والشُّورى ليست مُجرد نظامٍ سياسيّ للدولة؛ بل هي طابع للجماعة كلها، يقول الله- عز وجل-: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشُّورى: 38]، وما الأسرة إلا وحدة البناء في المجتمع المسلم واعتمادها لمبدأ الشُّورى من أكبر عوامل استقرارها، وتماسك أفرادها، وإذا دَرَجَ الأبناء في بيتٍ تشيع فيه هذه الثقافة، من احترام آراء الآخرين وإبداء الرأي، فإنّ ذلك يدعم بشكل كبير نضجهم العقلي وتنمية مهارات التفكير المنظم لديهم.
تربية الأسرة على الشورى في القرآن والسنة
ولقد أرشد القرآن الكريم إلى ضرورة تربية الأسرة على الشورى وتعزيز هذا المبدأ في الحياة، ومن ذلك الوصية بالتشاور في مسألة رضاع الولد وفطامه في حالة انفصال والديه، وفي هذا تنبيه على أن التّشاور في حالة قيام العلاقة الزوجية واستمرارها من باب أوْلى، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) [البقرة 233].
قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله- في تفسيرها: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}، أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما في ذلك”.
ويتبيّن من ذلك أنّ انفراد أحدهما بهذا الأمر دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد برأيه من غير مشورة الآخر وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره بالتشاور بين الزوجين، وهو من رحمة الله بعباده حيث جعل الله- سبحانه تعالى- الشُّورى فريضة شرعية إلزامية على الوالدين في تربية أبنائهما، وقد جعل الله- عز وجل- من هذه الآية نموذجًا إرشاديًا يقاس عليه أمر الشُّورى في محيط الأسرة.
ومما يُؤكّد أهمية مبدأ الشُّورى في حياة الأسرة المسلمة، قول الله- عز وجل-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35]. وهذه الآية تدل على أهمية مبدأ التشاور بين وكيلي الزوجين في مشكلات حياتهما الخاصّة من أجل حل النزاع بينهما وراحة أسرتيهما.
وكان التشاور منهج النبي- صلى الله عليه وسلم- مع أهل بيته، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: “ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم” (رواه أحمد).
ورغّبت السنة في أن يستشير الأب زوجتَه في أمر زواج البنات؛ لأنها أقرب منه إليهن، فقد ورد في الحديث الذي رواه أحمد: “آمروا النساء في بناتهن” أي: أمهات البنات اللاتي يراد تزويجهن يرجع إلى أمهاتهن ويؤخذ رأيهن في المتقدمين للخطبة وهل يوافقن أو لا يوافقن.
ويبين ذلك أن أولى الناس بالمشاورة في شؤون البيت والأبناء هي الزوجة، لأنها شريكة الحياة، والجناح الثاني لنجاح الأسرة واستقرارها، وقد تعلم من شؤون البيت- باعتبار ملازمتها له معظم الوقت- والأبناء ما يخفى على الأب؛ فلا يصح أن يستبد الرجل بالرّأي في الأسرة، بل عليه أن يستشير زوجته ويأخذ برأيها- إن كان صائبًا.
نماذج من تربية الأسرة على الشورى
وتتعدد النماذج التي تُبيّن أهمية تربية الأسرة على الشورى وإبداء الرأي، من ذلك استشارة النبي- صلى الله عليه وسلم- زوجته أم سلمة- رضي الله عنها- في أمر عام من أمور المسلمين لحصافتها ورجاحة عقلها، وكان ذلك يوم الحديبية عندما لم يستجب الصحابة إلى الأمر بالتحلل من الإحرام وتوقفوا عن النحر والحلق فلما أخبر الرسول- صلى الله عليه وسلم- زوجته أم سلمة- رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم من غير فتح، ثم قالت: يا نبي الله اخرج ثم لا تكلم أحدًا كلمة حتي تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك؛ فخرج وفعل ذلك فقاموا وجعل بعضهم يحلق بعضًا”.
وقد سار الصحابة الكرام على هذا النهج النبوي الشريف في استشارة أفراد الأسرة، فها هو أبو طلحة- رضي الله عنه- يطلب المشورة من زوجته، عندما كان يريد أن يدعو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى طعام، فقال لزوجته لقَدْ: سَمِعْتُ صَوْتَ رَسولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ضَعِيفًا، أعْرِفُ فيه الجُوعَ، فَهلْ عِنْدَكِ مِن شيءٍ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، فأخْرَجَتْ أقْرَاصًا مِن شَعِيرٍ، ثُمَّ أخَذَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الخُبْزَ ببَعْضِهِ، ثُمَّ أرْسَلَتْنِي إلى رَسولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في المَسْجِدِ ومعهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عليهم، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أرْسَلَكَ أبو طَلْحَةَ فَقُلتُ: نَعَمْ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لِمَن معهُ: قُومُوا فَانْطَلَقُوا وانْطَلَقْتُ بيْنَ أيْدِيهِمْ، حتَّى جِئْتُ أبَا طَلْحَةَ فأخْبَرْتُهُ، فَقالَ أبو طَلْحَةَ: يا أُمَّ سُلَيْمٍ، قدْ جَاءَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- والنَّاسُ، وليسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ ما نُطْعِمُهُمْ، فَقالَتْ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أبو طَلْحَةَ حتَّى لَقِيَ رَسولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فأقْبَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَبُو طَلْحَةَ حتَّى دَخَلَا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: هَلُمِّي يا أُمَّ سُلَيْمٍ ما عِنْدَكِ فأتَتْ بذلكَ الخُبْزِ، قالَ: فأمَرَ رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بذلكَ الخُبْزِ فَفُتَّ، وعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فأدَمَتْهُ، ثُمَّ قالَ فيه رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يَقُولَ، ثُمَّ قالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فأذِنَ لهمْ فأكَلُوا حتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فأذِنَ لهمْ، فأكَلُوا حتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فأكَلَ القَوْمُ كُلُّهُمْ وشَبِعُوا، والقَوْمُ سَبْعُونَ أوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا” (البخاري).
