تحرص الشريعة الإسلامية على تربية المسلمين على الانضباط والنظام، وعدم الفوضى والعشوائية، فإذا نظرنا إلى أحكام الله، وجدنا فيها ما يُذهل، فالله- سبحانه وتعالى- خَلَقَ الكون في غاية الانتظام، حيث كل شيء عنده بميزان، فالكواكب والأفلاك تدور في مساراتها بسرعات معينة، لا تخرج عنها، وبذلك ينتظم الكون.
والانضِبَاط خُلقٌ من أخلاق الإسلام، وهو يتناول حياة المسلم كافة وكل ما يقوم به من عمل، وهو القدرة على ضبط النفس والتحكم في السلوك، لذا فهو من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها المسلم في جميع مراحل حياته.
مفهوم الانضباط ومشروعيته في القرآن والسنة
وفي اللغة، فإن الانضباط يأتي من الضبط، وهو الحفظ بالحزم، والضابطة هي القاعدة، وفي الاصطلاح، يعني الاندماج والانتظام تحت ضابط، أي حكم كلي وبه يكون الشيء معلومًا.
ولقد حثّ الإسلام على الانِضباط في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومن ذلك قوله تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَطْغَوْاْ فَتَنفِرُواْ) [النور: 52].
ويعلمنا الحق- سبحانه وتعالى- الانضِباط في الشرع، فقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة:189]. فآيات تضبط لنا العبادات، إذا طلع الفجر دخل الوقت، وإذا طلعت الشمس خرج الوقت، وإذا زالت عن كبد السماء دخل الوقت، وإذا ظل كل شيء مثله خرج الوقت ودخل العصر الذي بعده، وإذا غاب الشفق وجاء الليل الأسود البهيم، خرج وقت المغرب، ودخل وقت العشاء، وإذا انتصف الليل خرج العشاء، وبقي وقت الاضطرار إلى الفجر، وهكذا في مسلسل بديع من ضبط العبادات.
وفي الصيام إذا طلع الفجر كل المسلمين يمسكون، وإذا غربت الشمس كل مسلم في المكان يفطر، وفي صفوف الصلاة لا يتقدم ولا يتأخر، المحاذاة بين المناكب والأكعب، في مؤخرة الأقدام، فتنتظم الصفوف، لا أمام ولا خلف، ولا ثغرات، والاتجاه إلى القبلة، وهذا الانتظام العجيب، نجده في الحج، فالبداية من الحجر، والنهاية في الشوط إلى الحجر.
وفي اللسان ضبط غاية الانضباط، فالمسلم يبيع بكلمة، ويشتري بكلمة، ويتزوج بكلمة، ويطلق بكلمة، فالكلمة لها مسؤولية في الإسلام.
عبّر الإسلام عن معنى الانضباط الذاتي للمسلم بمفهوم “الاستقامة”، وجعل لمن استقام مكانة وأجرا عظيما لقوله- عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].
والانضباط والنظام في ساحات الجهاد، فالنبي- صلى الله عليه وسلم- كان في غاية الدقة والانضباط مع صحابته، عندما كان يرصهم للقتال: (كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ) [الصف:4]. وفي بدر لما صفهم رأى واحدًا تقدم، فقال: “معي معي”، كونوا معي كما أريدكم، كونوا معي، بلا تقدم ولا تأخر (رواه أحمد وهو حديث صحيح).
ويعلمنا الإسلام الانتظام في الطعام، قالَ أبو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لقَدْ: سَمِعْتُ صَوْتَ رَسولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ضَعِيفًا، أعْرِفُ فيه الجُوعَ، فَهلْ عِنْدَكِ مِن شيءٍ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، فأخْرَجَتْ أقْرَاصًا مِن شَعِيرٍ، ثُمَّ أخَذَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الخُبْزَ ببَعْضِهِ، ثُمَّ أرْسَلَتْنِي إلى رَسولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في المَسْجِدِ ومعهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عليهم، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: أرْسَلَكَ أبو طَلْحَةَ فَقُلتُ: نَعَمْ.
فَقالَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لِمَن معهُ: قُومُوا فَانْطَلَقُوا وانْطَلَقْتُ بيْنَ أيْدِيهِمْ، حتَّى جِئْتُ أبَا طَلْحَةَ فأخْبَرْتُهُ، فَقالَ أبو طَلْحَةَ: يا أُمَّ سُلَيْمٍ، قدْ جَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والنَّاسُ، وليسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ ما نُطْعِمُهُمْ، فَقالَتْ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أبو طَلْحَةَ حتَّى لَقِيَ رَسولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فأقْبَلَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وأَبُو طَلْحَةَ حتَّى دَخَلَا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: هَلُمِّي يا أُمَّ سُلَيْمٍ ما عِنْدَكِ فأتَتْ بذلكَ الخُبْزِ.
قالَ: فأمَرَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بذلكَ الخُبْزِ فَفُتَّ، وعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فأدَمَتْهُ، ثُمَّ قالَ فيه رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يَقُولَ، ثُمَّ قالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فأذِنَ لهمْ فأكَلُوا حتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فأذِنَ لهمْ، فأكَلُوا حتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فأكَلَ القَوْمُ كُلُّهُمْ وشَبِعُوا، والقَوْمُ سَبْعُونَ أوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا (البخاري).
والانضباط هو الاستمرارية والمداومة على الفعل بالالتزام به والإصرار عليه، فإن أحب الأعمال إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أدومها، حيث جاء في الحديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “أحَبُّ الأعْمالِ إلى اللهِ تَعالَى أدْوَمُها، وإنْ قَلَّ. قالَ: وكانَتْ عائِشَةُ إذا عَمِلَتِ العَمَلَ لَزِمَتْهُ” (مسلم).
ومن أبرز الأساليب وأنفعها لحفظ النظام والانضباط أن يحرص الإنسان على تقويم وتصحيح ما قد يصدر عنه من سلوكياتٍ خاطئةٍ غير مقصودة، وأن يرجع إلى جادة الصواب إذا ما وقع في الخطأ، فعن معاذ أن رسول الله قال له: “يا معاذ، اتبع السيئة بالحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن” (رواه أحمد).
ومن الأساليب الفاعلة في حفظ النظام أن يعمل المسلم على مُساعدة الآخرين من حوله على اكتشاف أدوارهم الاجتماعية الحاضرة والمُستقبلية التي يمكنهم من خلالها المُشاركة الجماعية في تنمية مظاهر الانضباط الذاتي للمجتمع، والطاعة الواعية عند أفراد المجتمع. وهو ما يشهد له الحديث النبوي الشريف؛ فقد صحّ عن أبي هريرة أن رسول الله قال: “من دعا إلى هُدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقصُ ذلك من آثامهم شيئًا” (مسلم).
كيف نربي الأولاد على الانضباط؟
وطرق ووسائل تربية الأطفال على الانضباط والنظام عديدة، أبرزها ما يلي:
- منح الحب للطفل: على الأب أن يعي أهمية منح الحب والاهتمام والتوجيه للطفل، وهنا يكون النظام حاضرا في هذه البيئة كجزء من التربية.
- بناء علاقة طيبة مع الطفل: ومن المهم بناء علاقة قائمة على الثقة مع الطفل، وهو أمر أساسي للانضباط السليم.
- استخدم المنطق مع الطفل: وذلك لتصحيح السلوك غير الملائم، وهذا بربط ما فعله مع أمر آخر يتوجب عليه، ومن ثم نمنحه مساحة ليصحح ذلك ويدرك أنه خطأ.
- استخدام سبورة ملصقات: لتحديد الأيام والأوقات التي أنجز فيها الطفل مهمة أو عملًا منزليًّا ورتب كل مهمة حسب الحاجة لإكمالها، فرؤية تقدمهم يوميًّا سيحفزهم.
- مدح السلوك الجيد: ولا نجعل الأطفال يشعرون بأننا لا ننتبه لهم إلا عند التعامل مع سلوكهم الخاطئ، فعندما يكمل الطفل واجباته أو يسلك سلوكًا مسؤولًا نخبره بأننا فخورين به.
- وضع جدول زمني: فمن المهم تثبيت أوقات القيلولة والنوم والوجبات يوميًّا، والتواصل بانتظام مع الطفل بشأن النشاط التالي في الجدول.
- إظهار الحب للطفل: فعلينا أن نعلمه بحبنا له ونقضي معه وقتًا ونسأله عن مشاعره، فعندما يعلم الطفل أنه محبوب سيدرك قيمة حياته وأفعاله وسيسعى لتلبية توقعات والديه وينضبط أكثر في حياته.
