رغم أن عبادة التأمل قلبية صامة، لكن مفعولها عظيم في الارتقاء بالإيمان وزيادة مساحة الإبداع والابتكار، ويأتي دور الوالدين والمربين في تربية الطفل وغرسها فيه؛ ليعيش إعجاز هذا الكون وعظمة خالقه- سبحانه وتعالى-، وأنه يستحيل أن يأتي أحدٌ بمثله، خصوصًا في ظل ما يُشاهده من أفلام الكرتون التي يُدسّ فيها السُّم في العسل.
والتفكر عبادة وجّه إليها القرآن الكريم الذي بيّن أن خلق الله ليس له مثيل، يقول تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [لقمان: 11]. وقد دعت السنة- أيضًا- إلى التأمل، ثم حافظ عليها المسلمون في عصور مختلفة، فكانت سببًا في نهضتهم وتحقيقهم السّبق الحضاري في جميع المجالات والميادين.
أهمية عبادة التأمل للأطفال
لا شك أن عبادة التأمل والتفكر في مخلوقات الله- تبارك وتعالى- من أفضل ما يمكن أن ننشئ عليه أطفالنا، فهي تبصرهم بمخلوقات الله واستشعار عظمته في الكون، وهي عبادة روحية وفكرية وبصرية ترفع شأن العبد وتقربه من الله- عز وجل- لذلك أشار إليها القرآن في العديد من الآيات، منها قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:13].
وعبادة التفكر تدفع الطفل إلى الاستجابة لأوامر الله تعالى الخاصة بالتّعقل والتدبر والنظر في ملكوت السماوات والأرض، بل تكون طريقًا لتحقيق الإبداع والابتكار، وظهور المواهب، فتتبوّأ الأمة موقع الصدارة والريادة كما كانت.
وحين يدرك الطفل أهمية هذه العبادة سيتعرف إلى الأولويات في حياته، بعيدًا عن العبيثة، فيكون طاقة فاعلة منتجة، وليس عبئًا على أسرته ومجتمعه.
ومع ترسيخ عبادة التفكر في نفوس الأطفال، فإن ما نسمعه عن معاناة بعض الأسر والمدارس من المشكلات الأخلاقية والسّلوكيات غير المنضبطة تتضاءل وتنتهي، ويشغل مكان ذلك إيمان فياض يترجمه الطفل في سلوكيات وأخلاق رائعة.
وربْط الأولاد بعبادة التفكر يمنحهم حُسن التوكل على الله تعالى، ويزيدهم ثقة في خالقهم- عز وجل-، فهو صاحب القدرة المطلقة، وهذا يفيدهم نفسيًّا في إزالة القلق والتوتر، ويمنحهم الإقدام على الإنجاز والعطاء، واستخدامًا صحيحًا لنعمة العقل وهي من أجل النِّعم.
لذا ينبغى أن يدرك الوالدان قيمة هذه العبادة وأهميتها في حسن الاستخلاف في الأرض، وترسيخ الإيمان في نفوس الأطفال، والتعرف إلى الخالق- سبحانه وتعالى- من خلال تدبر آياته والتعرف إلى آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وحاجة الأبوين ملحة إلى إدراك أهمية عبادة التفكّر، لأنهما موضع القدوة لأولادهما، فبهما يقتدون وعلى نهجهما يسيرون، إذ ينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه، وكما قيل: لا يستقيم الظل والعود أعوج.
خطوات عملية لتعليم الأطفال عبادة التأمل
يقول ابن القيم الجوزية: “الرب تَعَالَى يَدْعُو عباده فِي الْقُرْآن إِلَى مَعْرفَته من طَرِيقين أَحدهمَا، النّظر فِي مفعولاته، وَالثَّانِي التفكر فِي آيَاته وتدبّرها فَتلك آيَاته المشهودة وَهَذِه آيَاته المسموعة المعقولة”.
ومن هنا، بات من الضروري تربية الأطفال على عبادة التأمل وتَعوديهم عليها، ويمكن ذلك من خلال خطوات عملية أهمها:
- اصطحاب الآباء أبناءهم إلى أماكن تتجلى فيها عظمة الخالق- سبحانه وتعالى-، ومنها البحار والصحراء والأماكن العلمية التي يتوفر فيها التلسكوبات الفلكية لمشاهدة الأجرام السماوية من خلالها، واستثارة ذهن الطفل بعظمة الخالق، يقول أبو سليمان الداراني- رحمه الله-: “إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة”.
- واستثمار وقت الطعام والجلوس على المائدة، في دعوة الأطفال إلى التفكر في النّعم المختلف ألوانها، والحديث عن مراحل خروجها من الأرض حتى وصولها إلينا، ثم التأكيد على أن الله هو صانعها ورازقها، يقول سبحانه وتعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (عبس: 24-32).
- لفت انتباه الطفل أثناء السفر إلى المخلوقات التي نراها في الطريق، وتأمل بديع صنع الله- تبارك وتعالى- في خلقه، الذي يعجز أي شيء على خلق مثله.
- تخصيص وقت كل أسبوع لعقد حلقة نقاشية يطرح فيها الأطفال التساؤلات التي ترد إلى أذهانهم عن الكون والمخلوقات، وهذا مفيد في تصحيح المفاهيم التي قد تتلوث جراء ما يشاهدونه من أفلام كرتون على الإنترنت.