وعن أنس- رضي الله عنه- قال: خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها قال: أستأمر أمها قال: “فنعم إذا “. قال : فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها، فقالت: لا ها الله إذا، ما وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا جليبيبا وقد منعناها فلانا وفلانا؟ قال: والجارية في خدرها تسمع. قال : فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي – صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمره؟ إن كان رضي لكم فأنكحوه. قال: فكأنها جلت عن أبويها، وقالا: صدقت، فذهب أبوها إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه، فقال: “إني قد رضيته”. فزوجها، ثم فزع أهل المدينة، فركب جليبيب فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس: فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق أيم بالمدينة.
ولما أعتقت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث “وليدة” دون استشارة النبي، أكد- صلى الله عليه وسلم- أن الاستشارة كانت أفضل، فعن ميمونة بنت الحارث أنها: “أَعْتَقَتْ ولِيدَةً ولَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا كانَ يَوْمُهَا الذي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قالَتْ: أَشَعَرْتَ يا رَسولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ ولِيدَتِي؟ قالَ: أَوَفَعَلْتِ؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: أَمَا إنَّكِ لو أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كانَ أَعْظَمَ لأجْرِكِ” (البخاري).
وكانت أم سلمة- رضي الله عنها- تستشير النبي- صلى الله عليه وسلم- في فعل الخير، فعن عبد الله بن كعب بن مالك- رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ أبِي كَعْبَ بنَ مَالِكٍ- وهو أحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عليهم، أنَّه لَمْ يَتَخَلَّفْ عن رَسولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ، غيرَ غَزْوَتَيْنِ غَزْوَةِ العُسْرَةِ، وغَزْوَةِ بَدْرٍ- قالَ: فأجْمَعْتُ صِدْقِي رَسولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ضُحًى، وكانَ قَلَّما يَقْدَمُ مِن سَفَرٍ سَافَرَهُ إلَّا ضُحًى، وكانَ يَبْدَأُ بالمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ، ونَهَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن كَلَامِي، وكَلَامِ صَاحِبَيَّ، ولَمْ يَنْهَ عن كَلَامِ أحَدٍ مِنَ المُتَخَلِّفِينَ غيرِنَا، فَاجْتَنَبَ النَّاسُ كَلَامَنَا، فَلَبِثْتُ كَذلكَ حتَّى طَالَ عَلَيَّ الأمْرُ، وما مِن شيءٍ أهَمُّ إلَيَّ مِن أنْ أمُوتَ فلا يُصَلِّي عَلَيَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أوْ يَمُوتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأكُونَ مِنَ النَّاسِ بتِلْكَ المَنْزِلَةِ فلا يُكَلِّمُنِي أحَدٌ منهمْ، ولَا يُصَلِّي ولَا يُسَلِّمُ عَلَيَّ فأنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا علَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الآخِرُ مِنَ اللَّيْلِ، ورَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ.
وقال: كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً في شَأْنِي مَعْنِيَّةً في أمْرِي، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أُمَّ سَلَمَةَ تِيبَ علَى كَعْبٍ قالَتْ: أفلا أُرْسِلُ إلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ؟ قالَ: إذًا يَحْطِمَكُمُ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ حتَّى إذَا صَلَّى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلَاةَ الفَجْرِ آذَنَ بتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا، وكانَ إذَا اسْتَبْشَرَ اسْتَنَارَ وجْهُهُ، حتَّى كَأنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ القَمَرِ، وكُنَّا أيُّها الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنِ الأمْرِ الذي قُبِلَ مِن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا، حِينَ أنْزَلَ اللَّهُ لَنَا التَّوْبَةَ، فَلَمَّا ذُكِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ المُتَخَلِّفِينَ واعْتَذَرُوا بالبَاطِلِ، ذُكِرُوا بشَرِّ ما ذُكِرَ به أحَدٌ، قالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {يَعْتَذِرُونَ إلَيْكُمْ إذَا رَجَعْتُمْ إليهِم، قُلْ: لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِن أخْبَارِكُمْ، وسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسولُهُ} الآيَةَ” (البخاري).
