خَلَقَ الله- سبحانه تعالى- الإنسان وأودع فيه المشاعر والأحاسيس، وجعلها من أهم مُحرّكات السلوك، حتى إن الطفل الذي لا يُدرك الأمور العقلية ومدلولاتها في بداية عمره، يستوعب إلى حدٍّ ما بعض العواطف ويتأثر بها.
وليست الأفكار أو الخبرات وحدها هي التي تُحدد توجهات الإنسان وترسم سلوكه أو تُعبِّر عنه وعن شخصيته، لكن المشاعر لها دور كبير في إبراز ذلك، حيث تُسهم بشكل كبير في نجاحه أو فشله، وإذا أحسن توظيفها بصورة إيجابية أصبحت مُحفزة للهِمّة ومُفجرة للطاقة ودَاعمة للاستقرار النفسي وبناء الشخصية السوية.
مفهوم المشاعر
المشاعر جمع مَشْعَر [ش ع ر] وهي جملة من الأحاسيس تنتاب الإنسان، قد تكون مرغوبة أو غير مرغوبة، وتُصاحبها تعبيرات جسدية مُتعددة تتفاوت فترة وجودها؛ فقد تستمر للحظات، وقد تبقى لأطول من ذلك كشهور أو سنين، لكونها المترجم الروحي لأي مشهد أو حدث تشاهده العين، وتسمعه الأذن، فهي عبارة عن ردة فعل لا إرادية.
وفي علم النفس تعد حالة يميزها النشاط العقلي، وغالبًا ترتبط بالحالة النفسية والشخصية للإنسان (1).
المشاعر في الإسلام
احتلت المشاعر حيزًا كبيرًا في الإسلام الذي اهتم بها وعني برعايتها وإشباعها؛ حتى إنه عدها جزءا أصيلا في إيمان المرء لا يكتمل إلا به ولا ينمو إلا بنمائه؛ فالحب والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.
لذا، حثّ المسلمين على ضرورة مراعاة عمق المشاعر الإنسانية في كل ما يصدر من الإنسان تجاه الآخر، وتضمنت التوجيهات القرآنية أن يعمل المرء على انتقاء تصرفاته وسلوكاته وأقواله كافة، حتى إشاراته ليتجنب ما قد يؤثر منها على مشاعر الآخرين سلبًا.
بل رأينا القرآن وكيف حذّر الأبناء من مُجرّد قول كلمة (أف) للوالدين؛ حتى لا تتحطم مشاعرهم التي أفاضوا بها على أبنائهم طيلة حياتهم ما بين خوف ورجاء.
وكان حرص الإسلام على مُراعاة الأحاسيس ومشاعر الآخرين غاية أن تسود مشاعر الحب والود والألفة بين الناس، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “المؤمِنُ يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ، ولا خيرَ فيمَنْ لا يألَفُ ولا يؤلَفُ، وخيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ” (إسناده حسن) (2).
واهتم النبي– صلى الله عليه وسلم- بنفسية ومشاعر أصحابه، فلم نره يتعامل معها بجمود أو بجفاء، لكنه حرص على إشباع عواطفها وترضية خواطرها، وتوضيح الملتبس عليها حتى تهدأ نفوسهم.
ففي الحديبية حينما عاد الصحابة بمشاعر جيّاشة أليمة، كونهم لم يُحاربوا الكفّار وينتصروا عليهم، ولم يدخلوا مكة لأداء العمرة، بل وضعت لهم شروط واتفاقيات مع كفار قريش، رجعوا بسببها إلى المدينة من غير أن ينالوا شيئًا، وكان في بعض هذه الشروط، ما يظنه الرجل الذي ينظر إلى ظاهر الأمر دون تمعُّن، أن فيها ظُلمًا للمسلمين، فرجعوا وهم في غاية من الحزن والكآبة، واستشعر النبي- صلى الله عليه وسلم- ما يجيش في صدورهم، فأنزل الله- سبحانه وتعالى- قرآنًا مطيبًا خواطرهم، فقال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} حتى {فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:1- 5] حتى وصفها النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “لقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هي أَحَبُّ إلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا” (صحيح مسلم).
