مِن نِعم الله – عز وجل – على الإنسان، أن بيّن له أُسُس تربية النفس وإصلاحها، لتكون قادرة على مواجهة الشهوانية بالتعفّف، واﻷنانية بالإيثار، والتكبر بالتواضع، والشح بالإنفاق، بل وتحويل كل مذمومٍ وشرٍّ كامنٍ أو ظاهر إلى خيرٍ وفيرٍ، وأخلاق حسنة تكون المصدر الأساسي للنجاح والتفوق والعيش في سلام نفسي وجسدي.
ومن أجل تهذيب وتربية النفس وضع الإسلام الأُسس، والأخلاق، والقيم الربانية التي تُخلِي وتُحلِّي، لبناء إنسان نقي يتحمل ضغوط الحياة والابتلاءات النفسية والجسدية. وقد كان الإيمان والعبادة والعمل مثلث القوة الذي يستند إليه الفرد المسلم، فيُواجه بهم كل حزن وأرق وتوتر، وينعم بحياة قرآنية عنوانها الشفاء والرحمة، يقول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، ويقول – عز وجل -: {… سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].
مفهوم تربية النفس
ويأتي مفهوم تربية النفس ليؤكد ضرورة الاهتمام بهذا الأمر، لصلاح النفس وطمأنينة القلب، حيث إن التربية مصدر للفعل (ربّى) الذي يدلّ جذره على الزيادة والنّماء والعلوّ وفقًا لمعجَم مقاييس اللغة لابن فارس، كما أن كلمة التّربية تدلّ على التهذيب وعلوّ المنزلة.
أمّا التعريف الاصطلاحي، فيختلف تبعًا للرؤية الفلسفية التي ينطلق منها، والتي تتبعها الجماعات الإنسانية في تنشئة أجيَالها لترسِيخ قيمها وثقافتها وآرائها، ومن ذلك فإنّ التّربية للنّفس تعني رعاية الإنسان لنفسه وتهذيبها، لتنمو وتعلو وتزدهر تماما كما يحمل المعنى اللغوي للتربية.
تربية النفس بالإيمان
لقد حدّد الشرع الحكيم في آيات القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى – عليه أفضل الصلاة والسلام – ما يُكوّن شخصية الإنسان المسلم ويعمل على تربية النفس وتنميتها والارتقاء بها من خلال الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، والقدر خيره وشره، حلوه ومره.
يقول المولى – عز وجل -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، ويقول – أيضا -: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، لذلك كان الإيمان الحق هو أقوى دعائم مواجهة مصائب الحياة وكروبها وضغوطها.
وضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المَثَل ومَن مَعه من صحابته الكرام نماذج حية باقية لكيفية ترجمة الإيمان إلى دستور حياة، لذا قالت عنه أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – : “كان خلقه القرآن” (صحيح الجامع).
وحتى يضمن سلامة صدر أصحابه، من الذين هاجروا معه إلى المدينة المنورة، ربط – صلى الله عليه وسلم – حب الأنصار بالإيمان، فقال: “آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار” (صحيح البخاري).
وعلينا نحن المسلمون الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه الكرام، وأن نجعل من إيماننا بالله قارب النجاة من كل ما تواجهنا به الأيام من ضغوط وكروب، ولا بُد من إدخَال المكون الديني الإيماني في برامِج مواجهة الضغوط النفسية، والإرشاد النفسي التي تقدم للذين يعانون من ضغوط الحل والعلاج.
ومن أهم معالم الإيمان بالله والتوكل عليه والفزع إليه، الوقاية من الاضطرابات الناجمة عن الضغوط النفسية، والوقاية خير من العلاج، فقد كان التمسك بالدين قولا وعملا هو طريق النجاة والخلاص، وكان نتاج الإيمان بالله، والتمسك بمنهجه، بناء شخصية سوية، وصادقة، وأمينة، ورحيمة، ومطمئنة، ومؤثرة ، وراضية مرضية.