- استخدم القصص للبرهنة على سلوك النظام: يمكن للقراءة تعليم الأطفال دروسًا يطبقونها في حيواتهم، فبعد القراءة عن شخصية منضبطة ومسؤولة، نشرك الطفل في حوار عن ردود فعله وأفكاره ومشاعره التي راودته خلال القراءة.
- تقديم خيارات للطفل: فلا ندع له الحرية الكاملة، لكن نسأله- مثلا- عن لون القميص الذي يود ارتداءه، فعندما تزداد الخيارات المتاحة للطفل تزداد كذلك قدرته على ضبط نفسه ومقاومة الإغراءات والتركيز على التزاماته.
- الهدوء: فمن المهم الحفاظ على نبرة وسلوك ثابتين عند محادثة طفل متمرد، لندربه على الالتزام بالنظام.
- الوفاء بالوعد: حتى لا يخسر الوالد أو المربي مصداقيته لدى طفلك، ولا بد من التفكير قبل تهديد الطفل بأحد العواقب.
- عناق الطفل بعد العقاب: بعد إنهاء الطفل لعقوبته نعانقه أو نقبّله لإظهار عدم الغضب منه، ثم نشرح ثانية سبب عدم رغبتنا بارتكابه لفعلته.
- القدوة للطفل: كن نموذجا يحتذى به فيما يتعلق بالنزاهة، لأن الطفل في العادة يقلد والده، ويتعلم منه الكثير بخلاف ما يتوقعه الوالدان، فهو ينظر لوالده وكأنه عالمه كله.
- عقد اجتماعات أسرية: لتتيح الفرصة لكل من في العائلة لطرح الأفكار وتبادل الاقتراحات والبقاء على تواصل مع جميع الأفراد والحفاظ على جو أسري.
- الحضور في حياة الأطفال: فمن المهم أن يكون الأب فعالا وحاضرا بحياة أبنائه، بحيث يقضي وقتا برفقتهم ويتفقدهم بين الفينة والأخرى في المدرسة، ويمضي مع كل واحد منهم وقتا منفصلا يتحدث معه، كما يمضي معهم أوقاتا جماعية ليشعروا أنه موجود، ويشعروا بهيبته وحضوره، وهو شعور يولد الأمان والنظام.
- توضيح الأمور للطفل: فعلى الوالدين الشرح بوضوح للطفل بكل ما يريدان منه فعله سواء تحقيق درجة دراسية معينة أو إنهاء عمل منزلي.
- وضع توقعات عقلانية: فإن لم يكن الطفل عبقري في الرياضيات فلا تضع عليه ضغوطًا زائدة للحصول على أعلى الدرجات إن كان يبذل قصارى جهده بالفعل.
- توزيع المهام حسب السن: فيمكن للأطفال قبل سن الدراسة تنظيم ألعابهم ووضع الملابس المتسخة في سلة الملابس، ويمكن للأطفال في سن الحضانة ترتيب الأسرّة أو إطعام الحيوانات الأليفة، ويمكن للأطفال في سن المدرسة الابتدائية المساعدة في إعداد الطاولة أو طهو الطعام، والأبناء في سن المدرسة الإعدادية والثانوية يمكنهم تولي مسؤوليات جديدة متنوعة في المنزل.
- استخدم نظام المكافآت: وذلك لتشجيع الأطفال على أداء مهامهم ومسؤولياتهم، بنظام.
- العقوبة ملائمة للسن: فالأطفال الصغار لديهم مدة انتباه أقصر بكثير وسينسون ما يُعاقبون بشأنه بعد بضع دقائق، لذا فحبسهم منزليًّا لأسبوع عديم القيمة لأنهم لن يفهموا المبدأ.
إنّ التربية وتعويد الطفل على الانضباط والنظام ليس معضلة كبيرة على الدوام، حتى مع وجود اختلافات بين الأبناء، فالفيصل في الأمر تعليم الأبوين للطفل النظام ليستطيع التكيف مع المجتمع والنجاح فيه.
المصادر والمراجع:
- الفيومي: المصباح المنير، ص 135.
- الموسوعة الفقهية الكويتية 7/10.
- أحمد محمد عثمان: الانضباط في السنة النبوية.
- موقع الغد: للآباء فقط: كيف تعلم طفلك الانضباط؟
- موقع العربية: الانضباط والتوجيه والحب.. روشتة متوازنة لتربية أطفال أسوياء.
- رحاب ولي الدين: كيف تعلمين أبنائك الانضباط مهما كانت المرحلة العمرية.