ومن أبرز المواقف موقفه- صلى الله عليه وسلم- مع عبد الله بن أم مكتوم (ذلك الرجل الأعمى) الذي جاءه وحوله لفيف من زعماء قريش يسأله أن يعلمه الإسلام، فعبس النبي- صلى الله عليه وسلم- بوجهه، وأعرض عنه دون أن يراه ابن أم مكتوم، لكن الله عاتب رسوله- صلى الله عليه وسلم، وأنزل قرآنا يُتلى ويُعلّم الأمة مراعاة مشاعر الناس وأحاسيسهم وجبر خواطرهم.
وكان من رفيع خُلُق النبي- صلى الله عليه وسلم- عدم معاتبة المخطئ بتوجيه النقد المباشر له، لكن كان يُعبّر عتابه بقوله: “ما بال أقوام”، فعن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- تقول عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: “كان إذا بلغه عنِ الرَّجِلِ شيءٌ لم يقلْ: ما بالُ فلانٍ يقولُ؟ ولكن يقولُ: ما بالُ أقوامٍ يقولونَ كذَا وكذَا” (صحيح أبو داود).
ولا ننسى موقفه مع الرجل الذي بال في المسجد وتكالب عليه الصحابة لنهره، فمنعهم النبي- صلى الله عليه وسلم-حتى لا يفزع الرجل، ووجّه له النصح بلطف قائلًا: “إنَّ هذِه المَساجِدَ لا تَصْلُحُ لِشيءٍ مِن هذا البَوْلِ، ولا القَذَرِ إنَّما هي لِذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والصَّلاةِ وقِراءَةِ القُرْآنِ” (صحيح مسلم) (3).
أهمية المشاعر في العمل التربوي
المشاعر ليست مصدرًا شخصيًا لأي إنسان، لكنها كالنسيم الفواح الذي ينتشر ويتأثر به الجميع، وهي من أهم الأدوات المؤثرة في العمل التربوي، لهذه الأسباب:
- الأخوة الفردية الخاصة التي تربط بين المربي والمتربي هي إحدى أهم جوانب العلاقة المميزة بين الطرفين، وإن للعاطفة الجياشة التي يستشعرها المتربي من مربيه دور كبير في نجاح العلاقة التربوية واستقرارها.
- التماس العذر عن أي خلل أو تقصير قد يحدث من جانب المربي في حقه هو الأصل في التعامل.
- شعور الأفراد بالأمان مع مربيهم بسبب الارتباط الأخوي من الأحاسيس المؤثرة إلى حد كبير في ضبط الاستقرار النفسي لدى المتربين.
لكن لا ينبغي أن تقف تلك المحبة والعلاقة الأخوية عند حدود الأحاسيس القلبية وكلمات المودة؛ دون أن تُتَرجَم إلى مواقف عملية يستشعر منها المتربي صدق المحبة ودفء الأخوة مع مربيه.
والمَشَاعِر من الأمور المهمة في حسن تربية الأبناء أو تدميرهم، فالمشكلة التربوية التي نعانيها اليوم تجاه المشاعر هي الإفراط أو التفريط، فبعض الآباء والمعلمين يغالون فيها، ويعطي الابن أو الطالب فوق اللازم.
إن النفوس، وبخاصة نفوس الصغار والأبناء والطلاب تحتاج إلى نوع من الحنان والعطف والتبادل العاطفي (4).
علاقة المشاعر بالسلوك الإنساني
لا تنفك المشاعر عن سلوك الإنسان وشخصيته، فما نحمله من مشاعر ينعكس مباشرةً على كثير من خياراتنا وقراراتنا، وهو المعنى الذي ذكره الإمام ابن تيمية بقوله: “وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يُوجب للقلب شعورًا وأحوالًا”.
فهناك علاقة تبادلية بين المَشَاعِر والسلوك، فالسلوك الذي يصدر عن الإنسان يكمن خلفه مسببات ودوافع، وهذه الدوافع تهدف لإشباع إحدى حاجات الإنسان، وإشباع تلك الدوافع يكون بحدود الشرع الحنيف؛ فتتحول الأفكار مع الأيام إلى معتقدات وقيم راسخة، تترجم في نفس الإنسان إلى مشاعر، والمَشَاعِر تَصنع وتولد السلوك.
