إن تزكية النفس هدف من أهداف الرسالة الخاتمة، قال الله تعالى في شأن بعثة محمدًا- صلى الله عليه وسلم-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2)، واهتم الإسلام بتربية الإنسان على الأعمال الصالحات المزكيات للنفس، وتحدث عنها القرآن الكريم بمفردات عديدة، كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103).
والأعمال الصالحات هي الجامعة لشيئين؛ الأول: أن تكون وَفق الشرع الإسلامي، والثاني: أن يكون المقصود بها مرضاة الله وطاعته، فإذا فقد العمل هذين الشيئين أو أحدهما لم يكن مرضيًّا عند الله، وبالتالي لا أجر فيه ولا ثواب، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، المقصود بالعمل الصالح العمل الصحيح، أي: الموافق للشرع الإسلامي، والخالص لوجه الله تعالى.
ويدخل في ذلك أعمال الجوارح كلها؛ فالأقدام تنتصب قيامًا في الصلاة، والجباه تخر سجودًا فيها، والأيدي تتحرك إنفاقًا، ونحو ذلك من كل ما هو متصل بالجوارح من اللسان والعين والأذن، كلٌّ بما فيه مما وردت به أنواع العبادات المختلفة، بل إن شمول هذا العمل الصالح يتجاوز الحياة الدنيا كلها إلى ما وراءها؛ فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له” (مسلم).
الأعمال الصالحات في القرآن
يحرص الإنسان في حياته على صحة جسمه، فيأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى ذلك، ويحرص العاقل على سلامة نفسه، فيزكيها بتطهيرها من الذنوب، وتنميتها بفعل الخيرات والطاعات قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ﴿١٤﴾ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ} (الأعلى: 14-15)، ومن هذه الأعمال الصالحات المزكيات للنفس:
1- ذكر الله: فالمسلم يزكي نفسه بذكر الله وأقام الصلاة، ولعل التسبيح الذي يتكرر كثيرًا في ركوع الصلاة وسجودها،: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴿١﴾ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ} (الأعلى: 1-2)، وبما أن التسبيح له أهمية في تزكية النفس، أمر الله به في القرآن في مواضع عدة منها قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴿٤١﴾ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الأحزاب: 42).
2- الصدقة: ومن الأعمال الصالحة التي تزكي النفس وتبعد عن النار- الصدقة لوجه الله تعالى الذي قال في كتابه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ﴿١٧﴾ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ﴿١٨﴾ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ﴿١٩﴾ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ﴿٢٠﴾ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ} (الليل: 17-21).
3- الإيمان بالغيب: ومما يزكي النفس الإيمان بالغيب، والاعتقاد الجازم بأركان الإيمان الستة، فالإيمان بالغيب يعمق المراقبة في نفس المسلم لله تعالى، ويعيش المؤمن وهو يشعر أن الله يسمعه ويراه، ويعتقد أن الله سيحاسبه على أعماله، فيخشاه، ويقيم صلاته على أحسن وجه، ويعبد ربه كأنه يراه.. قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّـهِ الْمَصِيرُ} (فاطر:18).
وقد بشر الله تعالى كل مؤمن (يتزكى) بالفلاح ودخول الجنة فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ} (الأعلى: 14). وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (الشمس: 9)، فدلت الآيتان وغيرهما أن المفلح هو من زكى نفسه، أي نماها وأعلاها بالطاعة والصدقة واصطناع المعروف، وهو من عالج نفسه بالمجاهدة والتزكية إلى أن دخل دائرة الفلاح.
وجزاء المفلحين الذين تزكوا، هو دخول الجنة خالدين فيها يتنعمون: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَـٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ ﴿٧٥﴾ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ} (طه: 57-76).
ويحتاج المسلم إلى مَن يأخذ بيده إلى طريق التزكية، ويبصره بسبيلها، ومما يؤكد ذلك قصة ابن أم مكتوم الذي جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليتزكى، قال الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴿١﴾ أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴿٢﴾ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴿٣﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ} (عبس:1-4).
ومن الأمور المهمة في دعوة الرسل- عليهم السلام- التزكية، فقد أمر الله عز وجل سيدنا موسي عليه السلام بالذهاب إلى فرعون، لدعوته كي يزكى نفسه ويطهرها من الذنوب والآيات، ويؤمن بالله ويطيعه ويخشاه، فقال عن ذلك: {اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ﴿١٧﴾ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ ﴿١٨﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ} (النازعات:17-19).
