمان بالغيب والاعتقاد الجازم بأركان الإيمان الستة، قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّـهِ الْمَصِيرُ} (فاطر:18)(6).
مدى حاجتنا لتزكية النَّفْس
عاشت الأمم منذ أن وطأ آدم- عليه السلام- بقدمه الأرض حياة سعيدة حينما ركنت أنفسهم إلى الله وأحسنوا عبادته واجتهدوا في تزكية أنفسهم، لكن حينما حادوا واتبعوا أهواءهم خربت البلاد والأرض بخراب النفوس وطمعها وبعدها عن دين ربها.
وهو ما جرى مع أمة الإسلام فحينما كانوا قريبين من ربهم كانوا أقوى الأمم، لكن ما إن تسرب الوهن إلى قلوبهم حتى أصبحوا تبعا لغيرهم، وهو ما يجعل تزكية النفس من أهم وسائل قوتها.
فإعادة تربية وتزكية وبناء أنفسنا، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، والحاجة إلى ذلك أصبحت أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء، بسبب كثرة الفتن وشيوع الشهوات، ومحاربة المربين والعلماء، ولأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو عن بناء غيره أعجز(7).
قال الله- عز وجل- عن أهمية تطهر النفس والتحذير من إهمال ذلك: {بلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:49]، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يدعو بقوله: “اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها” (رواه مسلم).
فالواجب على كل مسلم حتى تزكو نفسه أن يستسلم لشرع الله- عز وجل-، بعد أن يمتلأ قلبه بالتوحيد، وأن يكون بين يدي الشارع كالطفل الوليد بين يدي أبويه.
خطوات عملية لتطهير النفس
والعمل على تزكية النفس من الرذيلة، مثل: الرياء، والعجب، والشح، والبخل، والحرص والطمع، والأمن من مكر الله، يحتاج إلى خطوات عملية، منها:
- التوبة، فهي أولى مقامات منازل العبودية عند السالكين، وبها يذوق الإنسان حلاوة الانتقال من التخلية إلى التحلية.
- معرفة موقع النفسِ ودرجتِها سواء كانت نفسًا أمارة بالسوء أو لوامة أو مطمئنة.
- الاعتراف بعيوبها ومجاهدتها، مع مخالفتها والإنكار عليها وعدم تلبية رغباتها لأنها داعية للراحة والعصيان.
- تنمية الصفات الطيبة ورعايتها حتى يكون لها الغلبة، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ” (إسناده حسن).
- الدخول على الله من باب العبودية المحضة، وباب العبودية المحضة هو باب الانكسار والافتقار إلى الله تعالى.
- الإكثار من وعظ النفس وتذكيرها بالموت والدار الآخرة، مع سوء الظن بالنفس والحيلولة بينها وبين الاغترار بالعمل.
- محاسبة النفس وتنقية العمل من حظوظ النفس وشوائب الرياء والتحلي باليقين(8).
- أداء الفرائض، فينبغي على العبد أن يبدأ طريق التزكية بأداء الفرائض على أتم وجه، لتنعكس أثار تلك العبادة إيجابيًّا على سلوكياته وأخلاقه.
- الاستزادة من نوافل الصلاة، والصيام، والصدقات، والذكر والدعاء والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- فهي من أهم الأسباب التي تؤدي إلى محبة الله- عز وجل- وتطهير النفس.
ثمار تطهير النفس
ولتزكية النفس وتطهيرها من السيئات والرذائل ثمار كثيرة، من أهمها:
- الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].
- راحة البال وسكينة القلب وطمأنينته وانشراح الصدر وسعته، يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْـمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَّعَ إيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: ٤]، ويقول- أيضًا-: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125].
- الثبات على الدين والطاعة، لقول الله- جل وعلا-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِـمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
إن تزكية النفس وتطهيرها من الأدران والأوصاف الذميمة وتنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة وتحليتها بذلك، أمر ضروري، ليفوز الإنسان برضا الله- جل وعلا- الذي أقسم على فلاح مَن زكى نفسه.
المصادر والمراجع:
- سيد محمد بن جدو: تزكية النفس.
- عصام بن محمد الشريف: أهمية تزكية النفس، 14 يناير 2017.
- تزكية النفس.. معناها، حكمها، الحاجة إليها: 29 يوليو 2008.
- ابن القيم الجوزية، صيد الخاطر، ص 248.
- ابن القيم الجوزية: مدارج السالكين، الجزء الثاني، دار الآثار للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016، صـ 487.
- وجوب تزكية النفس وتطهيرها: 20 يوليو 2019.
- صغير بن محمد الصغير: خطوات عملية في تزكية النفس، 27 أكتوبر 2019.
1 comments
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ما شاءالله حلوة بكثير. توجيهات جيدة.وبارك الله فيكم