من خلال السلوكات والانفعالات المصاحبة للمَشَاعِر يستطيع الشخص التعبير عما في داخله وعن حاجاته، فالانفعالات السلوكية هي مؤشرات على المَشَاعِر، وأيضا لها دور كبير في رسم علاقات الإنسان الخارجية ومواقفه وسلوكاته تجاه الآخرين، كما أن الأحداث والسلوكات التي يتعرض لها الشخص وتدخل إليه عبر منافذ المعرفة (الحواس الخمس) وما يتبعها من شعور باللذة أو الألم تنعكس أيضًا على مشاعر الإنسان، وتؤثر على ردة فعله وسلوكه، وتمثل المَشَاعِر المتفلتة التي تسيطر على صاحبها دون أن يسيطر هو عليها عائقا كبيرًا أمام تقدمه (5).
أخطاء مدمرة لمشاعر المتربي
(اللي انكسر مبيتصلحش) مثل شعبي مصري يُعبر عن جرح المشاعر وخطرها على الإنسان، فلربما يظن المربي بكلامه أو موقفه أنه يصلح المتربي وفي الحقيقة فإنه يُدمره، لذا على المربي الحذر من:
- تمييز بعض المتربين والتعلق بهم وتقريبهم وتخصيصهم بمزيد اهتمام يفوق بقية أقرانهم.
- الاستخفاف بمشاعر المتربي أو مخاوفه أو بموضوع يراه المربي تافها ويراه المتربي مصدر سعادة له.
- تخويف المتربي من أمورٍ قد تكون سخيفةً في نظر الكبار، لكنها جادّةٌ بالنسبة للصغار، فالضحك عليهم وإغاظتهم لا يُساعد في بناء مشاعر إيجابية لديهم.
- غرس مشاعر الضعف في نفس المتربي من خلال ترديد بعض العبارات التي تصف حاله بغض النظر عن واقعيتها نحو: “مسكين، وضعيف، ومظلوم، والكل يتعدى على حقوقه” (6).
كيفية تربية مشاعر الأطفال
ويمكن تربية المشاعر لدى الأطفال، بتعليمهم أنّ طريقة التعبير عن الأحاسيس تنعكس على المناخ الاجتماعي له سواء كان ودودًا أو غضوبًا، وذلك من خلال:
- إكساب الطفل مهارة تفهم مشاعر وعواطف الآخرين وقراءتها واحترامها وعدم الاستخفاف بها مصداقًا لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم”.
- تشجيع الطفل على إبداء الأحاسيس والعواطف للآخرين بطريقة إيجابية، فقد ورد أنَّ رجلًا كان عند النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فمر به رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ! إني لأحبّ هذا. فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أعلمتَه؟ قال: لا! قال: أعلِمه، قال: فلحقه، فقال: إني أحبُّك في اللهِ، فقال: أحبَّك الذي أحببتَني له.
- تعويد الطفل الاندماج في المجتمع والتواصل مع محيطه وبيئته من الأرحام والأقارب والجيران، وأداء الصلاة مع الجماعة والمساهمة في الأعمال التطوعية ما يُكسبه الشعور بقوة الجماعة وعواطفها المشتركة (7).
أخيرًا
فإن المشاعر من أهم المحركات السلوكية لدى الكبار والصغار؛ لذا كانت عملية تربية المشاعر أساسا في توجيه سلوك الفرد والمجتمع، وإهمالها يتسبب في اضطراب نفسي، وفشل في الحياة وتدميرها، وهو ما يعود بالسلب على المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
المصادر والمراجع:
- أمل سالم: ما هي أنواع المشاعر الإنسانية، 29 أغسطس 2018،
- محمد المحمدي ماضي: الإسلام ومراعاة عمق المشاعر الإنسانية، ديسمبر 2014،
- السيرة النبوية ومراعاة مشاعر الناس: 29 يوليو 2015،
- محمد عادل: أهمية المشاعر في العمل التربوي، 26 أكتوبر 2010،
- ياسر بن مصطفى الشلبي: تربية المشاعر، 27 أغسطس 2020،
- تربية المشاعر: المرجع السابق
- عبدالرحمن النحلاوي: أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، طـ25، دار الفكر، 2007، صـ35.