وأكد القرآن مهمة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- في تزكية النفوس فقال في آياته: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة:2)، و{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164).
شروط العمل الصالح
ولا بُد من الانتباه إلى شروط الأعمال الصالحات التي بيَّنها الله تعالى في كتابه وأخبرنا بها نبيه-صلى الله عليه وسلم- في سنته؛ وهي:
- الشرط الأول، الإسلام: وهو الإقرار لله تعالى بالوحدانية ولنبيه- صلى الله عليه وسلم- بالرسالة؛ لذا فالكفار لا قيمة لأعمالهم في الآخرة، وإن كانوا يجازَون عليها في الدنيا؛ قال الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15، 16]. قال القاضي عياض- رحمه الله تعالى-: “وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذابًا من بعض بحسب جرائمهم”.
- الشرط الثاني، الإخلاص لله تعالى: وهو أن يكون قصده وجه الله لا الدنيا ولا الرياء ولا طلب المحمدة من الشهرة؛ قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وعند مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه”.
- الشرط الثالث، الاتباع: وهو موافقة العمل لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي- صلى الله عليه وسلم- قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني” (البخاري).
ثمرات العمل الصالح
وثمرات الأعمال الصالحات كثيرة في الدنيا والآخرة، كما ذكر ذلك القرآن الكريم، ومن ذلك:
- الثواب في الآخرة: يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281]؛ ففي هذه الآية نصٌّ على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال، وأن ما عدا العمل يتلاشى.
- السعادة والحياة الطيبة: وهي الغاية التي يبحث عنها جميع البشر على اختلاف معتقداتهم ومع اختلاف لغاتهم، ولا تكون إلا في طاعة الله وطاعة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، والمسارعة إلى كل عمل يحبه الله ويرضاه؛ قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].
- حفظ الأهل والذرية والأموال: فتأمين مستقبل الأبناء، ليس بكثرة الأموال أو الأطيان أو العقارات، وإنما يكون بطاعة رب الأرض والسماوات، قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9].
- سبب لتفريج الهموم وكشف الغموم وقضاء الحاجات: فالعمل الصالح يجده الإنسان في الكربات والشدائد والمصائب، وهو ما ظهر في قصة ثلاثة بني إسرائيل الذين دخلوا الغار فأُطبق عليهم، لكن عملهم الصالح كان له أثرٌ عظيم في نجاتهم من الهلاك.
- محبة الله عز وجل والقرب منه: فالعمل الصالح سبب لحب الله عز وجل لعبده وحمايته وحفظه له؛ فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: “إيقولُ اللهُ تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربةِ، وما تقرب إليّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضته عليه، ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليّ بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبصِرُ به ويدَه التي يَبطشُ بها ورجلَه التي يمشي بها، فبي يسمعُ وبي يُبصرُ وبي يَبطشُ وبي يمشي، ولئن سألني لأُعطينه ولئن استعاذني لأُعيذنه، وما ترددت في شيءٍ أنا فاعلُه ترددي في قبضِ نفسِ عبدي المؤمنِ يكرهُ الموتَ وأكرهُ مساءتَه ولابدَّ له منه” (البخاري).
- العمل الصالح يورث الود في قلوب الخلق، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96].
إنّ الأعمال الصالحات هي ما كانت مُوافقة للشرع، ويكون صاحبها مُخلصًا لربه تبارك وتعالى، وهي ركن من أركان الإيمان، وشاهد على سلامة التوحيد، فلا دلالة أو علامة تُمثل معنى الشهادتين في الواقع إلا سلوك الإنسان وتصرفاته وأخلاقه، والالتزام والتقيد بالأوامر، والامتناع عن المنكرات والزواجر، فكل عمل صالح شاهد حقٍّ على استقرار الإيمان في القلب، بل هو ثمرة من ثمرات الإيمان بالله تعالى.
المصادر والمراجع:
- الأعمال الصالحة في الميزان
- العمل الصالح وثمراته في الدنيا والآخرة
- ما هو العمل الصالح؟
- الأعمال الصالحة
- ما هى الأعمال الصالحات؟
- أحمد حسن الخميسي: دراسة عن تزكية النفس بالأعمال الصالحات