توصّلت نتائج عديدة لبحوث عن النفس البشرية إلى أهمية تربية الجنين في بطن أمه، وأثر ذلك على النمو النفسي للإنسان خلال المراحل العمرية المختلفة، وأنّ المرحلة الجنينية هي أخطر مراحل الإنسان، لأنها مرحلة تكوين معظم أعضائه وأجهزته المختلفة، بل وكثير من صفاته النفسية، وأي اختلال فيها يؤثر غالبًا في المراحل التالية، كما أنها أسرع مرحلة نموًّا.
وقد أعدّت الدكتورة عزة بنت عابس بن محمد الشهري، بحثًا عرضت من خلاله مبادئ التربية النفسية في الإسلام خلال مرحلة الجنين وطُرق تطبيقها داخل الأسرة، حيث اهتم الإسلام بالجنين وعدّه كائنًا مستقلًا من حيث حقه في الحصول على نمو نفسي سوي؛ ووضَع مبادئ للتربية النفسية خاصة به، تتعلق معظمها بالأم.
تربية الجنين في الإسلام
تتمركز تربية الجنين في الإسلام حول الحفاظ على سلامته الجسدية والنفسية من خلال الأم التي تحمل إليه الغذاء، لذا فإن العناية بها وبغذائها أمر ضروري لا يمكن التهاون فيه، وعلى الجانب الآخر فإن الاعتناء بحالة الأم النفسية لا تقل أهمية عن توفير الغذاء لها.
ووصف القرآن الكريم فترة الحمل والولادة بأنها كره “أي مشقة”، ووهن “أي ضعف” إذ قال سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، وقال – عز وجل-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، وفي الآيتين ما يدل على المشقة التي تواجهها الأم في حملها، لذل لا بد من الاعتناء بصحتها في هذه المرحلة، وحتى بعد الولادة والانتهاء من الرضاعة.
ولقد أباح النبي – صلى الله عليه وسلم- الفِطر للمرأة الحامل، حماية لها ولجنينها، فقد روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالكٍ عن رجل من بني عبد الله بن كعبٍ، قال: أغارت علينا خيل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فأتيته وهو يتغدى، فقال: “ادنُ فكُلْ”، قلت: إني صائم، قال: “اجلس أحدثك عن الصوم أو الصيام، إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم”.
وضمن الإسلام حقوق الجنين المادية، وهي التي يكتسبها بالشرع، سواء كانت مالًا أو عينًا، فقد ذهب الفقهاء إلى استحقاق الجنين للإرث بشرطين، التيقن من وجوده في بطن أمه عند موت مورِّثه، وانفصال الجنين عن أمه حيًّا، ولو لحظة واحدة، وذلك بصُراخِه، أو ما يدل على حياته، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا استهل المولود، ورِث” (صحيح أبي داود).
كما اتفق الفقهاء على جواز الوصية للجنين بشرطين، أن يكون موجودًا في بطن أمه وقت الوصية، فإذا لم يكن موجودًا، كانت هذه الوصية باطلة، وأن ينفصل الجنين عن أمه وهو على قيد الحياة.
بل تجوز الهبة للجنين؛ لأن نفعها خاص به، فإذا وُلد حيًّا كان الشيء الموهوب له، ولو مات بعد ولادته حيًّا، انتقل المال إلى ورثته، وأما إذا ولد ميتًا، اعتبرت الهبة كأن لم تكُنْ، ويقر المال ملكًا للواهب.
حقائق علمية في تربية الجنين
قدّم الإسلام حقائق علمية عن تربية الجنين في بطن أمه، ولا بُد من كل مسلم الانتباه إليها والامتثال إلى أوامر الله – عز وجل- الذي قال: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى: 49 و50]، ومن الحقائق:
تكوين الجنين آية من آيات الله في الخلق.
وجود الجنين ونوعه خاضع لإرادة الله وقسمته في عباده.
للجنين أطوار نمو متدرجة.
الجنين يتكون في ثلاث مناطق مظلمة في الرحم.
تطبيقات عملية
وقبل التفكير في تربية الجنين والاهتمام بمراحِل حياته العمرية، يجب على الزوجين الانتباه إلى هذه النقاط العملية:
عدم إغفال الدعاء قبل الجماع.
كثرة الصلاة والدعاء لله وسؤاله صلاح الذرية وسلامتها من العاهات والأمراض.
الرضا بما قسمه الله، ذكرًا كان أو أنثى.
عدم تفضيل جنس معين، فزيادةً على أنّ في هذا اعتراض على قضاء الله، فإنّ له تأثيراته الواضحة على النمو النفسي للطفل.
تخصيص صندوق صغير في البيت لوضع مبلغ يومي فيه ويُحصّل آخر الشهر ويدفع للجمعيات والمحتاجين، بنية صلاح الذرية وسلامتها من الأمراض.
تطبيقات تربوية
على الزوج إشباع حاجة زوجته للحب والرعاية النفسية، وبخاصة في فترة الحمل التي تتغير فيها الهرمونات، فلا بُد من إسْماعها الكلمات الجميلة، والتعامل معها باحترام وحب، لما لذلك من أهمية في تربية الجنين وسلامته الجسدية والنفسية.
كما على الزوج الصبر واحتساب الأجر في مراعاة الحالة النفسية للزوجة.
وعلى الحامل تفادي الانفعالات السلبية، مثل: الغضب، والقلق، والتوتر؛ لأن لها دور غير مباشر في نمو الجنين وسلامة صحته، فعليها أن تكون سعيدة وراضية ومطمئنة حتى تسعد جنينها.
