أَلِفَ أصحاب النفوس العظيمة خُلُق الكرم منذ الأزل، فصدّروه في تعاملاتهم ومدحوا بها ساداتهم، وجعلوه دليل الرفعة والفخار، وغاية المجد لِمَا فيه من الإيثار وعلو الهمة، وكان عندهم نقيض اللؤم والبخل، وفي فقده كل مذمة وعار.
وهو خُلُق أصيل يعمل على تمتين الروابط بين الأسرة والأقارب والجيران، ويُمكن تعويد الأبناء عليه من خلال عدم التقتير عليهم، وفي الوقت نفسه عدم تلبية جميع رغباتهم، مع التفهّم أن الأطفال مخلوقات أنانية، لذا على الكبار توخّي الحذر، واتباع نصائح الخبراء والمتخصصين، لتربية أطفال كرماء يُجيدون التعاطف والاهتمام بالآخرين.
مفهوم الكرم
ويُعرّف خُلُق الكرمِ بأنه ضِدُّ اللُّؤمِ، والكَرَمُ شَرَفُ الرَّجُلِ، يقالُ: كَرُمَ كرامةً وكَرَمًا وكَرَمةً، و: كَرُمَ فُلانٌ: أعطى بسهولةٍ وجاد، وكَرُم الشَّيءُ: عَزَّ ونَفُسَ، وقد كَرُم الرَّجُلُ: فهو كريمٌ، وقومٌ كِرامٌ وكُرَماءُ، ونِسوةٌ كَرائِمُ.
وفي الاصطلاح، يقول الجُرْجانيُّ: “الكَرَمُ: هو الإعطاءُ بسُهولةٍ، وقال المُناويُّ: هو إفادةُ ما ينبغي لا لغَرَضٍ. وقال مِسْكَوَيهِ: هو إنفاقُ المالِ الكثيرِ بسهولةٍ من النَّفسِ في الأمورِ الجليلةِ القَدْرِ، الكثيرةِ النَّفعِ، كما ينبغي.
وقال بعضُ العُلَماءِ: هو اسمٌ واقعٌ على كُلِّ نوعٍ من أنواعِ الفَضلِ، ولفظٌ جامِعٌ لمعاني السَّماحةِ والبَذْلِ. وقال ابنُ تَيميَّةَ: هو لفظٌ جامِعٌ للمحاسِنِ والمحامِدِ، لا يرادُ به مجرَّدُ الإعطاءِ، بل الإعطاءُ من تمامِ معناه؛ فإنَّ الإحسانَ إلى الغيرِ تمامُ المحاسِنِ. والكَرَمُ كثرةُ الخَيرِ ويُسْرتُه.
الكرم في القرآن والسنة
وحث الله- سبحانه وتعالى- في آيات كثيرة من القرآن الكريم على الكرم والجود، من ذلك قوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114]، فخص سبحانه بالأجر العظيم من أراد بإحسانه مرضاة الله الكريم.
ولمّا كان عطاء الله ورزقه لعباده وثوابه لهم لا نظير له في حُسنه وكثرته وسعته وُصف بأنه كريم، قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الحج: 50]، وقال تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ [يس: 11].
وقد سمّى الله- سبحانه وتعالى- نفسه بالكريم والأكرم، فقال تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ [العلق: 3]، بصيغة التفضيل وهو ما يدل على أنه متصف بغاية الكَرَم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه.
والجود والإنفاق من صفات المتقين، قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:133-134].
وتعدّدت الأحاديث النبوية التي تدعو المسلمين إلى البذل والسخاء وتُبيّن لهم أنه طريق من طرق النجاة، فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “إنّ اللَّهَ تَعَالَى جَوَادٌ يحِبُّ الجُودَ ويحِبُّ معَالِيَ الأَخْلاقِ ويَكْرَهُ سَفْسافَها” (الترمذي).
وعن أبى هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقًا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكًا تلفًا” (البخاري).
وعن أبى ذر- رضي الله عنه- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده” (رواه أحمد).
وروى علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “إن في الجنة غرفًا يرى بطونها من ظهورها وظهورها من بطونها” فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: “هي لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام” (رواه الترمذي).