- ومن الممكن استثمار الإنترنت في الدخول إلى موقع “يوتيوب” ومشاهدة أفلام عن الإعجاز العلمي، ثم تكليف الطفل بعمل بحث صغير أو حتى كتابة ورقة صغيرة يشرح فيها أهم النقاط التي استفادها من الفيلم العلمي، وبهذه الطريقة ننمي لديه مهارات عديدة، أهمها التفكر والبحث وحصر المعلومات والتدريب على صياغة الأفكار.
- إنشاء بنك للأفكار التأملية والإعجازية التي تخطر على أذهان أفراد الأسرة، وإسناد إدارتها للأطفال بالتناوب لربطهم بهذه بعبادة التفكر والتأمل باستمرار.
- تخصيص جزء من المكتبة للكتب التي تتحدث عن إعجاز الخالق- عز وجل- وكذلك الأفلام العلمية المصورة التي تتناول إعجاز الله في شتى المخلوقات، وتوفير الألبومات المصورة الإبداعية التي تظهر عظمة الخالق، على أن يخصص وقت للأسرة للاطلاع على هذا المحتوى.
- أثناء قراءة القرآن الكريم وتسميع الورد للأطفال، يمكن الوقوف عند الآيات التي تتحدث عن الإعجاز العلمي والكوني لتدبرها، ويفضل قراءة التفاسير فيها للتبحر في معانيها وتوصيل المعنى بصورة كاملة.
- ومهمة تدريب الأطفال على التأمل لا تقتصر على الآباء، إذ لا بد من أن يشترك فيها المجتمع، متمثلًا في المدارس والمساجد وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، فيجب أن تحتوي المناهج في جميع المدارس على مواد تزيد من دافعية الطفل نحو التفكر والتأمل في الكون والمخلوقات.
- ولا بُد من أن تحتوي مكتبة المدرسة على جناح خاص بالإعجاز العلمي والمواد العلمية المرتبطة بالتفكر في خلق الله.
- وبالتأكيد فإن المعلمين لهم دور لا يقل عن دور الآباء، فعليهم استثارة الطلاب بالتفكر في عظمة الخالق، وذلك في مواطن الإعجاز التي يمر عليها المعلم أثناء شرحه المقررات العلمية.
- ويمكن لخطباء المساجد تضمين عبادة التفكر ضمن خطبهم ودروسهم العلمية في المسجد، وهذا يتطلب مجهودات بحثية وعلمية ليثرُوا كلماتهم الدعوية بالأدلة العلمية والإعجازية.
مجالات التفكر في خلق الله
إن عبادة التأمل والتفكر في خلق الله- سبحانه وتعالى- من العبادات التي دعا الله-عز وجل- إليها، فوردت في آيات كثيرة تدل على عظمة الله في العديد من المجالات، منها ما يأتي:
- خلق الإنسان: من آيات الله- سبحانه وتعالى- التي تستحقُّ دوام التفكّر فيها هي آية خلق الإنسان، فالإنسان خلقه الله من نطفة، وقد جاء العلم الحديث ليؤكّد هذا الأمر فما كان من الذين أرادوا الحق إلا أن آمنوا بالله وسلموا له، قال الله- تعالى-: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ* مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ* ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس:17-22].
- التأمل في النفس البشرية: من خلال التفكر وقراءة آيات الله عنها، للتوصل إلى فهم أفضل عن النفس الأمارة بالسوء، وكيف تدفعنا- رغم الإيمان- إلى اقتراف المعاصي والذنوب في بعض الأحيان، وأن نتأمل في نزعة الإنسان للشر، وتملك الغير وحب الخلود، وكيف يغري الشيطان الإنسان في بعض الأحيان ويزين له الشرور وينفره من الطاعات، قال تعالى: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
- الآيات الكونية: مثل السماوات والأرض والجبال والبحار والأشجار، يقول الله- سبحانه وتعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62].
- آيات البلاغة: فهي أعجزت الكثير عن الإتيان بمثلها، لما تحتويه من فصاحةٍ وقوة بيان، ومعانٍ عديدة، ومقاصدَ سديدة، يقول الله- عز وجل-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾،[ص:29] ويقول سبحانه: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [فصلت:1].
- التفكّر في حال الدنيا والآخرة: فذلك من الأمور التي تجعل العقل ينصهرُ خاشعًا لله، يقول الله -جل شأنه-: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر:39-40].
- التفكّر في مخلوقات الله من الكائنات الحية: حيث وضع الله فيها الكثير من القدرات والإمكانيات، فيقول الله- جل وعلا-: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل:79].
إن عبادة التأمل من العبادات المهمة، كونها تدل على وحدانية الله وعظمته، وجميل صفاته وسَعة علمه وقدرته جل وعلا، لذلك يجب على الآباء والأمهات غرسها في الأطفال، ليتعودوا عليها، فالله- عز وجل- يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 190، 191].
مصادر ومراجع:
- جمال الدين القاسمي، موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين، صفحة 312.
- ابن القيم: الفوائد، ص 20.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 1/ 958.
- .