تربية النفس بالعبادة
إن الإنسان في حاجة دائمة إلى نوعين من الغذاء؛ مادي لتلبية مطالبه الجسدية، وروحي لتلبية مطالبه الروحية، وبما أن الجسد من الأرض فغذاؤُه من طعام وشراب، أما الروح التي من نور الله، فغذاؤُها من نور الله وروحه.
هذا الغذاء النوراني الروحاني قد أنزله الله تعالى إلى الناس على يد أنبيائه؛ فكلام الله تعالى نور وذكره وعبادته نور وضياء، قال تعالى: {…قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 – 16].
وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].
وقال جل في علاه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى: 52].
فهذا النور الذي جاء من عند الله، وأوحَاه إلى رسوله، صلى الله عليه وسلم، هو الغذاء الروحي الذي يحفظ للإنسان التوازن في حياته، ولأهمية هذا الغذاء الروحي في حياة الإنسان، تولى الله ـ سبحانه ـ ورسوله وضع نظامه، فحدد مقاديره الضرورية التي لا يجوز أن ينقص منها شيء.
وفرض الله تعالى على الناس فرائض وعبادات، وحدَّ حدودًا، ونهى عن تضييع شيء منها، فالصلاةٍ والصيامٍ والزكاةٍ والحجٍّ، أساس التوحيد، وأركان الإسلام وقواعده المتينة، التي حافظ عليها النبي وأصحابه لآخر نفس في حياتهم، وما ضيّعهم إنسان إلا وتبدلت نفسه من الاستقرار إلى التيه والتوتر والقلق.
طلب العلم وبناء النفس
كانت أول آية من القرآن نزلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ومن ثمّ فإن الإسلام دين العلم. وقد وردت آيات كثيرة تحض على العلم وتحبّذه وترغب فيه وتبين فضله، قال تعالى: {… قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقد ورد عن الرسول الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – أحاديث كثيرة تُؤيد المعنى نفسه منها: “من سلك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا؛ سلك اللهُ به طريقًا من طرُقِ الجنَّةِ، والملائكةُ تضعُ أجنحتَها رضًا بما يصنع طالبِ العلمِ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السَّماواتِ ومن في الأرضِ، والِحيتانُ في الماءِ، وفضلُ العالِمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ، إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وأَوْرثوا العلمَ، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ” (أبو داود والترمذي).
لذا اهتم الصحابة الكرام بالعلم وأخذه بقوة، فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه -، قال: “والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه” (البخاري ومسلم).
من هنا فإن طلب العلم – الديني والدنيوي – من مفاتيح تربية النفس وإصلاحها، وصمودها في وجه المخاطر، ومواجهة الضغوط والابتلاءات التي يُمكن أن تعصف بالإنسان فتهلكه بعد أن تنفد طاقته وتخور قواه.
وأكدت دراسات عديدة أنه كلما ارتفع مستوى العلم والتدين انخفضت الأعراض النفسية الخطيرة، مثل: القلق، والاكتئاب، وانخفَض في الوقت نفسه، مستوى الأمراض الجسدية المرتبطة بالضغوط النفسية مثل: أمراض النوبات القلبية وارتفاع ضغط الدم، واضطراب النبض والذبحات الصدرية، وأمراض الجهاز الهضمي وغيرها.
المصادر
1- محمد قطب، دراسات في النفس الإنسانية صـ 29.
2- أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، معجم مقاييس اللغة، جزء 2، صـ 483.
3- أبو علي التنوخي: الفرج بعد الشدة . بيروت: دار صادر للطباعة والنشر، 1978.
4- جمعه سيد يوسف: التوافق النفسي. القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 1990.
5- جمعة سيد سيف: إدارة ضغوط العمل. القاهرة: دار ايتراك للطباعة والنشر، 2004.
6- عبد الرحمن سليمان الطريري: الضغط النفسي، مفهومه، تشخيصه، طرق علاجه ومقاومته. الرياض: مكتبة الصفحات الذهبية، 1994.
7- فخر الدين الرازی: عجائب القرآن. بيروت: دار الكتب العلمية، 1984.
8- مصطفی محمود: علم نفس قرآني جديد. القاهرة: كتاب اليوم، دار أخبار اليوم، عدد أغسطس 1998.