وقال أبو هريرة- رضي الله عنه- إن رجلا قال للنبي- صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: “أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان” (مسلم).
وحذّر النبي- صلى الله عليه وسلم- من البخل، فقال: “اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم” (مسلم).
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعظم قُدوة عملية للمسلمين في الكود والإنفاق، فعن جابر- رضي الله عنه- قال: “ما سئل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن شيء قط، فقال: لا” (البخاري).
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: “كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس” (البخاري).
وروى ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: “كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أجود من الريح المرسلة” (البخاري).
وتشربت أخلاق صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم التابعين من أخلاق نبيهم الكريم، فكانوا مثالا للجود والكرم والإنفاق في سبيل الله، فعن زَيدِ بنِ أسلَمَ، عن أبيه، قال: سمعتُ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عنه يقولُ: “أمَرَنا رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يومًا أن نتصَدَّقَ، فوافَق ذلك مالًا عِندَي، فقُلتُ: اليومَ أسبِقُ أبا بكرٍ إن سبَقْتُه يومًا! فجِئتُ بنِصفِ مالي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيْتَ لأهلِك؟ قُلتُ: مِثْلَه، قال: وأتى أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بكُلِّ ما عِندَه، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيْتَ لأهلِك؟ قال: أبقَيتُ لهم اللهَ ورَسولَه! قُلتُ: لا أسابِقُك إلى شيءٍ أبدًا” (أبو داود والترمذي).
وعن إسحاقَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي طَلحةَ، أنَّه سَمِعَ أنَسَ بنَ مالكٍ يقولُ: (كان أبو طَلحةَ أكثَرَ أنصاريٍّ بالمدينةِ مالًا، وكان أحبَّ أموالِه إليه بَيْرُحى، وكانت مُستَقبِلةَ المسجِدِ، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدخُلُها ويَشرَبُ من ماءٍ فيها طيِّبٍ، قال أنَسٌ: فلمَّا أُنزِلَت هذه الآيةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، قام أبو طَلحةَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحَى، وإنَّها صَدَقةٌ للهِ، أرجو بِرَّها وذُخْرَها عندَ اللهِ، فضَعْها يا رسولَ اللهِ حيثُ أراك اللهُ. قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بَخْ! (كَلِمةٌ تقالُ لتعظيمِ الأمرِ وتفخيمِه) ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابِحٌ! وقد سَمِعْتُ ما قُلتَ، وإنِّي أرى أن تجعَلَها في الأقرَبينَ. فقال أبو طلحةَ: أفعَلُ يا رسولَ اللهِ. فقسَمها أبو طلحةَ في أقارِبِه وبني عَمِّه) (البخاري ومسلم).
ومَرِضَ قَيسُ بنُ سعدِ بنِ عُبادةَ، فاستبطَأَ إخوانَه، فقيل له: إنَّهم يَسْتَحيون ممَّا لك عليهم من الدَّينِ، فقال: أخزى اللهُ مالًا يمنَعُ الإخوانَ من الزِّيارةِ! ثمَّ أمرَ مناديًا فنادى: من كان عليه لقَيسِ بنِ سَعدٍ حقٌّ فهو منه بريءٌ، قال: فانكَسَرت درجَتُه بالعَشِيِّ لكثرةِ من زاره وعاده!”.
وقال عطاءٌ: “ما رأيتُ مجلِسًا قطُّ أكرَمَ من مجلسِ ابنِ عبَّاسٍ، أكثَرَ فِقهًا، ولا أعظَمَ جَفنةً، أصحابُ القُرآنِ عِندَه يسألونَه، وأصحابُ العَرَبيَّةِ عِندَه يسألونَه، وأصحابُ الشِّعرِ عندَه يسألونَه، فكُلُّهم يَصدُرُ في رأيٍ واسِعٍ”.