ويجب أن يكون اتجاه الأم نحو حملها أو نظرتها لجنينها تتسم بالسرور والاستبشار؛ لأنها حين تكون غير راضية عن هذا الحمل فإن هذا سيؤثر على نفسية الجنين وصحته.
أثبتت الأبحاث والتجارب استجابة الجنين للمؤثرات الخارجية؛ لذا على الوالدين ضرورة التحدث مع الجنين وإسْماعه كلمات الحب ولمسات الحنان، وقراءة الأم القرآن الكريم.
ومن الأساليب التي تزيد الألفة والمحبة بين أفراد الأسرة الواحدة اختيار أوقات مناسبة لإشراك الجميع في الحديث عن الجنين ووضعه، والتحدث إليه وتهيئة الجو بقدومه والمشاركة في شراء حاجاته ومستلزماته بعد ولادته.
ويجب على الزوج أن يكون قريبًا من زوجته، خصوصًا في الأيام الأخيرة من حملها.
الحفاظ على الجسد والعقل
إن تربية الجنين في بطن أمه لا تنفك عن ضرورة الحفاظ على الجسد والعقل، فيتوجّب على الحامل أن تأكل ما يُفيدها ويُفيد جنينها، وتهتم بصحتها الجسدية والنفسية؛ لأن الجنين يستمد منها مقومات الحياة السليمة والصحيحة.
وعلى الحامل أن تضع نفسها تحت إشراف طبيبة مختصة، تتابع حملها وتُجري لها الفحوصات اللازمة وتصف لها الأدوية المناسبة والمكملات الغذائية المفيدة لها ولجنينها.
وتحتاج الحامل للراحة النفسية، لذا يجب على زوجها وبقية أفراد أسرتها حُسن التعامل معها ومساعدتها في شؤون البيت التي لا تستطيع إنجازها وحدها.
كما ينبغي على الحامل ممارسة تمارين رياضية مناسبة لوضعها، مثل المشي في أماكن مشبعة بالأكسجين النقي، ليستفيد جنينها منه.
وعلى الحامل تجنب السهر والحرص على النوم المبكر.
وعلى الأم الحامل تجنب الأشعة والبعد عن تناول العقاقير الطبية إلا باستشارة مختص؛ حتى لا يؤثر على حواس الجنين وعقله.
من الضروري – أيضً- متابعة وملاحظة رفسة الجنين بعد بداية الشهر الرابع؛ لأن ذلك يعكس تحركاته ونبضات قلبه وتيقظ حواسه ونشاطه.
ولا تنسَ الحامل أن تقرأ القرآن الكريم وبعض القصص بصوت مسموع لجنينها، فقد أثبتت بعض الدراسات الطبية أنّ الجنين يُميّز الأصوات ويستجيب لها.
تربية الرسول للأطفال
وبعد مرحلة تربية الجنين في بطن أمه، تأتي المرحلة الثانية الأهم في نشأته على خصال الخير التي غرسها النبي – صلى الله عليه وسلم- في الأطفال الصغار منذ الولادة، وتتلخص في النقاط التالي:
- استقبال المولود بالأذان في أذنه: فبعد أن تضع الأم طفلها كان يؤتى به إلى الرسول فيؤذّن في أذنه اليُمنى ويقيم الصلاة في أذنه اليسرى.
- تحنيك المولود: فقد كان يؤتى بالمولود إلى النبي فيقـوم بتحنيكه – أي يلوك التمر ثمّ يجعلها في فم الصبي-.
- العقيقة: روى البخاري عن سلمان بن عاصم الضبي أنه يقول: “سـمعت النبـي – صلى الله عليه وسلم- يقول: مع الغلام العقيقة، وأهريقـوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى”.
- تسمية المولود: ثم بعد ذلـك يُسـمى الولد، وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم- يحث على تسمية الأولاد بالأسماء الحسنة.
- الرحمة بالأطفال: ومن رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم- بالأطفال أن كان يتعهّدهم ويسأل عنهم ويتصابى لهم ويُقبلهم فقد ذكر البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: “قبّل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا، فنظر إليه الرسول – صلى الله عليه وسلم- ثمّ قال: “مَن لا يرحم لا يُرحم”.
- ملاعبة للأطفال: كان الرسول – صلى الله عليه وسلم- يترك للصبي الحرية في اللعب بشرط عدم تعوده على العادات السيئة التي تضره، وحتى ينشأ قويًّا سليمًا معافًى، وحتى يشبع الطفل رغباته في اللعب.
- العدل بين الأولاد: وقد أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم- بالمساواة في العطاء بين الأولاد.
- حسن تأديب الأطفال: كان الرسول – صلى الله عليه وسلم- يُوصي بحسن تربية الأولاد حتى يكونوا نواة صالحة لبناء المجتمع.
- تعليم الأطفال آداب الطعام: ذكر أبي حفـص عمـر بن أبي سلمة، أنه كان في حجـر الرسـول – صلى الله عليه وسلم- وكانت يده تطيش في الصفحة- أي إناء الطعـام- فقال رسول الله: “يا غلام سم الله تعالى وكل بيمينك وكل مما يليك”.
- تعليم الأطفال الصلاة: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “علموا الصبي الصلاة لسبع سنين واضربوه عليها لعشر سنين”.
- تعليمهم القراءة والكتابة: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يأمر أسرى بدر الذين لم يستطيعوا أن يفدوا أنفسهم بأن يعلم كل منهم عددًا من صبيان المسلمين القراءة والكتابة.
المصادر
- شمس الأئمة السرخسي: كتاب المبسوط، جـ 30، صـ 50 و51.
- ابن قدامة: المغني، جـ 8، صـ 456.
- ابن نجيم: البحر الرائق، جـ 8، صـ 389.
- ابن حزم: المحلى جـ 9، صـ 120.