ولما دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ علَى رَسولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا ببَابِهِ، لَمْ يُؤْذَنْ لأَحَدٍ منهمْ، قالَ: فَأُذِنَ لأَبِي بَكْرٍ، فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ له، فَوَجَدَ النَّبيَّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا سَاكِتًا، قالَ: فَقالَ: لأَقُولَنَّ شيئًا أُضْحِكُ النَّبيَّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، لو رَأَيْتَ بنْتَ خَارِجَةَ، سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ، فَقُمْتُ إلَيْهَا، فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، وَقالَ: هُنَّ حَوْلِي كما تَرَى، يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، فَقَامَ عُمَرُ إلى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُما يقولُ: تَسْأَلْنَ رَسولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- ما ليسَ عِنْدَهُ؟! فَقُلْنَ: وَاللَّهِ لا نَسْأَلُ رَسولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- شيئًا أَبَدًا ليْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا، أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عليه هذِه الآيَةُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} حتَّى بَلَغَ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29].
قالَ: فَبَدَأَ بعَائِشَةَ، فَقالَ: يا عَائِشَةُ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لا تَعْجَلِي فيه حتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ، قالَتْ: وَما هو يا رَسولَ اللهِ؟ فَتَلَا عَلَيْهَا الآيَةَ، قالَتْ: أَفِيكَ -يا رَسولَ اللهِ- أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ؟! بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسولَهُ، وَالدَّارَ الآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِن نِسَائِكَ بالَّذِي قُلتُ، قالَ: لا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ منهنَّ إلَّا أَخْبَرْتُهَا، إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا” (مسلم).
فوائد التشاور العائلي
والالتزام بمبدأ تربية الأسرة على الشورى واحترام الآراء، يعود عليها بالنفع الكبير؛ ومن أهم الفوائد التي تعود على الأسرة جراء ذلك الأمر:
- تتحوّل الأسرة من مجرّد تجمّع كمِّي إلى مكان يتبادل فيه الجميع الخبرات والتصوّرات والآراء.
- تعمل جلسات الشُّورى العائلية على تعزيز الشعور بالانتماء الأسري لدى الزوجة والأبناء، سيما مع لفت انتباههم إلى أنّ هذه المجالس أمانة، أي أنّ أسرارها يجب أن لا تتسرّب إلى الخارج، لأنّ ما يدور فيها هو شؤون الأسرة الخاصة وليس من الأمانة نقلها أبدًا.
- وتطبيق مبادئ الشورى في الأسرة يجعلها أقرب للحق وأبعد عن الخطأ.
- تُحقّق المشورة قدرًا لا بأس به من الشعور بالمسؤولية الجماعية التضامنية، حيث ستكون عملية توزيع المهام والتكاليف وتقسيم الأعمال والوظائف مهمّة سهلة ومقبولة من الجميع الذين يشعرون أنّ الفرص تتكافأ أمامهم.
- ما يجري من حوار ونقاش واحترام للرأي وللرأي الآخر، هو عملية إعداد وتأهيل للمستقبل الذي سيخرج أبناء وبنات هذا البيت الذي يعتمد أسلوب الحوار ليواجهوا الحياة بثقة أكبر، وسيتعلّمون كيف يُخطِّطون، وكيف يواجهون مشاكلهم، بل ويمتدّ أثرها إلى مستقبل تربيتهم لأبنائهم.
- من شأن هذه المجالس التي تقام على المشورة أن تذوِّب الفواصل والاحتكاكات والغيبة والاتهامات، بل وتعكس الصورة إلى التوافق والانسجام والتجانس بما توفِّره من أجواء التدريب على النقد الذاتي والاجتماعي.
- والمشورة باب من أبواب الالتزام بمنهج الله عز وجل- ومنهج النبي- صلى الله عليه وسلم-.
- توفر المشورة القدرة على الحوار وتقبل الآخرين: فكثير من الأولاد والنساء إذا جلسوا مجلساً لا يستطيعون إبداء آراءهم لأنهم لم يتعودوا هذا في بيوتهم، وكثير منهم لا يتقبلون الآخرين لأنهم لم يتعودوا هذا في بيوتهم أيضا.. وهذا خطير على نشأة الأولاد.
- تفتق المواهب: فعملية التفكير صعبة ولكن عندما يسأل الإنسان يبدأ بجمع الخيوط تماما لينسج حلاً وربما يكون حلا متميزا.
إذن، الحياة الأسرية لا بُد أن تقوم على أساس من التشاور والتراضي منذ بداية تكوينها؛ ولهذا يرفض الشرع أن يستبدَّ الأب بتزويج ابنته دون أن يأخذ برأيها، وبعد بناء الأسرة ينبغي أن يستمر التفاهم والتشاور بين الزوجين وبينهما وبين أبنائهما، فكم من امرأة كان رأيها خيرًا وبركة على أهلها، وكذلك الأبناء.
المصادر والمراجع:
- د. يوسف القرضاوي: مركز المرأة في الحياة الإسلامية، ص 85، نقلًا عن معالم السنن للإمام الخطّابي.
- م. عبد اللطيف البريجاوي: إشاعة ثقافة الشورى في الأسرة.
- ابن كثير: تفسير ابن كثير، 1/635.
- الصالحي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، ص 52.
- الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 9/368.