وعن أمِّ ذَرَّةَ- وكانت تخدُمُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها- قالت: “إنَّ ابنَ الزُّبَيرِ بعث إليها بمالٍ في غِرارتَينِ ثمانينَ ومائةِ وألفٍ، فدعَت بطَبَقٍ فجَعَلَت تقسِمُه بَينَ النَّاسِ حتَّى فَرَغ، فلمَّا أمسَت قالت: يا جاريةُ هاتي فَطوري، فجاءتها بخُبزٍ وزيتٍ، فقالت لها أمُّ ذَرَّةَ: ما استطَعْتِ فيما قسَمْتِ اليومَ أن تشتري لنا بدِرهَمٍ لحمًا نُفطِرُ عليه؟! فقالت: لو كُنتِ ذكَّرْتِني لفعَلْتُ”.
واشترى عبدُ اللهِ بنُ عامِرٍ من خالِدِ بنِ عُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ دارَه التي في السُّوقِ بتسعين ألفَ دِرهَمٍ. فلمَّا كان اللَّيلُ سَمِع بكاءَ آلِ خالدٍ، فقال لأهلِه: ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون لدارِهم التي اشتريتَ. قال: يا غلامُ: ائْتِهم فأعلِمْهم أنَّ الدَّارَ والمالَ لهم جميعًا.
وسائل تربوية
وغرس خلق الكرم والجود في الأطفال يتم من خلال وسائل تربوية وعملية، منها:
- الثناء على الأفعال الإنسانية الكريمة للأطفال: مثل، مشاركة لعبة، أو مناصفة الحلوى مع أخيه أو صاحبه، أو إطعام أحدهم قبل أن يأكل، أو تقديم مجاملة، فالاعتراف الإيجابي بشيء ما، يجعل الطفل أكثر رغبة للاستمرار في القيام بذلك.
- القدوة الحسنة: فالطفل دائم التطلع إلى والديه للحصول على إشارات عن كيفية التصرف في المواقف المختلفة، فإذا وجد والديه يتعاملان بكرم وجود سيقلدهما في ذلك.
- تدريب الطفل على التبرع: ويكون ذلك من خلال مشاركته في حملات التبرع لأهالي فلسطين أو للمرضى أو للأيتام وغير ذلك من مصارف.
- الكرم في كل شيء: تعليم الطفل أن الجود والكرم في كل شيء، فهو في التعامل الجيد مع الآخرين أو مساعدة أخوته في أعمالهم وغير ذلك من أعمال.
- إيجابية يحتاج إليها شخص منكِ، فأحياناً تتغير حياة أحدهم بسبب كلمة إيجابية تدعمه.
- الكرم بالعواطف: فكرم الوالدين بالعواطف مع أبنائه يعلهم الجود في كل شيء، فعلى الوالدين أن يتعاملا بكرم في التعبير عن حبهما، مع الأبناء.
- تذكير الطفل بالكرم: فعند الخروج من المنزل لشراء بعض الاحتياجات، يمكن تذكير الطفل بشراء لعبة أو حلوى لأخيه أو أخته أو أحد أصدقائه، فيعتاد أن يحب للآخرين ما يحب لنفسه.
- قراءة قصص عن الكرم: وحبذا لو كانت لأطفال صغار يجودون بما يمتلكون، فيُرسخ لدى الطفل حب الخير والجود والإنفاق.
- مبادلة الجود: فعندما يقدم الطفل شيئا يُحبّه نأخذه ونعوضه بكمية أخرى كبيرة ليعلم أن الجود عواقبه جميلة.
ومن هنا، فإن خُلُق الكرم احتل مكانة مهمة في الإسلام، فهو أحد القيم النبيلة التي اهتم بها هذا الدين العظيم، وأمر بها، لذا من الضروري غرسها في نفوس الأطفال ليتدبروا عليها منذ الصغر وتصبح راسخة في أخلاقهم.
مصادر ومراجع:
- الخليل بن أحمد: العين 5/368.
- ابن دريد: جمهرة اللغة 2/798.
- الجوهري: الصحاح 5/2020.
- الجرجاني: التعريفات، ص: 184.
- المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف، ص: 281.
- مسكويه: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص: 31.
- أبو الحسن بن هذيل: عين الأدب والسياسة، ص: 105.
- ابن تيمية: مجموع الفتاوى 16/293.
- لينا الحوراني: نصائح لتعليم الكرم للأطفال.
- ابن المبارك: الزهد، ص 1175.
- القشيري: الرسالة القشيرية 2/406.
- التنوخي: المستجاد من فعلات الأجواد، ص 12.